من المشروع جدا أن يتساءل الرأي العام حول الانعكاسات المترتبة عن انتخاب المغرب الإثنين الماضي على رأس لجنة الإعلام التابعة للأمم المتحدة، ممثلا بشخص السفير عمر هلال، الممثل الدائم للمملكة لدى الأممالمتحدة، على واقع حرية التعبير ورئتها التي تتنفس بواسطتها، أي الصحافة والإعلام، وكذا السبل الكفيلة باستشراف المستقبل، في ظل الثورة الرقمية التي فتحت المجال لتواصل يزداد اتساعا وانتشارا يوما بعد يوم. ويتزامن هذا الحدث الإعلامي الأممي مع تخليد المنتظم الدولي لليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يصادف الثالث من ماي من كل سنة، وهي المناسبة التي تستغلها دول المعمور لتقييم مدى التقدم الحاصل في ميدان الصحافة والإعلام والمكاسب والمنجزات التي تم تحقيقها والتعثرات الحاصلة، عبر نقاش عمومي تساهم فيه كل الأطراف المعنية. إلا أنه مع التحولات العالمية، دخلت المنظمات الدولية المهنية بدورها على خط عمليات التقييم هاته، والتي أصبح يحسب لتقاريرها ألف حساب، والتي تستند فيها على مؤشرات لتشريح وضعية حرية صاحبة الجلالة. كما تعودت العديد من البلدان أن تستغل مناسبة تخليد اليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي ينعقد هذه السنة تحت شعار "الإعلام من أجل الديمقراطية الصحافة والانتخابات في ظل التضليل الإعلامي"، كفرصة سانحة لتقييم أوضاعها الصحافية، والعمل على حماية وسائل الإعلام من كل أنواع الاعتداءات والانتهاكات والمضايقات التي تطال الصحافة والصحافيين وصيانة استقلالية وسائل الإعلام. وإذا كان ممثل المغرب في الأممالمتحدة قد شدد، في كلمة افتتاح أشغال الدورة ال41 للجنة بنيويورك، على أن "ثمة حاجة ماسة إلى معلومات موثوقة ومحايدة وموضوعية"، وذلك "في زمن العولمة الذي شهد فيه حقل الإعلام تطورا غير مسبوق"، فإن السيدة أودرى أزولاي، المديرة العامة لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( اليونيسكو) أكدت في كلمة بباريس، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، بدورها، على أن حرية الصحافة تعتبر الركن الأساسي للمجتمعات الديمقراطية، إذ لا بد من ضمان حرية الرأي عن طريق التبادل الحر للأفكار والمعلومات القائمة على بيانات ووقائع حقيقية، في زمن تعلو وتشتد فيه نبرة الخطاب القائم على إساءة الظن بالصحافة وبالعمل الصحفي، بهدف نزع الشرعية عنهما. وتوقع السيد هلال، رئيس اللجنة التي تشرف على عمل إدارة التواصل العالمي، وذلك عن طريق تقديم المشورة بشأن السياسات والبرامج والأنشطة التي تضطلع بها الإدارة، أن تقدم الأممالمتحدة، في ظل ولايته التي تستغرق سنتين، "خدمة إعلامية نموذجية بشأن قضايا هامة وذات حساسية"؛ وذلك عبر تعزيز الجهود التحسيسية الداعمة لحوار الحضارات ومكافحة الإرهاب والتطرف العنيف وخطاب الكراهية والقضايا الإنسانية والهجرة، في وقت "يتميز عالمنا الحالي بالغليان السياسي على جميع أنواع الاستغلال، وتقترن بممارسات ترمى إلى عرقلة العمل الصحافي والحيلولة دون اضطلاع الصحفيين بمهامهم بحرية"، تضيف مديرة اليونيسكو. وتتعلق هذه الممارسات بالخصوص بالتحرش بالصحافيين ومضايقتهم وتوقيفهم توقيفا تعسفيا، ويصل الأمر حد تصفيتهم جسديا، وهو ما جعل السيدة أزولاي تعتبر في هذا الصدد أن الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين يشكل تهديدا لكل المجتمعات، ويفرض توخي الحيطة والحذر في جميع الحالات والأوقات، ويتطلب العمل معا من أجل الدفاع عن حرية التعبير وحماية الصحافيين وضمان سلامتهم. وخلصت مديرة اليونسكو إلى القول إنه "لا يمكن أن يصلح أمر أي ديمقراطية بدون وجود وسائل إعلام حرة تعددية ومستقلة"، لكون الصحافة المستقلة تمكن من إطلاع المواطنين على الوقائع الحقيقية وتشكيل آرائهم، علاوة على أن ضمان حرية الصحافة يمكن من وجود مجتمعات تسودها الشفافية وتنوع الآراء، معربة عن اعتقادها الراسخ بأن حرية الصحافة والحق في الحصول على المعلومات يعدان ركنيين أساسين لأي مجتمع ديمقراطي. غير أن هذين الحدثين الهامين يتزامنان في المقابل مع التقرير الأخير ل"مراسلون بلا حدود"، الذي صنف المغرب في المرتبة 135 عالميا من أصل 180 دولة شملها تصنيف هذه المنظمة الدولية المتعلق بحرية الصحافة برسم سنة 2019، ما جعل المغرب يحافظ على نفس المرتبة التي صنف فيها العام ما قبل الماضي، مع إشارة المنظمة إلى تدهور وضعه بواقع 0.85 نقطة في المؤشر الذي تقيس به مستوى حرية الصحافة في دول العالم. وسجلت هذه المنظمة، التي تصدر منذ 2002 تقارير حول وضعية حرية الصحافة في العالم، أن الوضعية بالمغرب سنة 2018 "تميزت بضغوط قضائية شديدة على الصحافيين"، فضلا عما أسمته "عرقلة عمل وسائل الإعلام الوطنيّة والأجنبية التي عملت على ملف حراك الريف أو ملف الهجرة"، علاوة على "رفع دعاوى ضدّ صحفيين مواطنين وصحفيين محترفين عدد منهم يوجدون حاليا رهن الاعتقال، وصدرت في حقهم أحكام بالسجن وبغرامات مالية، مع طرد عدد من الصحافيين الأجانب". إلا أن وزارة الثقافة والاتصال بادرت مباشرة بعد صدور تقرير "مراسلون بلا حدود" إلى التأكيد على أن تقرير هذه المنظمة "سجل إخلالا جديدا بقواعد الموضوعية، وغيابا لمعايير الدقة والنزاهة"، فضلا عن تعمد التغاضي "عن الإقرار بأجواء الحرية غير المسبوقة والانفتاح والتعددية التي تنعم بها صفحات الجرائد والمنابر الإعلامية". وبعدما عبرت الوزارة عن استنكارها ما وصفه تقرير مراسلون بلا حدود ب"ضغط قضائي قوي على الصحافيين ورفع دعاوى قضائية عديدة استهدفت الصحافيين المهنيين، كما شملت فئة المواطن الصحافي"، انتقدت ما أورده من "زعم أن السلطات أعاقت عمدا عمل وسائل الإعلام الوطنية والأجنبية، مع إقحامه قضايا الهجرة في الحكم على حرية الصحافة". والمغرب ليس الوحيد الذي عرف تراجعا في منسوب حرية الصحافة، حسب "مراسلون بلا حدود"، بل إن هذا التراجع هم عددا من الدول، إذ إن 24 في المائة فقط من 180 بلداً ومنطقة تمت دراستها تبدو في وضع "جيد" أو "أقرب إلى الجيد" لحرية الصحافة. كما يشكل عداء القادة السياسيين، وخاصة الشعبويون لوسائل الإعلام، "تحريضاً متزايداً على أعمال عنف متكررة أثارت مستوى غير مسبوق من الخوف والخطر على الصحافيين" وأوضحت المنظمة أن "المناخ العدائي" جراء تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أدى إلى تراجع ترتيب الولاياتالمتحدة ثلاثة مراكز (48) في المؤشر الذي منح المرتبة الأولى للنرويج، تليها كل من فنلندا وهولندا؛ فيما جاءت تركمانستان في المرتبة الأخيرة (180). كما أن وتيرة الكراهية ضد الصحفيين تصاعدت، وأدت إلى تنامي الشعور بالخوف. واستمر نتيجة ذلك تقلص دائرة البلدان التي تُعتبر آمنة، ويمكن للصحفيين بها ممارسة مهنتهم بأمان، في وقت تشدد الأنظمة الاستبدادية أكثر فأكثر قبضتها على وسائل الإعلام. الغرض لا يرتبط بمقاربة وتحليل مدى صدقية وموضوعية المؤشرات المعتمدة في هذا التقرير أو ذاك حول حالة المغرب، إنما التأكيد على أن الحاجة ماسة اليوم قبل الغد إلى القيام بمراجعة جذرية للسياسة الإعلامية وبيئتها، مع أخذ السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية بعين الاعتبار، على المستوى الوطني والخارجي، وذلك في ظل عالم متغير، أصبح فيه تقدم الدول يقاس ليس فقط بمستوى ما ترفل فيه من رخاء اقتصادي، وإنما أيضا مدى التطور الذي تحققه في مجال حرية التعبير والرأي الصحافة. وبغض النظر عن مضامين تقرير "مراسلون بلا حدود"، وبعيدا عن توضيحات وبيانات حقيقة قطاع الاتصال، فالأمل يحذو الرأي العام الوطني في أن يتمكن المغرب من أن يرفع من "نقاطه الإيجابية" في مؤشرات حرية الصحافة، وهو ما يتطلب الإسراع بتدشين مرحلة جديدة في مسار الإعلام والصحافة، يكون من بين عناوينها الرئيسة تشخيص دقيق وبدون مساحيق حول مجمل الأعطاب التي يعاني منها مشهدنا الإعلامي، خاصة منه العمومي السمعي البصري ووكالة الأنباء. إن من شأن ذلك أن يساهم بطريقة أو بأخرى في مصالحة المغاربة مع إعلامهم، باتخاذ مبادرات تمكن من احداث الانفراج المطلوب، وتحقيق إقلاع حقيقي يقطع بشكل لا رجعة فيه مع الممارسات السلبية، ومنها التفكير بعقلية القانون الجنائي في التعاطي مع قضايا حرية الرأي والتعبير والشأن الصحافي والإعلامي، وضمان استقلالية وتعددية وسائل الإعلام، مع توفير بيئة مساعدة لتحرير طاقات الصحفيين على الإبداع في الإخبار والتثقيف والترفيه وتجويد البنيات التحتية ومراجعة الإطار التشريعي والقانوني والتنظيمي، اعتمادا على الشفافية والحكامة. *باحث في الإعلام والاتصال