شهد المغرب في السنوات الماضية إطلاق مشاريع تنموية كبيرة ذات أثر بالغ وبتكلفة مالية تقدر بملايير الدراهم، تعاضدت فيه مساهمات الدولة ودول وشركاء أجانب، وتنوعت مجالاتها ما بين البنية التحتية الطرقية والطاقة الشمسية وتقوية بنيات التصدير والأعمال. من بين هذه المشاريع نجد مشروع "نور" للطاقة الشمسية بورزازات، وهو أكبر مركب للطاقة الشمسية في العالم، إلى جانب ميناء "طنجة ميد" أكبر ميناء تصديري في البلاد، ثم "قطار البراق" السريع الذي يربط طنجة بالدار البيضاء، وصولاً إلى "برج محمد السادس" الذي سيجعل ضفة سلا تحتضن أعل مبنى في القارة الإفريقية. في هذا المقال، سنتطرق للقطار الفائق السرعة "البراق"، وهو مشروع تظافرت فيه جهود الدولة مع منح وقروض دولية ضخمة لتوفر للبلاد أسرع قطار في القارة الإفريقية. لم يعد البُراق في المغرب اسماً من التراث الإسلامي يحكي رحلة الإسراء والمعراج، بل أصبح أمراً واقعاً.. هو قطار سريع يسري بالمغاربة يومياً بين مدينتي طنجة والدار البيضاء بسرعة تصل إلى 320 كيلومتراً في الساعة. وإذا كان إطلاق اسم البُراق أمراً لافتاً قبيل إعطاء الانطلاقة للقطار فائق السرعة نهاية السنة الماضية، إلا أن التسمية أصبحت اليوم معتادة، بل وكان الفضل لهذا البراق في جعل مواقيت قطارات المملكة مضبوطة. فتح البراق مرحلة جديدة للنقل السككي وصالح المغاربة مع قطارات كانت ميزتها التأخر، وباتت بفضل إسرائه ومعراجه وجهة طنجة أسهل من ذي قبل تتيح ربح الوقت والراحة وبأسعار في المتناول ومتفيرة حسب الأيام. ويرجع الإعلان مشروع القطار فائق السرعة إلى سنوات مضت، وقد لقي حينها انتقادات كبيرة ونظمت بسببه احتجاجات تدعو لتخصيص أمواله لتحسين البنية التحتية في المناطق الأكثر هشاشة. مشروع كهذا غير مسبوق في تاريخ المملكة، فقد تطلب سنوات من العمل والدراسة والاستعداد منذ عام 2007 حين بدأ بتوقيع اتفاقية مذكرة تفاهم بين المغرب وفرنسا من أجل وضع وإنجاز واستغلال وصيانة مشروع الخطط السككي فائق السرعة. وفي نظر المكتب الوطني للسكك الحديدية، فإن مشروع قطار البراق هو ملحمة غير مسبوقة في تاريخ المغرب وإفريقيا لأنه كان بمثابة تحدي كبير على المستويين التكنولوجي والاقتصادي، كما أنه إنجاز صناعي وتقني كبير. والدليل على هذه "الملحمة" ما تطلبه من تحرير للوعاء العقاري من قبل خبراء قانونيين وطبوغرافيين سهروا على تحرير 1800 هكتار على مدى ست سنوات، كما تطلب أيضاً خبرة عالية من الهندسة المدنية خصوصاً لمعالجة المناطق القابلة للضغط والمنحدرات غير المستقرة والأراضي المعرضة للفيضانات والمواد القابلة للتفتيت. ونجاح هذه الملحمة كان يتطلب استثماراً ضخماً، فالغلاف المالي لهذا القطار ناهز 22,9 مليار درهم، ساهمت فيه الدولة وصندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بحصة 6,5 مليارات درهم، أي بنسبة 30 في المائة، أما الدولة الفرنسية فأنفقت 11,5 مليار درهم ما يمثل 50 في المائة، من بينها 825 مليون درهم على شكل هبة، و7,5 مليارات درهم كقرض من الخزينة الفرنسية، و3,2 مليار درهم كقرض من الوكالة الفرنسية للتنمية. وكان لعدد من الدول العربية مساهمة في هذا الصدد، بلغت 4.9 مليار درهم من بينها 1,5 مليار درهم من الصندوق السعودي للتنمية، و1,1 مليار درهم من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، و1,1 مليار درهم من صندوق أبو ظبي للتنمية، و1,1 مليار درهم من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي. لكن المفاجئة التي خلقها البراق إثر انطلاقه التجاري كان على مستوى تعريفة تذاكره، فقد كانت صدمة جميلة للمغاربة ولم يصدقوه في الأول، لكن مع الاستعمال أصبح التنقل في قطار فخم وسريع في متناول الجميع، لكون أسعاره تتراوح ما بين 79 درهماً وتصل إلى 364 درهماً عكس ما يروج قبل انطلاقه. وقد نال البراق في الأشهر الأولى من انطلاقه إقبالاً كبيراً، وصل إلى مليون مسافر في نهاية أبريل المنصرم، ومن المتوقع أن يصل العدد الإجمالي خلال السنة الجارية إلى أربعة ملايين، و5 ملايين سنة 2020، و6 ملايين سنة 2023، و6.5 ملايين سنة 2025. ويبقى البراق من أبرز المشاريع المنجزة في المغرب في السنوات الأخيرة، ومنافعه كثيرة خصوصاً من الجانب الاقتصادي بالنسبة لمدينتي الدارالبيضاء مروراً بالقنيطرة والرباط، كما يساهم في تموقع المغرب ضمن البلدان ذات البينة التحتية المتطورة الجاذبة على الاستثمار. جميل أن يكون لدينا مثل هذا البراق، لكن الأجمل أيضاً أن يتم تأهيل مختلف الخطوط السككية الأخرى لتصل إلى مستواه، فلا تزال بعض خصوصاً نحو الشرق تعرف ضعفاً في الخدمات، كما أن هناك حاجة لبذل جهد أكبر لشق الطرق السريعة في مختلف جهات المغرب لكي يتحقق الإنصاف في البنيات التحتية ويسهل التنقل في مختلف ربوع البلاد. صحيح أن الاستثمار في قطار فائق السرعة بين قطبين اقتصاديين، طنجة والدار البيضاء، سيكون مربحاً ومدراً للأرباح فيما بعد، لكن ذلك لا يمنع من توزيع عادل للاستثمار على مختلف الجهات لإحقاق العدالة وتوفير الشروط الضرورية لمختلف المواطنين لحياة كريمة.