قال لي صاحبي وأنا أودعه مسافرًا إلى مراكش: "تذهب إلى قيسارية (بوكار)، وتسأل عن عَسَّال اسمه ميمون، وتحضر لي من عنده ما كنت أوصيتُه عليه، ألا وهو سلة من نبات الدَّغْمُوس الأخضر، وعلبة من عسل الزعتر، وأخرى من عسل الدَّغْمُوس"! وأضاف: "وإذا كان في وزن حقيبتك متسع، فزدني علبةً من العسل البري .. ولكن إياك أن تعود بدون نبات الدَّغْمُوس، سواء أكان لديك متسع من الوزن المسموح به في السفر بالطائرة، أم لم يكن"! قلت له: "العسل والزعتر والبري عرفته، فما الدَّغْمُوس يا ترى"؟ ثم فهمت منه أنه نبات بري يشبه شوك الصبّار، وأن فائدته الطبية عظيمة. ولما كان صاحبي هذا شخص طبيعي يتداوى بالأعشاب أكثر من تداويه بالدواء الصناعي، فإني لم أشأ أن أسأله عن مفعول الدَّغْمُوس الطبي كي لا أحرجه وأجعله يتحدث فيما لا يرغب أن يتحدث فيه من علل يحتاج في معالجتها إلى الدغموس! وفي مراكش، أوصلني زميل كريم إلى قيسارية بوكار، وما أن دخلناها حتى وجدنا محل عسل كبيرًا، وسألنا عن ميمون، فإذا بشخص يهش ويبش لنا ويقول: "أبشروا، أنا هو". واستنتجت من إكرامه لي ولزميلي بأنه بينه وبين صاحبي الذي أوصاني علاقة أخوية متينة! وبما أني خبير في العسل وأستطيع بشمة واحدة أو لحسة واحدة أن أسبر غور العسل المعروض وبالتالي أن أقرر فيما إذا كان العسل مغشوشًا – كالعادة في دنيا العرب! – أم لا، فجعلت أذوق من هذا العسل ومن ذاك حتى تشابه العسل علي، واختلط، ذلك أن في دكان العسّال ميمون عشرات الأنواع من العسل. ووصلنا إلى عسل الدغموس، فكان لونه أشقر، وطعمُه حارًا جدًا، وكان مذاقه مذاق العسل الطبيعي الحر المخلوط بفلفل حار! فجعلت أدردش مع العسّال ميمون وقلت له: "عسل الدغموس هذا حار يحرق الفم". وبما أني لم أسمع قبل هذه النازلة بالدغموس ولا بعسله، فصرت أكثر من الأسئلة عن الدغموس وفوائده، والعسّال يبتسم بمكر ظاهر على وجهه. ثم لاحظت حركات غريبة مريبة على وجه زميلي الكريم، مشفوعة بابتسامة لا تقل مكرًا عن ابتسامة العسَّال ميمون، فقررت تغيير الحديث من عسل الدغموس إلى عسل الزعتر، وجعلت أحاضر على البائع في أهمية الزعتر، ومكانته الجليلة في موائد فطور أهل الشام، وهو يبدي لي اهتمامًا مصطنعًا! ثم أخذت الدغموس والعسل الذي أوصاني بهما صاحبي، وعدت إلى الفندق. وفي اليوم قررت العودة إلى دكان ذلك العسّال، وشراء كمية من العسل لي، ذلك أن العسل الذي تذوقته كان طبيعيًا، فاستنتجت أن ذلك العسال ممن يخاف الله ولا يغش في عالم جبل معظم أهله على الغش! بل إنه استبرأ لدينه عندما سألته جادًا عن العسل فقال لي: "نصنع العسل في مزارعنا بأنفسنا ولا نبيع الناس إلا ما نصنع بأيدينا كي لا نقع في الوزر". وفي الفندق زارني طالب دكتوراه ظريف، وتجاذبنا أطراف الحديث، فعرّجتُ بالحديث عن الدغموس، وجعلت أستنطقه عن مفعوله، لأن شكًا ما بدأ يراودني نتيجة لابتسامات العسّال والزميل الكريم المريبة، فقال لي: "أحقًّا لا تعرف فوائد الدغموس يا أستاذ"! إنه فياجرا الصحراء، بل هو أمضى من حبة الرغبة الزرقاء مفعولاً، وأقل ضررًا منها، لأنه طبيعي! وأردف ناصحًا لي: "خذ ملعقة كبيرة منه في الصباح، على الريق، وسخّنها قليلاً، ثم العقها، وتوكل على الله"!!! وفي بلجيكا كانت لي مع صاحبي الذي طلب مني إحضار الدغموس مقامة عظيمة، ضحكنا في أثنائها ما شاء الله لنا أن نضحك، علمت بعدها أن الدغموس من أفضل ما خلق الله من دواء لمن يعانون من مشاكل في الكلى، فيطبخونه ويشربون ماءه على الريق، فيطهّر لهم الكلى بإذن الله، ويخفف من آلامهم، وأن صاحبي إنما أراده لهذه الغاية. ثم علمت أيضًا من عمِّ أحد إخواني أنه يتداوى بالدغموس منذ أكثر من عقد لعلاج مرضٍ عضالٍ كان أصاب أمعاءه، وأنه برئ به منه والحمد لله.