تاوريرت .. الكدية والتاريخ العريق .. أفادت المصادر التي سبقت الفترة المرينية، أي قبل تأسيس قلعة تاوريرت خصوصا تلك التي جاءت على لسان الرحالة الجغرافيين، كابن حوقل وأبي عبيد الله البكري والشريف الإدريسي … أن تاوريرت كانت مركزاً تجارياً مهما في طرق تجارة القوافل الصحراوية، وأكد “فوانو“ على لسان مارمول كربخال، أنها كانت من المدن المهمة في المغرب قبل الفترة المرينية، مما يدل على أهمية المدينة من جهة وأقدميتها من جهة أخرى. وتاوريرت مدينة قديمة بناها الأفارقة على تل مرتفع قرب نهر “زاع” (صاع أو زا أو صا)، تحيط بها أراضي زراعية معاشية، تحدها صحراء جافة، منها صحراء كرط شمالا، وصحراء الظهرة جنوبا، وصحراء أنكاد شرقا، حيث تحادي هناك مملكة تلمسان، وصحراء تافراطة غربا والتي تطل على “تازا“. ويبقى بناء مدينة تاوريرت من طرف الأفارقة ذا أهمية بالغة للدلالة على أقدمية المدينة. وفي غياب أي حقائق عن نشأة مدينة تاوريرت قبل العهد المريني، لابد من التسليم بقدمها، وبأن بناءها يعود للأفارقة خلال الفترة التاريخية المذكورة، إذ كان شرق المغرب تحت إمرة آل خزر، ثم الملكة الزناتية ديهيا زعيمة جراوا، وبعدها ولاة القيروان وبني سليمان بن عبد الله الكامل من دولة الأدارسة، ثم لبني أبي عافية، ثم لزيري بن عطية ثم للمرابطين. غير أنه لابد من الإشارة إلى أن تاوريرت كانت تابعة لإمارة نكور التي أسسها صالح بن منصور في الريف الشرقي على عهد الأمويين، إذ امتد نفوذ الإمارة من الناحية السياسية والإدارية إلى واد زا، حيث كان قاسم الوسياني رئيس قبيلة مرنيسة والي نكور على تاوريرت آنذاك، وساهم مساهمة فعالة في النزاع الذي دارت رحاه بين ذوي صالح بن منصور على العرش، فكان الساعد الأيمن لصالح وأحد أنصاره المقربين وعامله على صاع والكدية، وألح عليه في قتل أخيه إدريس الثائر ضده عندما تم القبض عليه حتى يقضي على الفتنة، واستجاب صالح وأمر بقتل أخيه، وبهذا تكون تاوريرت جزء من الصراع السياسي الدائر آنذاك بين عدد من القوى، بحيث كانت تعيش تحت نفوذ موسى بن أبي عافية الذي غزى نكور سنة 317ه/897م وخرب أسوارها. وللإشارة فإن نهر ملوية ظل موطن قبيلة مكناسة قريبا من واد زا. أما في عهد المرابطين فلابد من الإقرار أنه لا نتوفر على معطيات عن مدينة تاوريرت خلال هذه الحقبة التاريخية وصولا إلى العهد الموحدي، حيث تم تسجيل حدث مهم هو أن زعيم دولة الموحدين المهدي بن تومرت نزل بتاوريرت في طريق عودته من المشرق عبر وجدة حيث كان يدعو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر هذه الرواية البيدق الذي كان يرافقه في رحلته، إذ يروي أن المهدي استنكر حال النساء المزينات بالحلي وهن يبعن اللبن فنهاهن عن ذلك ثم تابع طريقه نحو أجرسيف، لكن عندما تحولت الدعوة الموحدية لما هو سياسي تعرضت تاوريرت للتخريب من قبل المصامدة. أما على العهد المريني فحظيت تاوريرت بكبير الاهتمام من طرف المؤرخين أمثال عبد الرحمن بن خلدون وابن أبي زرع، اللذين كشفا عن عدد من الخبايا من تاريخ تاوريرت، منها أن واد زا كان بمثابة حد فاصل بين مملكتي فاس المرينية وتلمسان الزيانية، الشيء الذي بوأها ذلك الموقع الاستراتيجي وجعل منها محط نزاع بين عامل السلطان أبي يعقوب وفي جانبها الآخر عامل عثمان بن يغمراسن، ليستمر الصراع بين المملكتين لتصبح تاوريرت ضحية هذه الغارات، من هذا الطرف أو ذاك، من أجل السيطرة على مناطق نفوذ بالمغربين الأوسط والأقصى. هكذا تمكن السلطان أبو يعقوب يوسف من طرد عامل عثمان بن يغمراسن من تاوريرت ودمرها وبنى الحصن الذي هناك إلى الآن، وأحكم بناءه ووضع له أبوابا من الحديد لصد أي تهديد زياني مرتقب بالمنطقة، أما عامل عثمان بن يغمراسن المطرود، فانسحب شرقا ناحية وجدة واتخذ من الرﯕادة مقرا جديدا لحكمه، حيث أعاد ترتيب قواته ونال الدعم من تلمسان ليغير على بني مرين وينتقم من عثمان بن يغمراسن. ولعل الحسن الوزان، المعروف بليون الإفريقي، أفضل من تناول بالتفصيل الصراع المريني الزياني حول تاوريرت خصوصا بعد أن استولى بنو مرين على مملكة الغرب، فأضحت رغبة المرينيين أكثر تشبثا بضم تاوريرت إلى مملكتهم، فاحتلوها ودمروا الجزء الذي يسكنه أعداؤهم، لكن وأمام انشغالهم بحروب مراكش وكل الحوادث التي كانت تحوف بدولتهم انصرف تفكيرهم عن مدينة تاوريرت، فاستغل الزيانيون الفرصة للإغارة عليها وخربوها، وما كاد يعقوب المريني يستولي على مراكش حتى سارع إلى تاوريرت واستردها، وهكذا استبدلت تاوريرت رؤساءها عشر مرات في ظرف خمسين سنة، بين مملكتي فاسوتلمسان، إلى أن لحق بها الدمار وهجرها ما تبقى من ساكنتها خلال هجوم أحد ملوك بني مرين، الملك المدعو أحمد المستقر بفاس سنة 780ه، فأقطعوها لأحد رؤساء الأعراب، وبعدها هجروها في اتجاه ندرومة التابعة لملك تلمسان، كل هذا يؤكد على أهمية ثغر تاوريرت عند ملوك بني مرين، ومنهم أبو سعيد عثمان الذي أعاد بناء قصبتها سنة 721ه/1301م وعززها بعدد من الجنود الرماة لمواجهة الزحف الزياني، ثم السلطان أبو الحسن المريني الذي استقر بتاوريرت عندما ثار ضد أخيه واتخذ من منطقتي تافراطة وواد زا خلفية عسكرية لصد أي هجوم مباغت من طرف الزيانيين مستغلين خلافه مع أخيه. واستمر إشعاع تاوريرت ومكانتها حيث عمد السلطان أبو يوسف إلى اتخاذ تاوريرت قاعدة لملكه رغم إعادة بنائه لوجدة واستقراره بفاس. هذا وقد اكتسبت تاوريرت أهمية بالغة جعلت السلطان أبو يعقوب يوسف يولي أخاه أبو بكر بن يحيى عليها، ثم من بعده في عهد المرابطين تولى محمد عثمان بن تاشفين عليها سنة 761ه،/1359م، حدث هذا بعد أن سبق لبني عبد الواد الاستيلاء على تاوريرت بعد رفع الحصار عن تلمسان والذي دام 8 سنوات انتهى باغتيال السلطان المريني أبو يعقوب سنة 705ه وتراجع السلطان أبو سعيد إلى تازا ليسترجع حصن تاوريرت بعد مدة ويأمر بترميمه وتقويته بالخيل والرجال. ويتحدث الشريف الإدريسي عن واد ملوية الذي يجتمع بواد صاع ليصبا في البحر الأبيض المتوسط، ثم عن مدينة صغيرة هناك، خربها المصاميد، وهو بذلك يقصد مدينة تاوريرت، ثم يمر إلى تلمسان دون الوقوف عند بلاد الريف، وحديثه يتكرر بالنسبة لكل المناطق التي يمر بها من حيث وصف المدن وأسواقها وحماماتها ومنتوجاتها من قمح وشعير وفواكه، ثم يعود ليتحدث في عجالة عن الريف الشرقي وعن أهم مراكزه مليلة ومرسى كرط، فمدينة مليلة تتصل بتاوريرت وأقرسيف (أجرسيف)، ومن الجهة الشرقية لواد كرط يأتي نهر من صاع وكرط يدخل في جوف البحر(لعله يقصد واد ملوية)، ويحيط بمليلة قبائل أمازيغية من بطون بطوية، وكرط يدخل ضمن محيط ملوية، أما الطريق من مليلة إلى تاوريرت فهي حتما تمر بكرط. ويرد واد صا تحت إسم آخر، هو واد الشلف قبل أن يصبح واد صا. وقد نزل المولى إسماعيل السلطان العلوي بصا حين كان يهم بحرب الأتراك سنة 1089م. تاوريرت نهاية القرن 19م أما شارل دو فوكو، الذي زار قصبة المولى اسماعيل بتاوريرت سنة 1883م، المرينية في الأصل، فلم يستطع مداراة إعجابه بها، فذكر موعد السوق الأسبوعي بتاوريرت كل إثنين عند دار الشاوي، نسبة للقايد الشاوي قائد جماعة لكرارمة، ويسمى “إثنين واد زا أو إثنين لكرارمة“، وهو سوق كبير يعرف رواجا بسبب إقبال قبائل الضفة اليسرى لواد ملوية السفلى، لأن فيضان نهر ملوية كان يحول في كثير من الأحيان دون ذلك، فيرتفع صبيب ملوية خلال الفترة الممتدة ما بين منتصف أبريل إلى منتصف يونيو، فيستحيل عبور النهر. أما القصبة الإسماعيلية فكانت تحت سيطرة جماعة لكرارمة العربية، وتشكل ضفتا واد زا (بلاد زا)، مجالا أخضرا حيث الزراعات والحقول، وبالتالي التجمعات السكنية التي هي عبارة عن دواوير تتشكل من عدة خيام منتشرة هنا وهناك، وعلى نهر زا تقوم قصبة السلطان المولى إسماعيل وسط خضرة البساتين، أسوارها ذات لون وردي تحوف بها الأشجار المثمرة من تين وزيتون ورمان، والمجاري المائية في كل اتجاه، هذه القصبة تحمل أيضا إسم تاوريرت، تنتصب وسط ربوة حيث تتسع تدريجيا مشكلة سهلا صغيرا تتخلله عدة منحدرات ومصارف للمياه. نشير أن الباحث الفرنسي شار دو فوكو يذكر 20 موضعا بالمغرب الأقصى، يحمل إسم تاوريرت، وهو إسم مكان، بالغة الزناتية، يعني الكدية أو التلة. وقد أتيحت ل دو فوكو زيارة تاوريرت ودبدو، وحل بقصبتها التاريخية، المرينية الإسماعيلية، ووصف ما كانت تزخر به من خضرة وماء .. ذكر شارل دو فوكو تاوريرت في 20 موضعا هي: 1- تاوررت حوض واد سوس(عبارة عن دوار ضمن مجموعة من الدواوير يحتلها أولاد يحيى على الضفة اليسرى لواد سوس إلى غاية تارودانت)(ص331) 2- تاوريرت أيت يحيى، واد دادس، القريبة من أزدك حيث يوجد صرح آيث بوعمران على واد درعة(ص216) 3- تاوريرت عقا(ص120) 4- تاوريرت إيميني، من دواوير واد إيميني (ص279) 5- تاوريرت مطرارا على الضفة اليسرى لواد زيز (ص352) 6- تاوريرت واد منصور، من بين الدواوير التي يسقسها واد منصور(ص325) 7- تاوريرت واد زا، وهي المدينة التاريخية التي تقع على واد زا وقد ارتبطت به (ص230) 8- تاوريرت ورزازات (ص280) 9- تاوريرت سكتانا، تتشكل ساكنة حوض سوس إلى واد درعة من قبيلتية كبيرتين هما جزولة وسكتانة فتتفرع عنهما عدة دواوير منها تاوريرت التي تنتمي لسكتانة (ص328) 10- تاوريرت تازناخت، يعرف واد تازناخت أيضا تحت إسم واد آيث أوزانيف وهو يخترق عدة دواوير منها تاوريرت (ص281) 11- تاوريرت تودغا، أي قصر تاوريرت الذي يوجد على واد تودغا (ص220) 12- تاوريرت زكموزن، وهو دوار ضمن مجموعة من الدواوير قبيلة سميك يخترقها واد زجموزن المعروف أيضا باسم واد آيث أوبيال أو آيث عثمان (ص327) 13- تاوريرت إيبوساس تقع ضمن بلاد مزكيتا وهي منطقة تضم ضفاف واد درعة، فتاوريرت تقع على الضفة اليسرى لواد إيبوساس (ص287) 14- تاوريرت ن إيمكيرن (colline des brigands) بين تيزي نتالوات وآيث بادو (ص86) 15- تاوريرت إيزكماسن من قصور دادس على ضفة واد درعة (ص270) 16- تاوريرت إيمرابظن، عبارة عن دوار ضمن مجموعة من الدواوير على ضفة واد سوس (ص334) 17- تاوريرت، أوسليمان بشتوكا (ص182) 18- تاوريرت ن وزناك، وهي قصر من جملة القصور الواقعة على ضفة واد تليت أحد روافد واد زديك (ص302) 19- تاوريرت ن تيليس، عند واد تيمكيسين (ص302) 20- أربعاء تاوريرت القريبة من مدينة الحسيمة والتي لم يرد ذكرها عند شارل دوفوكو وعليه، ارتأينا، وفق منهجية خاصة، تقديم تاوريرت على هذا النحو، لمقارنة وضعها الحالي بما كانت عليه من ازدهار في الماضي، وكذا ما تكتسيه من أهمية تاريخية. لكن يبدو أن حظها ظل متعثرا خلال القرون الماضية، إذ ظلت عرضة للصراعات والمنافسة التي أدت إلى تخريبها لمرات عدة، بلغت تهجير ساكنتها، وبالتالي القضاء على عمرانها. وهي التي حظيت بدور الممر التجاري عبر العصور، والموقع العسكري الفاصل بين مملكتي تلمسانوفاس، وهو الدور الذي سوف تحظى به إبان الفترة الاستعمارية، حيث ستنتبه القيادة العسكرية الفرنسية لأهمية تاوريرت كمركز وقاعدة لإقامة مراكز مراقبة المقاومة المسلحة ضد الحماية الفرنسية، ولاشك أن إقامة أبراج الاتصال اللاسلكي من بين الدلائل على هذه الأهمية العسكرية، ثم كونها تقع على الخط الفاصل بين مجال الأراضي التي تحتلها فرنسا والتراب الذي تحتله إسبانيا، بحيث ظلت فرنسا تجد نفسها مرغمة على خوض معارك شرسة إلى جانب إسبانيا ضد المقاومة المسلة بالريف الشرقي، حيث أشرف الجنيرال ليوطي على العديد من هذه المعارك، خاصة بمركز مول الباشا ... (يتبع)