في ندوة صحافية عقدت بمقر وزارة التربية الوطنية مساء الأربعاء 06/03/2019 صرح وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي بأن "نظام التعاقد لن يتم التراجع عنه؛ لأنه خيار حكومي اتخذ منذ سنوات"؛ وبنفس المناسبة أكد أن "التفاوض لا يتم عبر التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، بل مع المركزيات النقابية". وبعد هذا الرفض، وحسب خبر نشر في هسبريس مساء السبت 09 مارس 2019، صدر بلاغ عن وزارة التربية الوطنية أفاد بأن "الحكومة اقترحت تعديل مقتضيات النظام الأساسي الخاص بالأكاديميات، عبر التخلي عن نظام التعاقد، مع مراجعة جميع المواد التي تشير إلى فسخ العقد، لكون "التعاقد" لم يعد معتمدا"، موردا أن أمزازي أكد "أنه ستتم المصادقة على التعديلات المقترحة في دورة استثنائية للمجالس الإدارية للأكاديميات، التي ستنعقد في أقرب الآجال". ويأتي البلاغ بعد دعوة رئيس الحكومة وزيره إلى فتح حوار بناء يشمل جميع الفئات المعنية للعمل على إيجاد حلول ناجعة وتخطي الأزمة. فُتح الحوار إذن من منطلق استحالة التراجع عن نظام التعاقد، وكما توعد بذلك وزير التربية الوطنية لم توجه أي دعوة للتنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد...فتح حوار بشروط مسبقة وبالإصرار على إقصاء الأطراف المعنية له أكثر من دلالة. وحسب مقال آخر ظهر على هسبريس صباح يوم الأحد 10 مارس 2019، يؤكد البلاغ المشترك الذي أصدرته النقابات التعليمية إثر اجتماعها مع الوزارة الوصية على أن مقترحات الحكومة من أجل تعديل النظام الأساسي الخاص بأطر الأكاديميات لم تأت بجديد، "وتبقي على الوضع الحالي للأساتذة المتعاقدين"؛ وبالتالي لا يسع التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد إلا استنهاض الهمم، لتعد بمزيد من التصعيد والبرامج النضالية. إن ما يحدث اليوم نتيجة حتمية لمخططات الإصلاح التي ما فتئت الحكومات تحلم من خلالها بإيجاد مخرج يتيح لها التملص من قطاع يشمل حصة الأسد من شغيلة الوظيفة العمومية، ويثقل كاهل خزينة الدولة. ففي سنة 2004 لاح طيف مبادرة المغادرة الطوعية لفك الضغط على الخزينة. تم التنزيل على أرض الواقع سنة 2005، وكان أهم ما ميز المبادرة ارتفاع في نسبة المغادرين، رافقه شح ملحوظ في التعيينات الجديدة أمام ارتفاع عدد المتمدرسين، ما وسم المبادرة بالفشل الذريع. وسيعترف إدريس جطو بفشل التجربة التي أقرتها حكومته وبأن "المغادرة الطوعية كان لها أثر ظرفي وظلت مفتقرة إلى الرؤية الشمولية"، وهي المبادرة التي ذيلت بتوقيع الرئيس الحالي للمجلس الأعلى للحسابات على مراسيمها التطبيقية والتنظيمية كوزير أول حينها. فكان من الحلول لتدارك الموقف التفكير في الجهوية الموسعة واستقلالية الجهات في التسيير وتقرير شؤونها الداخلية، وهو ما سينعكس تطبيقا أيضا على استقلالية الأكاديميات الجهوية. ومن جهة أخرى، وإلى حدود 2015-2016 كان يفترض في الأساتذة الحصول على شهادة تخول لهم ولوج مراكز التكوين بالمفاضلة، ومن ثم الحصول على شهادة أهلية التدريس، ثم التوظيف بشكل تلقائي، فالترسيم. وبدءاً من هذا التاريخ حرم خريجو المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين من التوظيف المباشر؛ ذلك أن شهادة التأهيل التربوي التي يتحصل عليها الطالب - الأستاذ نهاية فترة التكوين لم تعد تتيح له إلا المشاركة في مباريات توظيف الأساتذة. صدر حينها بلاغ لوزارة رشيد بلمختار يوضح صلاحيات السلطة الحكومية المكلفة بالتربية الوطنية في تحديد شروط وكيفية تنظيم هذه المباريات التي تخول توظيف المرشحين الناجحين في درجات أسلاك التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي. ثارت حفيظة الأساتذة وأقيمت اعتصامات ونظمت إضرابات انتهت بتوظيف آخر الأفواج المتخرجة من مراكز التكوين التي اندثرت وأفل نجمها نهائيا بانظمامها إلى الجامعة، ليتوقف مسلسل التوظيف منذ 2016. هنا خلقت الأكاديميات نظامها الأساسي الذي تمخض عن فكرة عقود الإذعان للتعاقد مع مدرسين لم يخضعوا لأي مفاضلة أو تكوين. والحقيقة أن نظام الأكاديميات يستمد نهجه التعاقدي من النظام الأساسي للوظيفة العمومية، حيث تم سنة 2010 تعديل المادة 105 من ظهير 1958 بما يسمح للإدارات العمومية باللجوء إلى التوظيف بالتعاقد. وحري بالذكر هنا أن ميثاق التربية والتكوين هو الأول الذي أدلى بدلو التعاقد في بئر التشريع التربوي بعد ذلك التعديل، إذ نص في فقرته أ من المادة 135 على أنه: "يسمح بمزاولة مهمة مرب أو مدرس لمن توافرت فيه الشروط التي تحددها السلطات المشرفة على التربية والتكوين، ويراعى في تحديد إطارات توظيف المدرس مبدأ الحفاظ على جودة التأطير في جميع المستويات. ويتم تنويع أوضاع المدرسين الجدد من الآن فصاعدا بما في ذلك اللجوء إلى التعاقد على مدد زمنية تدريجية قابلة للتجديد، على صعيد المؤسسات والأقاليم والجهات، وفق القوانين الجاري بها العمل". وهكذا، وفي ظل استقلالية الأكاديميات الجهوية، أصبح معيار التعاقد يتحدد في ما تراه السلطات المشرفة من شروط كان أهمها في الحقيقة السكوت والإذعان. من جهته أتى المخطط الاستعجالي بعد ذلك ليكرس سياسة التعاقد بنصه تحت بند "تدبير تعاقدي لهيئة الحكامة (إلزامية النتائج وترشيد النفقات)" على وضع نهج تعاقدي وتتبع عملية إعداد عقود البرامج وصياغة منهجية لتقييم تجربة التدبير بالتعاقد بين الإدارة المركزية والأكاديميات الجهوية والمصادقة عليها. ها قد مرت ثلاث سنوات على تتبع التجربة وقد أثبتت هشاشتها وعدم نجاعتها. وأستبعد أن يكون تصريح الوزير بداية النهاية لطي صفحة عقود الإذعان، فالأمر يتجاوز أمزازي. يبدو وكأن دماغا إستراتيجية خارقة وضعت المخطط وجعلت كلا وزير من وزراء التربية الوطنية يضرب إسفينا مختلفا على التوالي في جسم المنظومة التعليمية، في حركية متناسقة ومتجانسة لا تحيد عن الهدف المنشود. وقد رافق كل هذه المراحل مؤشر آخر يدل على أن خارطة الطريق نحو تنفيذ المخطط تم رسمها بشكل محكم وأنها ماضية ببطء في تحقيق مكاسبها بعزم وثبات. ويتعلق الأمر بدور التعليم الخاص، إذ يشكل تراجع المؤسسات التعليمية الحكومية أمام الانتشار الكاسح لمؤسسات التعليم الخاص مؤشرا هاما في وضع لبنات هذا المخطط. نص الميثاق الوطني للتربية والتكوين في فقرات مادته 165 بوضوح وإصرار على دعم قطاع التعليم الخاص، وكانت أهم فقراته "وضع نظام جبائي ملائم ومشجع للمؤسسات الخاصة لمدة يمكن أن تصل إلى عشرين عاما"، وكذلك "تشجيع إنشاء المؤسسات التعليمية ذات النفع العام التي تستثمر كل فائضها في تطوير التعليم ورفع جودته؛ وذلك بإعفائها كليا من الضرائب". ونذكر اليوم دوراً قزما لتلك المؤسسات إلى حدود عقد الثمانينيات، حيث كانت مرتعا "للمتردية والنطيحة" أمام إشعاع المدرسة العمومية. أضحى التعليم الخاص من المسلمات البديهية اليوم، وحتى الأسر محدودة الدخل لا تتكبد حتى عناء التفكير في ارتياد أبنائها المدارس الحكومية. أصبح التعليم مقرونا بدفع المبالغ والرسوم التي تريح الدولة وتضخم أرصدة "مول الشكارة" الذي سيصبح في النهاية الآمر الناهي في شؤون التعليم. وتبين كل المعطيات أن السير حثيث، وأن المخطط ماض في تنزيل رؤاه وتحقيق مراميه بثبات وحتمية لا تشوبها شائبة. هكذا يتم طبخ المقاربة المقاولتية على نار هادئة لتحويل مجال المعرفة المدرسية إلى بضاعة تتزايد عليها أطماع رؤوس الأموال، وتحويل أطر التعليم إلى دمى وعرائس متحركة يتحكم فيها منطق الربحية. تغلف الحكومة منظومة التعاقد برونق الإصلاح الإداري وترسيخ سياسة تدبير الأهداف وسد عجز الموارد البشرية وتوفير فرص الشغل للحد من البطالة، بينما يبقى الهدف الأساسي هو التخلص من قطاع يثقل كاهل الخزينة بعدمية إنتاجيته المادية وإخضاعه لمنطق السوق والمقاولة الشرس. وتأتي الاحتجاجات المتعالية ضد نظام التعاقد كدليل على آخر صور فشل مخططات إصلاح المنظومة التعليمية. برزت هشاشة نظام التعاقد عمليا في أول اختبار؛ والخوف كل الخوف أن تمتد مساوؤه إلى أبعد من ذلك ما دام التعاقد أصبح منذ 2010 بندا معتمدا في القانون الأساسي للوظيفة العمومية. ليس غريبا إذن أن تتخبط المملكة منذ الاستقلال في متاهات إصلاح التعليم دون الاهتداء إلى خيط أريادنة. أيعقل أن تكون كل هذه المعطيات وليدة الصدفة والظرفية؟ ألسنا قادرين فعلا على القيام بقراءة موضوعية عمودية لأزمة التعليم واقتراح حلول عملية تتعدى منطق التجريب؟ لا شك أن التعليم يكتسي أولويته الإستراتيجية في التنمية من خلال قدرته على صقل العقول وتهذيبها وتزويدها بالكفاءة والقدرة على التحليل والنقد لإعداد أجيال واعدة. وما يحدث لا يتماشى وسياسة اقتصاد المعرفة التي تجعل من المعارف والتحصيل أنجع سبل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل يستجيب لعصب الرأسمالية التي تحول المدرسة ببنياتها التحتية ومواردها البشرية طلابا ومدرسين إلى سلعة يتاجر بها ويتزايد عليها.