لا يمكن أن تنزل عمّان ولا تحلم بكتابة قصيدة. عمّان حضارة تقف شامخة فوق سبعة جبال. معبد عمونيّ مشرع الأبواب لكلّ قوافل الحجّاج من جميع اتّجاهات الجغرافيا والتاريخ والدين والفلسفة. ملتقى وديان الحضارات وملجأ أيتام العالم. عمّان عشق وثنيّ وزواج كاثوليكيّ بين بيداء وجبل، أقسما بأغلظ الأيمان على الوفاء الأزليّ. تضاريسها أشبه بتضاريس شمال إفريقيا إلى حدّ كبير، مع فرق واحد هو أنّ جبالها وصحراءها وتلالها تقدّم لك نفسها منذ الوهلة الأولى بدون مقدّمات طلليّة. عمّان مدينة تاريخيّة عنيدة وقفت في وجه غارات الزمن تماما مثل قرطاج وتيبازا ووليلي وفاس ومكناس وليكسوس وغيرها. في المدرّج الروماني يمكن أن تشاهد مباراة العمر يخوضها مصارعان رومانيّان بالسيوف أمام جمهور شرقيّ يبحث عن فرجة كاملة. وفي جبل القلعة، يمكن أن تصافح هرقل، بشخصه، أثناء استراحته القصيرة من تعب التداريب المكثّفة التي يجريها استعدادا للمعركة الحاسمة. ومن القلعة يمكن أن تستعرض كلّ الشريط، حيث يمتزج عبق الذاكرة بصور العين الحيّة، يكفي أن تدور بكاميرا عينيك فيدور معك شريط الذاكرة مع شريط الجمال الماثل أمامك في دائرة تحكي قصّة فتاة بدوية فاتنة طلب يدها سبعة عرسان في آن واحد، تماما مثل مراكش ورجالها السبعة. وإذا صادفت فيلسوفا أردنيّا لطيفا اسمه الدبّاغ ستتذكّر بلا شكّ شموخ فاس وعلماءها وأوليّائها. احتفاء عندما أشرف إيدير على النزول في عمّان، استقبلته صحراء شامخة بلون يشبه تراب المريخ، وقد نما لديه، بالفعل، إحساس غريب بأنّه على مشارف كوكب آخر. فلون الصحراء تزيّن بقشرة سوداء، بالإضافة إلى خطوط بيضاء وصفراء جرّاء آثار وديان متربة في قلب الصحراء. لكن ما أن توغّل أكثر في جغرافيّة الأردن، حتّى بدأ المكان يخضرّ شيئا فشيئا إلى أن أخذ لون العشق. وعندما التقى أهل البلد غمروه بشعور واحد، شعور المحبّة. لا يمكن أن تقضي أكثر من ثلاثة أيام في عمّان ولا تصاب بداء الهيام. عبثا كان يحاول أن يبحث عن سرّ كل تلك الحفاوة. في نهر الأردن، رأى بأمّ عينيه طيبوبة الإنسان تمشي في الأسواق وتأكل الطعام. ولم يكن ليكتشف السرّ إلا عندما أمعن في مجالسة أهل البلدة والخبر عنهم. الأصالة والقيم البدوية ما زالت تفعل فعلها، بكلّ عنفوان، في هواء عمان! في عمّان، يحتفى بك مثل أمير قادم توّا من قلب التاريخ. يستقبلونك بالأحضان منذ أن تطأ قدمك أرض المطار. يحضنوك ويربتون على كتفيك مثل عزيز عاد من حرب طويلة. يسألونك عن كلّ شيء، متى قدمت وكيف، وماذا تفعل ويسألونك عن كلّ التفاصيل. وعندما يعرفون أنّك من المغرب أو الجزائر تزداد درجة الاحتفاء والكرم والسؤال. وكأنّ حرب التحرير لم تضع أوزارها بعد، لكن سرعان ما تكتشف أنّهم يعرفون أكثر ممّا تعرفه، أو يكاد، عن بلدك. يسردون عليك تفاصيل حياة الأميرين الخطابي وعبد القادر وتجربة التناوب وأطباق المغرب وتضاريسه الخلابة. وفي رمشة عين يعيدونك إلى بلادك بدون مقدّمات؛ يجعلونك تسافر عبر خرائط تاريخ المغرب الكبير وأرضه، تستعيد أمجاد الأجداد والآباء، فتندهش عندما تجد الأمير عبد الكريم بجلبابه الريفيّ يجلس إلى جانبك، بشوشا، هادئا، يخطّط للمعركة المقبلة. وعندما تتجوّل في عمّان ليلا، تصادف الأمير عبد القادر بفرسه يحوم على بيوت النصارى وكنائسهم يبلغهم السلام والأمن والحماية اللازمة من بطش الغلاة. وفي الصباح يشرق في جبل القلعة وجه عبد الرحمان اليوسفي وتجربة التناوب، بعض أسباب النجاح وكثير من أسئلة الفشل، وتصعد تلال عمان السبعة كأنّك تصعد إلى مدينة الحسيمة الهادئة من سيدي عابد عبر شارع عبد الكريم الخطابي أو محمد الخامس، وكلاهما سيان، وصولا إلى السوق البالي. فتجد نفسك مضطرّا أن تربط بين الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ في المغرب والوضع هنا؛ مع فارق واحد أنّ ثمّة قضيّة أكبر من الوطن ربّما، إن لم نقل إنّها أمّ القضايا. سفر في الذاكرة بلى، لم يكن عمر سوى درويش بصوته وملامحه وعناده، وهو يناقش بروح تجمع بين الجديّة والسخرية بين عمق الفكرة وجمالية العبارة. فدوى، التي قدمت من غزّة، أديبة لطيفة ومرهفة الحسّ، قصّتها الشخصيّة تختصر كلّ الحكاية. موسى شاعر العشق المسلوب، كان دليل الرفاق نحو محراب الشعر والحكمة. كان صوته وهو يتلو عليهم في سيارته إحدى قصائده القديمة عن القضية أحيى الجرح الذي ما اندمل قطّ. فلسطين هنا على كلّ طاولة: على طاولة الأكل والمقهى وفي جلسات المؤتمر. الفلسطينيّ يحتفى به هنا، مثل بطل ملحمة مقدّسة. وقد استغرب إيدير لعدد الجلسات وعدد الأوراق التي قدّمت في الموضوع بألف ولام التعريف. وقد أثارته أيضا طريقة العرض والمناقشة، فلا بدّ من رفع الصوت وإبداء الموقف، بل التعليق على بحث قد يفهم منه أنّه كان متساهلا مع المشروع الصهيونيّ، بأنّه يقدّم خدمة مجانيّة له، حتى وإن كانت الورقة في الرواية الأدبيّة. عمّان أعادت إيدير إلى عناصر أخرى في هويّة تفتّتت في دمه. لم يكن أهله في بلاد المغرب بعيدين عن القضية ولا كانت القضية بعيدة عنهم قطّ. أوّل عرض قدّمه إيدير في حياته، خارج الصفّ، كان حول هذه القضيّة بالذات. أوّل نصّ شعريّ كتبه بالعربيّة كان حولها، وكان الجزء الأكبر والأجمل من شعارات جامعة فاس، في ليلة لا تنتهي، وفي ساحة لا تنتهي، حول القضيّة، التي يبدو أنّها لن تنتهي أيضا. كان ورفاقه يفتخرون بكونها قضيّة وطنيّة. لكن ماذا بعد؟ لا شيء. مع مرور الزمن اكتشف إيدير وأهله أنّهم ليسوا أفضل حالا من أهل غزّة، فغيّروا الشعار؛ رفعوا شعار تازة قبل غزّة. وبقوا في وسط الطريق، لا حرّروا هذه ولا تلك من الفقر على الأقلّ. الفقر والجهل أشدّ ظلما من ذوي القربى وأشدّ فتكا بالأحلام. وفي الطريق الصحراويّ الطويل فقدوا كثيرا من قواهم وأقلامهم وأحلامهم. صار كلّ همّهم البحث عن كسرة خبز تشبعهم وشربة ماء ترويهم وخيمة تأويهم. هكذا نجح الآخرون في جعل كلّ الطريق متاهة. وابتعد المسار عن السالكين، كلّما اقتربوا منه إلا وابتعد أكثر وأكثر، حتّى صار مثل سراب بعيد في صحراء العرب. جنسيّات متعدّدة، مؤتمر وقضيّة غير أنّ عمّان ظلّت صامدة في وجه تقلّبات الأيام الهوجاء، بل أضحت مزار جنسيّات متعدّدة. على عكس ما قد تتوقّعه، يمكن أن تلتقي في جرش، على سبيل المثال، العالم كلّه، دفعة واحدة. كان قد وصل يوما قبل المؤتمر. وكان أوّل زميل تعرّف عليه من المشاركين مصريّ لطيف يحمل اسما تركيّا باذخا، رفعت. وبعده مباشرة التقى اليامين، أديب فيلسوف قدم من سطيف بالمغرب الأوسط، وقد تصادقا بسرعة وتواطأت أحكامهما وكأنّهما متعارفان منذ زمن بعيد. وبعدهما تعرّف على ثلّة من الزملاء من مختلف الأقطار. وعندما التقى موسى وأمجد شعر بأنّ أمسيّة باذخة تنتظره. وكذلك كان الأمر، فقد أخذهم الشاعر اللطيف موسى إلى مقرّ إدارة جريدة الدستور، وهو يخبرهم بأنّ مفاجأة تنتظرهم، بل تنتظر إيديرا بالخصوص! بالفعل، لقد كانت المفاجأة جلسة مغربيّة ماتعة، بلون الشاي والأعشاب وعبير القدس، في حديث أخويّ شيّق شمل موضوعات شتّى في الأدب والفلسفة والعلاقات المغربيّة الأردنيّة والأمازيغ والأستاذ عبد الرحمان اليوسفي وتجربة التناوب وطبيعة المغرب الخلابة وتاريخه ومؤسّساته وأطباقه اللذيذة، مع سفير الأردن لدى الرباط سابقا، وثلّة من الأدباء والمثقّفين الأردنيّين. الإعلاميّ هنا أديب بالضرورة، وسياسيّ بالضرورة. الأدب راق ومتنوّع غير أنّ للسياسة وجها واسما وقضيّة. وفي الجامعة، كان الجو مرحا دافئا تعمّه روح إنسانيّة لا مثيل لها: مؤتمر وتاريخ ومطر وقضيّة. تنظيم ممتاز وكرم طائيّ ومحبّة دافقة! وأثناء الغذاء الأوّل، كان صوت عبد الحليم يتردّد صداه في الحرم والمنسف يرقص فوق الصحون. كانت المداخلات طبقا متنوعا، مقبلات ومكسّرات ومنسفا ومقلوبة وغير ذلك، من التاريخ إلى الرواية إلى الشعر إلى فنّ التصوير والفلسفة وفلسطين طبعا. كانت الجلسات خفيفة ومتنوّعة، وكان للأوراق التي قدّمت حول أعلام أردنيّين ومغاربة، مثل عبد الكريم الغرايبة والعروي والجابري، نصيب الأسد إلى جانب الصراع العربيّ الإسرائيليّ في موضوعات المؤتمر. سلام على نهر الأردن وفي صباح اليوم الموالي، كان المطر يتثاءب في السماء استعدادا ليوم سقي جديد. سقي حقول عمان، طبعا. وكان اليوم يوم جمعة، صلاة وتسوّق وغذاء. في المسجد كانت الخطبة تقليديّة، طويلة وغير ذات موضوع واضح باستثناء كلام عن تنظيم الوقت (الأخرويّ لا الدنيويّ) وصراخ لم ينقطع وحماسة زائدة في موضوع لا يحتاج إلى أيّ حماسة. كان يتأمّل أركان الفضاء الدائريّ والناس حوله، منتظرا أن يسدل الستار على الخشبة. بدا له المكان بدون هيبة كبيرة، تتخلّله مسحة جمالية غير مثيرة. والمصلّون يطلقون أرجلهم بشكل عاد جدّا حتّى أنّك تظنّهم يستعدون لأخذ قيلولة، وأرجع ذلك إلى طول الخطبة. وترك المكان ليسافر في محطات طرقيّة قديمة في شمال المغرب، في الحسيمة وتطوان بالذات. الشكل الدائري نفسه، والضجيج نفسه، تنقص فقط الحافلات وما تبقى من آثار إيبيريّة في المكان. غير أنّ شوارع مدينة عمّان الضيقة وازدحام السوق قبالة المدرّج الروماني وشموخ جبل القلعة سرعان ما أنساه تعب الوقت والمحطّات الطرقيّة المثقلة بحقائب القلق والحنين. وحده أمجد كان السراج المنير في ذلك السفر الجميل، مؤرّخ سبق زمنه لا علاقة له بالجغرافيا، فقد خرج منها مثل مركبة فضائيّة مستعدّا دوما للانطلاق لاكتشاف آفاق أرحب. أخذهما، اليامين وهو، إلى القلعة والسوق، وكان يودّ لو يأخذهما في سياحة فضائيّة بعيدة. هكذا، أهل عمان كرام ولطاف، ينفقون من كلّ شيء ثمين عندهم: وقتهم ومالهم وألقهم. يحتفون بالحياة مثل جنود بواسل في لحظة استراحة. يسرقون الحياة سرقة من يد القدر الذي جعلهم سدّا منيعا أمام عدو غاشم. يأكلون ويشربون ويدخنون بشراهة، مثل كلّ رفاق العالم، النضال يسكن جيناتهم. يتكلّمون بهدوء وحكمة، لكن إذا أثرت سؤالا عن القضية، فجأة يشتعل المكان والزمان وتثور كلّ قطرة دم في شرايينهم. يتحوّل الخطاب إلى ما يشبه بندقيّة. والأستاذ يصير جنديّا يهتف بشعار القضية. وعندما يهدأ الجوّ، يتسامرون، يضحكون مثل الأطفال، ويقولون شعرا جميلا. فسلام عليكم، أيّها المرابطون، وسلام على نهر الأردن.