عبر امتدادات بعيدة وينابيع هاربة، عرفتك أخي الغالي الشاعر والروائي، الراحل الدكتور محسن أخريف، طاقة متوهّجة نبلا وعطاءً وإنسانية. كنّا نهتف معاً بلوعة الكلمات ونحن على الطّريق نتبادل الصّلة دوماً، لا تعوزنا ضروب الحياة بينما نعدّ الحلم على سكّة رسمنا قيمتها الإنسانية، يجمعنا حبّ الأدب والنّضال الثقافي. كانت تسكنك طاقة جبّارة في خدمة الآخر، ولو على حساب عائلتك وأسرتك الصغيرة وعملك اليومي، توسيعاً لفسحة الإبداع، ولك في هذا الجانب دلالات كاشفة وعناوين من الفعل والأثر، تتراكم وتتكامل بتفرّعاتها الإنسانية، وأنت تزرع في محيّا الجميع نبض الغيمة وحب المدينة والنّاس. صداقة عقدين من الزّمن، المضيئة والنّبيلة معك أخي محسن، ليست بالهيّنة التي تشكّلت وتكاملت بيننا بصدق أخوي راقٍ ينتصر لجوهر الإنسان في عفويته وطيبته وروحه الصّافية التي تشعّ بالضّوء مرّة ثانية وعاشرة، والتي بقيت ناصعة وصريحة كالماء لم تغيّرها أيّة ارتدادات زّمنية يوماً، وهي صفة تشتدّ أثراً كلّما أسقطتها على صداقات مزيّفة لا تحمل من صفاتها على مسرح الحياة إلا غبار الأقنعة. مسافة الجرح تتّسع والوقت يضيق والدّمع لا يسعف العبارة. كنت أخي الغالي شلالا متدفّقاً، وعلى امتدادات خطاك فيه، نسجت أجمل الغيمات من صلات نابعة عن التجربة والمعرفة تتّسم بالوعي والرّويّة: ترانيم للرحيل، حصانان خاسران، ترويض الأحلام الجامحة، مفترق الوجود، شراك الهوى، حلم غفوة، وأطروحتك حول الرّحلة النّاصرية الصّغرى، وهي أعمال توّج بعضها بجوائز مغربية وعربية... فكنت بين الفرح والحزن وجذوة الأمل والقضايا الإنسانية والبحث الأكاديمي، صوتاً مميزاً دخل بوّابات قلوبنا راهن الجميع على وجوده الإبداعي وعلى عمق انتمائه إلى هذا الوطن وهذا التاريخ وإلى ذاكرتنا الجماعية. لم تكن تكترث (للقيل والقال) من حولك ولا لتنابزات المبدعين وتقلبات الجزر البشرية في عالم مكتظ بالأحداث والأفعال والمصالح، بل كرّست وقتك لتأمل الذّات في الكون وجعل مفهومك للحياة هو إحساسك بالوجود الإنساني المُتماوج داخلك دون نوازع شخصية. وهذا ديدنك وتلك ذاتك السّمحة التي تختزل فصول خطاك. أخي الغالي محسن ما زلت أنتظر رنّات هاتفك، مثلما تنتظر بدورك رنّات هاتفي كما تعوّدنا دائما، لكنّ كلانا الآن ينصت إلى بعضه البعض في حوار داخلي، أفكاراً واتجاهات وطموحات وذكريات، وأعرف أن روحك تقرأ ما أخط، لأنها عالية في برزخ الضّوء تتّخذ لمسارها دروباً ومسالك جديدة هناك، مطلة علينا وعلى ما تبقى في هذه الحياة من أحاديث وحروب ودمع، وربّما فرح وتطلّع، وكأنّها تستقصي دواخلنا. تعرف أخي الغالي أنّ في حنجرة الكثير منّا صراخاً مديداً سيظل يعلو أيّامنا بسبب فداحة غيابك، مثلما تعرف جيداً بفراسة روحك التي لا تخيب أن هناك من يدّعي الحزن والصّداقة وقيم الجمال، وكم كان يزعجه حضورك المتجدّد. كانت لك ذاكرة مذهلة بدأت معالمها بالظهور مبكراً وصانها حارسها الوفي والدك الفاضل مربي الجيل الأستاذ عبد السلام أخريف، والراحلة جدّتك التي رثيتها في ديوانك الأول "ترانيم للرحيل"، وباقي خلاّنك من الأصفياء، فكنت المحسن اسماً على مسمّى، وبما فيك من طموح وتجلّيات كبرى، تنمو على مهل لتصير أجمل أغنية. اكتشاف جميل من أرض الأساطير/العرائش، كنته، حافلا بالتّأمل وبغواية الحِبر ونداءاته، تستقرئ البدايات نحو ضفاف الحاضر وتطلق شموسك البعيدة بيننا. كنت تتطلّع دوماً أن يكون عيد الكتاب عيدك ونخلة ظليلة تجمع كل الأصوات والأقلام، وأن يصبح أكثر احترافية في جانبه اللوجيستيكي والتنظيمي. كنت ترعاه بقلبك وروحك رغم التّجريح وعذابات الإبداع، لكنّك كنت طويل النّفَس صلب العزيمة تحرسك حيويّتك الهادرة. كان همّك فقط زرْع الجمال بين النّاس والخيال على اتساعه، فلم تكن تعرف أن الإهمال يتّسع حولك، ولم تكن تدري أن من وضعوا خيمة العبث نسوا قيمة الحياة، وزرعوا الموت تحتها في عزّ الرّبيع، وفتحوا نوافذها على خسارات لا تحصى، فكنت الشّهيد الشّهيد، تركتنا نقلِّب أوجاعنا وفي أرواحنا غربة مخيفة تتسكّع. قد يكون الموت حصيلة وجودية، لكن حسّ الفجيعة والصدمة القاسية كانا أقوى علينا. فكيف نصدّ اختراق كل هذه القسوة لنا؟ كيف سنحاول أن نرمّم ما تبقى منّا على هذه الأرض من عواطف وذكريات وأحلام ونتجاوز أعطابنا؟ وكيف سأشرب قهوتي في تطوان بدونك أخي محسن؟ أيّها الوفيّ الصّفيّ، شكراً لأنك هنا دائما