على عكس المركزية وما تفرضه من احتكار للسلطات والإمكانيات، فإن اللامركزية من المنظور الفعلي، وفي أوسع معانيها وتجلياتها الديمقراطية، ترتكز على دور الفاعلين المحليين في اتخاذ القرارات المدبرة للشأن المحلي، فأمام تراكم المشاكل والحاجيات على الصعيد المحلي وتشعبها، عجزت الدولة عن إيجاد الحلول لها، ونظرا لكون التوجه إلى اللامركزية أصبح شرطا لكل تنمية، ومظهرا من مظاهر الفعالية والديمقراطية. وباعتبار الجهة في صلب اللاتمركز الإداري الذي فرض نفسه منذ السنوات الأولى للاستقلال كحتمية ضرورية لاضطلاع الدولة بمسؤولياتها الجديدة المرتبطة بتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ودور اللاتمركز الإداري في الرفع من الجهوية المتقدمة يقتضي جعل الجهة مجالا وإطارا للاتمركز الإداري، على انتشار المصالح اللاممركزة على صعيد الجهة بكيفية متساوية. لقد دخل المغرب مرحلة جديدة في اتجاه بلورة مفاهيم جديدة للامركزية المحلية، خصوصا في ظل مشروع المبادرة المغربية المتمثلة في الحكم الذاتي بالأقاليم الجنوبية، وما يتبع ذلك من تفكير عميق نحو إعادة النظر في العلاقة التي تربط الدولة مع كل الجهات المكونة للنظام الجهوي المغربي، كما أن المجتمع المغربي اليوم أصبح على وعي كامل بأهمية الإدارة المحلية في تحقيق التنمية المستدامة، التي تعتبر الجهوية أحد أبرز أركان هذه الإدارة، بل هي القاطرة التي يمكن أن تجر باقي مكونات اللامركزية الأخرى (الجماعات، العمالات والأقاليم). لهذا، فإن إعطاء المجالس الجهوية الصلاحيات اللازمة لتدبير الشأن الجهوي له أكثر من ضرورة؛ إذ إن العمق الاجتماعي الذي تحتاجه التجربة الجهوية اليوم يكمن في تعميق الإحساس لدى المجتمع الجهوي بكونه يساهم بطريقة مباشرة في تسيير شؤونه الجهوية، وهذا لن يتأتى إلا بمنح المجالس الجهوية القوة التنفيذية على هذا الصعيد. الجهة باعتبارها مجالا للاتمركز الإداري ورهانا تنمويا فاعلا أمام ضعف برنامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية وعجز مركزية السلطات في الوقوف على حاجيات مختلف مناطق المجال المغربي، فقط قرر مدبرو الشأن العام المغربي تأسيس تجربة جهوية بالمغرب على أساس مناطق اقتصادية (الجهة) باعتبارها مجالا يباشر داخله إجراء الدراسات وإنجاز البرامج قصد تحقيق تنمية متسقة ومتوازنة بمختلف أجزاء المملكة من خلال السعي لخلق توازن مجاني بين المناطق الغنية ونظيراتها الفقيرة، وذلك اعتمادا على مخططات اقتصادية وعلى جهود المجالس الجهوية. فاعتبار الإرادة الملكية، خاصة الخطاب الملكي السامي إلى الحكومة بمناسبة عيد العرش المجيد بتاريخ 29 يوليوز 2018، الذي أكد فيه جلالته أولوية ورش ميثاق اللاتمركز الإداري قبل ورش ميثاق الاستثمار الجديد ثم ورش اعتماد نصوص قانونية بخصوص تجاوب الإدارات مع طلبات الاستثمار، تنفيذا لبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في انسجام وتكامل مع الجهوية المتقدمة. كما أكد ذلك دستور 2011 في الباب التاسع الجهات والجماعات الترابية الأخرى، إضافة إلى القانون المنظم للجهات 14-111 الذي أعطى للجهة مستوى الصدارة في العلاقات بين مختلف الفاعلين المحليين، وجعلها فضاء للحوار والتشاور وإعداد برامج التنمية وتتبعها، ووعيا باتساع مجال الصلاحيات المخولة للجماعات الترابية بمقتضى القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية، لاسيما على المستوى الجهوي، وأهمية الموارد المالية والبشرية التي وضعت رهن إشارتها. الجهة باعتبارها رافعة لورش الجهوية المتقدمة والتنمية المجالية لقد أخذت المسألة الجهوية بعدا سياسيا ومؤسساتيا ملحوظا باعتبارها مدخلا للإصلاح السياسي والدستوري، وأصبح التفكير في الجهة ليس على أساس أنها مجرد إطار للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق التوازنات المجالية، بل على أساس أنها لبنة لتدعيم دولة المؤسسات وترسيخ الديمقراطية وفتح المجال أمام ديناميكية سياسة حماية مصالح الجماعات واقتراح تدابير تكرس المزيد من الاستقلالية والتطور لهذه الهيئات، حتى تصبح الجماعات المحلية عموما، والجهة على وجه الخصوص، مكسبا لتوسيع مجال الديمقراطية. وتعد الجهوية المتقدمة، كما أرادها جلالة الملك محمد السادس، تكريسا لإصلاح يتوخى في عمقه العمل على إعادة توزيع للسلطة السياسية والاقتصادية بين السلطة المركزية والجماعات الترابية، مع إدراج التنمية في قلب السياسات العمومية الجهوية من أجل تحقيق التوازنات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وجعل هذه التوازنات منسجمة مع الحكامة الترابية. ومن مرتكزات الميثاق الوطني للاتمركز الإداري الجهة باعتبارها الفضاء الترابي الملائم لبلورة السياسة الوطنية للاتمركز الإداري، بالنظر لما تحتله من صدارة في التنظيم الإداري للملكة، بما يجعلها مستوى بينيا لتدبير العلاقة بين الإدارات المركزية للدولة وبين تمثيلياتها على المستوى الترابي، ثم كمرتكز ثاني الدور المحوري لوالي الجهة كممثل للسلطة المركزية على المستوى الجهوي (المادة 5 من الميثاق)، حيث تعتبر الجهة بمثابة الإطار الملائم لاستقبال المشاريع التنموية، ووسيلة للتنسيق بين المخططات التنموية المحلية والوطنية مع تحقيق الفعالية والنجاعة في تنفيذ البرامج والمشاريع العمومية التي تتولى مصالح الدولة اللاممركزة على مستوى الجهة الإشراف عليها أو إنجازها أو تتبع تنفيذها، وكذلك مواكبة التنظيم اللامركزي للمملكة، القائم على الجهوية المتقدمة، والعمل على ضمان نجاعته وفعاليته. والجهوية المتقدمة باعتبارها تنظيما ترابيا غير ممركز ستمكن بلا شك، إن حسنت إرادات كافة الأطراف المتدخلة في هذا الورش الحيوي الحاسم، من الانتقال من علاقات الوصاية والرقابة إلى علاقات مبنية على مبادئ التكامل والتشاور والتدبير التشاركي، إضافة إلى ضبط آليات التفاعل والتكامل فيما بين الأدوار بين السلطات المركزية والمصالح اللاممركزة، لتقريب الإدارة من المواطنين، وهذا ما تم تكريسه في الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، بحيث يستند إلى مستوى الجهة، إلى مبدأ الإنصاف في تغطية التراب الوطني من خلال ضمان التوزيع الجغرافي المتكافئ لمصالح الدولة اللاممركزة والسهر على انتشارها المتساوي، إضافة إلى تخويل الجهة مكانة الصدارة في التنظيم الإداري الترابي وجعلها المستوى البيني في تنظيم العلاقة بين المستوى المركزي وباقي المستويات الترابية. وللحديث عن أجال التنفيذ للميثاق الوطني للاتمركز الإداري، انطلاقا من إعداده نهاية شهر أكتوبر سنة 2018، تنفيذا لبنوده كما جاء في مادته 48، حيث نشر بالجريدة الرسمية في 27 دجنبر 2018، ثم صدور النص التنظيمي لنموذج التصميم المديري المرجعي للتمركز الإداري بتاريخ 25 يناير 2019، ومن المنتظر إعداد التصاميم المديرية للوزارات قبل يوم 25 يوليوز 2019 كما جاء بالمادة 22 من الميثاق، وصولا إلى مرحلة إنجاز التصاميم المديرية للاتمركز الإداري بعد مرور 3 سنوات من تاريخ صدور الميثاق إلى غاية سنة 2021. لا شك أن الجهة كفضاء جديد للتنمية بالمغرب هي التي فرضت وتفرض نظام اللاتمركز الإداري، وذلك من أجل مواكبة ورش الجهوية المتقدمة لأنه لا جهوية ولا ديمقراطية محلية دون عقلنة حقيقية لتدخلات الدولة على المستوى الترابي، مع احترام مظاهر وتجليات السلطات المركزية، مما يوضح ضرورة انفتاح المصالح المركزية في إطار تفعيل الجهوية المتقدمة على خصوصيات الجهات ال 12 اعتمادا على الحوار بين الفاعلين والعمل على التجانس بين السياسات العمومية بالجهة، وتثمين الرأسمال الثقافي من تراث لا مادي والرأسمال الاقتصادي كالثروات التي تزخر بها، مع تحديد الاكراهات التي تعاني منها في الميادين المتعددة تجاوبا مع متطلبات الرأي العام. *باحثة في القانون الدولي وحقوق الإنسان فاعلة جمعوية