بنفَس مسترسل واصلت مجلة "أبحاث" شقّ طريقها على درب الإنتاج المعرفي الرصين، منذ عام 1983، وحافظت على وتيرة نشر منتظمة إلى أن أطفأت شمعتها السادسة والثلاثين بإصدار عددها الخامس والستين هذه السنة. هذا المسار الطويل الذي قطعته مجلة أبحاث، وهي مجلّة مُحكّمة للعلوم الاجتماعية، ما كان ليستمر لولا الحرص على الصرامة العلمية، التي أعطتها مكانة متميزة أهّلتها لتكون بوصلة لصنّاع القرار في المغرب، إذ منْها انبثق التقرير الإستراتيجي سنة 1995. عبد الله ساعف، مدير مجلة "أبحاث"، قال في كلمة بمناسبة تقديم العدد الأخير من المجلة، والذي خُصص لموضوع "معارضات ما بعد الانتفاضات العربية"، إن هيئة تحرير المجلة حرصت، منذ البداية، على عدم التسرّع في التأطير النظري لمختلف القضايا التي تعالجها الأوراق البحثية، "لأن المجال المعرفي يتطلب نفَسا طويلا وصبرا وتراكما للمعرفة". وشهدت مجلة "أبحاث" منعطفين هامين في مسارها، الأول غداة حرب العراق الأولى، مطلع تسعينيات القرن الماضي، إذ انطلقت محاولات فهم مجتمعات الجنوب، انطلاقا من رؤيةٍ خاصة بباحثي المنطقة، بعدما كانت الأبحاث في السابق تأتي، في الغالب، من الغرب. أما المنعطف الثاني الذي شهده مسار مجلة "أبحاث" فكان سنة 2011، إثر ما سمي "الربيع العربي"، والذي حتّم تجديد المفاهيم التي كان يشتغل بها الباحثون، من أجل معرفةٍ أعمق وأشمل لمجتمعات المنطقة، خاصة أنه أفرز ظهور معارضات غير مألوفة. وأشار عبد الله ساعف إلى أنّ ما يؤكّد المكانة العلمية الرفيعة لمجلة "أبحاث"، التي ساهم فيها خِيرة الباحثين المغاربة والأجانب، ومن بينهم السوسيولوجي المعروف الراحل بول باسكون، هو أنّها حافظت على عدد مستقرٍّ من القراء، ما مكّنها من تمويل نفسها بنفسها، لافتا إلى أنّ المجلة "كانت دائما مستقلة، منذ البداية إلى اليوم". من جهته قال جمال المحافظ، وهو إعلامي باحث، إنّ استمرارية مجلة "أبحاث" في الصدور بوتيرة منظمة، طيلة ستّ وثلاثين سنة هو في حدّ ذاته نجاح، مبرزا أنّ ما مَنح المجلة فرادة هو طرْحها أسئلة جديدة حول مختلف القضايا المستجدّة، بخلاف المجلات الأخرى التي تكرر طرح الأسئلة التقليدية. وأبرز المحافظ أنّ مجلة "أبحاث" استطاعت أنْ تواكب التطور الذي عرفته ساحة النشر في المغرب، مع ظهور الصحافة المستقلة في تسعينيات القرن الماضي، وكذا تطور الحياة السياسية عبر التطرق إلى مواضيع شائكة وذات راهنية، ما ساعدها على الحفاظ على مكانتها. وأضاف المتحدث ذاته أنّ من نقط قوة مجلة "أبحاث"، فضلا عن جودة المقالات العلمية الرصينة التي تُنشر على صفحاتها، الحضور المؤمن باختلاف وجهات النظر، إذ "تتضمن بعض الأعداد الفكرَ ونقيضه في وقت كان من الصعب على أي مجلة أو جريدة ممارسة هذا الحياد الإيجابي". وقال الصحافي إسماعيل حمودي، الذي قدّم قراءة في موضوع "معارضات كما بعد الانتفاضات العربية"، الذي تناولته مجلة "أبحاث"، إنّ اختيار هذا الموضوع من طرف هيئة تحرير المجلة كان موفّقا، لأنّ الباحثين غالبا ما يهتمون بتسليط الضوء على مَن يوجد في السلطة وليس من يوجد في المعارضة. وخلُص حمودي في قراءته لوضع معارضات ما بعد الانتفاضات العربية إلى أن الانتفاضات التي شهدتها المنطقة "أثبتت ضعف المعارضة المؤسساتية، التي ظلت تعزو فقدانها لقوة التأثير إلى استبداد السلطة السياسية، لكنّ الواقع كشف أنّها مفككة وعاجزة من الداخل، تُنتج خطابا نخبويا وينحصر حضورها في المركز ولا توجد في الهوامش"، على حد قوله. في السياق نفسه، قال محمد الهاشمي، عضو هيئة تحرير مجلة "أبحاث"، إنّ ثورات "الربيع العربي" غيّرت فكرة المعارَضة وشظّتْها، إذ لم تعد المعارضة مقتصرة على الهياكل التقليدية التي تشتغل من داخل مؤسسات المجتمع، بعد أن برزت على الساحة معارضات جديدة انبثقت من خارج المؤسسات. وأوضح الهاشمي أن "الانتفاضات العربية" أدت إلى بروز أشكال جديدة من المعارضة، مثل استعمال الفن كتعبير لمعارضة السلطة؛ كما أفرزت ديناميات مجتمعية لم تكن موجودة في السابق، مثل حركة "فاش نتسناو" في تونس، التي تأسست سنة 2016 من طرف مجموعة أشخاص تكونت لديهم قناعة بأن الأهداف التي جاءت بها الثورة التونسية لم تتحقق. واعتبر الهاشlي أنّ بروز معارضات تشتغل من خارج المؤسسات التقليدية يستدعي التفكير حول مآل النموذج الديمقراطي الكلاسيكي، مبرزا أنّ هذا التفكير يقتضي الاستعانة بأدوات متجددة وإحداث قطيعة مع المدرسة الفرنسية التي تغلّب الجانب المؤسساتي بشكل كبير، والانفتاح على المدرسة الأنجلوسكسونية.