التّحرّر "تعدُّدٌ يسود فيه العقل على الأهواء والغرائز، والفَهمُ على الصدفة والعفوية والعرضية، والإرادة على العوائد والشهوات، والجهدُ الشخصي والصراع على السلبية والاستسلام لظاهرات الطبيعة"، بالنسبة للفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي؛ وفي بداية هذا التحرر "يوجد الفعل والإرادة، فإذا انعدما انعدم التحرر''، وفق كتابه "من الحريّات إلى التّحرّر". بمثل هذه التوجيهات أراد الحبابي للإنسان أن يصل إلى إنسانيته بعد أن يتحرّر مما يجعله "كائنا"، ليصير "شخصا"، وهو ما بسطه في مجموعة من المؤلّفات التي قصدت التّنظير ل"شخصانية إسلامية" صارت بعد ذلك "غدية"، وتوالى نشرها، رغم ما لقيه مؤلّفها، الذي كان أوّل مغربي رُشّح لنيل جائزة "نوبل" للآداب، من لَمَزَات طلبته وتجاهلهم. وبدا جلِيّا في السنوات القليلة الماضية الاهتمام بفكر الراحل، عبر تنظيم ندوات علمية، ونشر كتب فردية وجماعية، داخل المغرب وخارجه، من بينها على سبيل المثال لا الحصر، ما نظّمته مؤسسة مؤمنون بلا حدود، والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وأكاديمية المملكة المغربية، وما كتبه الأستاذان الباحثان محمد وقيدي، ومحمد مصطفى القباج.. في هذا السياق، التقت جريدة هسبريس الإلكترونية الباحثةَ فاطمة الجامعي الحبابي، رئيسة مؤسسة تعنى بفكر محمد عزيز الحبابي، وأرملة الفيلسوف الراحل، ومترجمة العديد من كتبه، وتجاذَبَت معها أطراف الحديث حول الاهتمام بفكر الحبابي في السنوات الأخيرة، والحاجة إلى فكره في المجال التداولي الإسلامي وعلى المستوى الإنساني، وضرورة إدراج المعرفة التي أنتجها مغاربة في المقرّرات الدراسية الوطنية.. هناك مؤخرا اهتمام بفكر الأستاذ الراحل محمد عزيز الحبابي، فكُتِبَت كتب جماعية حوله داخل المغرب وخارجه، ونُظِّمَت ندوات حول فكره بعد عشرين سنة من وفاته.. لقد أجبتَ على سؤالك، هذا الاهتمام جاء بعد عشرين سنة من وفاته. ولكن، كيف تقرئين هذا الاهتمام بمجموعة من رموز الفكر المغربي، وخصوصا الأستاذ الحبابي؟ أبدأ في الجواب بالقول: جاء الحقّ وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. نعلم أن الأستاذ الحبابي توفّي سنة 1993، أي منذ ربع قرن تقريبا، وصمتت كل أقلام الطلبة. وأنتم تعرفون أن المغرب مدين له في المجال الثقافي، والفلسفي، والجامعي للجهود التي بذلها، ولكن كان الصمت المطبق عنه، لماذا؟ لأن قصد المغاربة، على وجه الخصوص، من الغفلة والتناسي هو أن يَظْهَرُوا هم أشخاصا وأساتذة وفلاسفة وكبارا في الفكر المعاصر. أرادوا تغطية الشمس حتى تظهر النجوم، لكن الشمس لا تغطّى بغربال، والآن فقط حينما فشلوا في أن يضعوا لأنفسهم مكانا في مكان الحبابي، وتبيّن أن الحاجة ملحّة إلى الفكر الذي ارتشفوا منه، والصَّنِيعة التي صنعتهم هم أنفسهم، تواروا مضطرين ليأخذ الحبابي مكانه الطبيعي. أضف إلى ذلك أن فكر الحبابي ليس مغاربيا، بل عالميّ إنساني كوني.. ولا داعي لذكر أسماء أساتذة الفلسفة، لا الفلاسفة، الذين عملوا بكل جهدهم على إقبار اسمه، وفي الأخير فشلوا، وقد كانوا أصدقاءه وطلابه. كنا نتدارس مع الحبابي في بيتنا، ونأكل الرغيف والزيت والزيتون واللحم، وحينما غاب وجهه أرادوا أن يغيّبوه، ولكن والحمد لله لم أدع لهم الفرصة.. ولم أواجههم، تركتهم وما يفعلون.. إلى أن ظهر الحق وزهق الباطل. الآن، الرجوع إلى الحبابي اضطرارٌ لتفعيل فِكْرِهِ الشخصاني، وتفعيل فكره المتخلِّق الغَدَوِيّ الذي يفرِّقُ بينَه وبين المستقبلية أنه مبنيًّ على الأخلاق وتجاوز أزمات العصر، رفعا بالمغرب من جهة، وقولا بالحق في أن الإنسانية تحتاج فكر الحبابي، الذي أريد له أن يُقبَرَ ولم يتمّ ذلك. من بين أسباب تغييب فكر الحبابي أيضا أن الطلبة لم يكونوا يهتمون بكل ما ليست فيه نسمة "المادية التاريخية"، إضافة إلى عمادته لجامعة محمد الخامس.. نعم، هذان السببان كانا من وراء إرادة وقصد مواراة اسمه. ولكن كما بدأت أقول مجدّدا "ظهر الحق وزهق الباطل".. يعرفونَنِي وأعرفهم، ولنا مواجهات صامتة. يبتسمون ابتسامة الخادع، وأتغافل عن رؤية ابتسامتهم…عاشرت الحبابي كطالبة من طلابه، وكزميلة من زملائه، بتقدير لِفِكْرِه، وخدمة لشخصه، وسعيا إلى القيام بدور في الحياة الفكرية، والفلسفية، والإنسانية...والحمد لله وصلت السفينة إلى شاطئ النجاة بسلامة مع الخالق. كيف ترين حاجتنا اليوم إلى "الشخصانية الإسلامية" بغضّ النظر عن عدم التصديق بأصالتها في بدايتها والانتقادات التي طالتها منذ بداية الستينيات؟ نعم، كانوا ينكرونها لأنه كانت طفرة الحداثة التي تريد أن تجتث الإسلام من جذور الفكر.. ولماذا وصلت الإنسانية إلى ما هي عليه من تدمير وخراب في أمريكا وأوروبا وكل شيء؟ لأن فصلا وقع بين ما هو إلهي إسلامي خلقي ديني، وبين المادي المحض والتقنيات المعاصرة والعلوم والسياسات.. وكان ضمن هذا الفصل تعويم أو تغييب "الشخصانية الإسلامية"، وإن كانت في تطورها على مدار عقدين من الزمان أو ثلاث قد أصبحت "الغَدِية" التي تشمل الأرقام والإحصائيات كخادمة للأخلاق، وتخليق المجتمع، وأنسنة الإنسانية، وإعادتها إلى رشدها، ولم تكن من قبيل الإحصائيات كما هي "المستقبلية". وهذا الفرقُ بين "الغدية" و"المستقبلية" هو الفرق بين المرحوم المهدي المنجرة، الذي كان صديقي وأستاذي وكنت أُعِزُّه لأنه كان صادقا وصَدُوقا، وبين محمد عزيز الحبابي. وأوّل من كتب عن محمد عزيز الحبابي، هو سي المنجرة رحمه الله، ويوم دفنه كتب عنه بقداسة وتعظيم ومحبّة، وكانا متكاملين، على خلاف هؤلاء الزنادقة، الذين لم يفهموا المسؤولية والضمير الأخلاقي في إيصال الرسائل للإنسانية، وأرادوا الظهور والبروز والشاشات والمؤتمرات، ثم وقعوا هناك فسقطوا من المنصّة إلى أسفلها. ألسنا في حاجة اليوم في مقرّراتنا التعليمية إلى تقريب هذا الفكر الذي أنتجه مغاربة، وخصوصا فكر الرموز التي أسّست الدرس الفلسفي في المغرب؟ نحن في حاجة إلى هذا، ولكن يجب أن تكون هناك منهجية، لأن منهجية التبليغ وطرقه ووسائله هي التي تُصْلِحُ أو تُفْسِد، فإذا كان هناك حقّا أناس يؤمنون بهذا الفكر، ويؤمنون بأحقّيته وبصلاحيّته، سنستطيع أن ندخل الثانويات والجامعات بهذا الفكر المتجدّد. وأقول إننا في حاجة اليوم إلى فكر محمدي إصلاحي، يسمو فوق فكر الحبابي، ويسمو فوق المناهج والتيارات الغربية الفكرية والسياسية. ونحن في حاجة إلى إحياء الفكر المحمدي الإصلاحي، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان وحيدا في بيئة وثنية مُنْتهية استطاع أن يُخْرِجَ أمّة تعيش إلى يومنا هذا، فكانت الانفِلاقة الأولى. والآن، هناك انْفِلاقة وتفتّق ثان، لأن هناك فكرا محمديا أصيلا سيخرج للكون، لإنقاذ البشرية مما تعانيه. والفكرُ المحمدي ليس أمانة فقط في عنق شيوخ التربية، أي شيوخ الطرق والزوايا، بل أمانة في عنق كل من يؤمن برسالة سماوية مكتملة أتمّت الرسائل الأخرى، ومكارم الأخلاق. نحن مسؤولون جميعا عن إعادة الفكر المحمّدي إلى الواجهة، فهو الوحيد الذي ينقذ من الضلال. إن في المغرب أناسا في الخفاء يعملون من أجل ذلك في هدوء وصمت، وبوعي، ولعل الإمامة العظمى ستظهر من هذا التوجّه الانفلاقي المتجدّد، من أجل ربط السماء بالأرض، وهذا هو اهتمامي أكثر. والحبابي سيكون شعبة أو سبيلا من هذه السُّبُل، وهو أستاذي وشريك حياتي وأب ابني، ولكن "الحق فوقك يا أمي"، فإن الفكر المحمّدي أعلى من كل فكر.