بأسلوب سردي شيّق وسلس يشعّ عاطفة وحسّا، ما زالت مذكرات "على رأس الأربعين" (الجزء الأول)، للأديب والمؤرخ الراحل، محمد داود، الذي قامت بتقديمه والتعليق عليه كريمته الأستاذة حسناء، تستقرئ زوايا الذكريات والامتدادات التاريخية، وترحل بالقارئ في عوالم مدينة تطوان، في الأحداث والرموز والشخصيات، وفي العادات والتقاليد، لتقف به بين الصّلات والرّوابط وبين الماضي كقوة فاعلة لا تنمحي. في هذه الزاوية وضمن صفحات: 21، 22، 23، 24 و25 من المذكرات ذاتها، يستعيد الأديب محمد داود ببوحه الشّفيف عنفوان مدينة تطوان ومحيطها وكوامن الذكرى، مسجّلا لحظات نابضة داخل مجتمع إنساني تعدّدت عاداته واغتنت ثقافته. ولعلّ المدينة بكل جنباتها وضواحيها وأشجارها وبساتينها وظلالها وسواقيها صارت ملاذا متناغما نحو طقس "النْزاهة" في أبعاده النفسية الفسيحة والمريحة، وفي هذا يقول الرجل: "ونزهة الأسبوع وما أدراك ما نزهة الأسبوع لدى السيّدات والأطفال. لقد كان ظهر الخميس لدينا كأنه عيد من الأعياد، وكانت غرسة العقلة في نظرنا كأنها جنّة من الجنان، ورد وياسمين وزهر ونسرين وقيقلان وفل وسوسان وقرنفل، إلى أزهار بيضاء أو زرقاء وأخرى حمراء أو صفراء، طرق منظمة وأشجار باسقة وظلال وريفة.. وقد أحاطت بتطوان غروس وبساتين من ثلاث جهات، وما من أحد من أغنيائها أو متوسطي الحال بها إلا وله غرسة أو جنان". ويزيد داود، كمتمّمات على هذه المشاهد والعادات، أن المدينة كانت تقضي ستة أيام من الأسبوع في شغل شاغل، ليحل يوم الخميس، فيشتغل الناس في نصفه الأول، ويستريح جلهم في نصفه الثاني. وكان هو يذهب صباح الخميس إلى المسيد، فيقضي به ساعتين أو ثلاث ساعات، ثم يطلق سراحه مع أترابه وكأنهم كانوا في سجن ضيق، فيخرجون إلى ميدان الحرية الفسيح، فيفطرون بالخبز والجبن أو الزبدة والقهوة بدون لبن، أو يشربون الحريرة بالتين اليابس أو الزبيب، ثم ينطلق كل واحد منهم إلى بيت من بيوت العائلة ليذكّرها بالاستعداد لنزهة الأسبوع، والموعد غرسة العقلة. ما احْلى النْزاهة مع الناس لقْدام.. في هذه الالتفاتات والالتماعات يضيف داود، وهو يتعثّر بطريق الطفولة ويستنشق نكهات الحلويات والأطعمة، "فهذه الدار تهيئ القْراشل أو القْفافل، وتلك تصنع الرغائف في الدار أو في الفران، وأخرى تحضر البشْكتّو أو بويوات الذرة بالإدام والخْليع، ومن لم يسمح لها الحال بشيء من ذلك، تأتي بالخبز وجبن الغنم الطري اللذيذ أو القشْقْشَة المتنوعة الأشكال والألوان. ونتغذى نحن الأطفال في الزّوال ونسرع لدار جدتنا فنأتي بمفتاح الغرسة، ولا تمر ساعة حتى تكون الجلسة بها مرشوشة مفروشة، وقد أتت خادمة كل واحدة من الحاضرات بزربية أو تسريح أو لبدة، مع سبنية فيها سكر وأتاي، مع ما حضرته من أكل خفيف ظريف، فتجمع كبيرة الحاضرات ذلك كله، وتضم بعضه إلى بعض، وتنظمه وتنسقه لساعة الحاجة إليه. وتوضع في وسط الحاضرات مبخرة تعبق منها رائحة العود القماري الممتاز، وتنحاز العجائز إلى إحدى جوانب الجلسة وقد غطيت حجورهنّ بمناديل الصوف المخطوطة بالأبيض والأحمر. ثم تأتي الخادمة لهذه السيدة بالطار، ولتلك بالدربوكة، ولأخرى بأكوال (التّعريجة )، فتوزّع آلات الطرب على الحاضرات وتسرع الأوانس في الغناء والطرب" . وقبيل المغرب يكون الرجال قد انتهوا من شرب الأتاي وملؤوا سبانيهم بالنعناع، لهم ولرفقائهم وأصحابهم، فينطلقون إلى حال سبيلهم استعدادا للصلاة مع جماعة المسلمين، وتنطلق النّساء بين الأشجار والأزهار يقطفن من زهورها وفواكهها. أغراس وعطل ولباس وطني.. ومرة أخرى يلامس محمد داود حيرة الطّفل فيه بين البراءة والحنين والذكريات وروح الأشياء، إذ يروي: "كنت إذا مررت بالطرق القريبة من أبواب تطوان، ظهر الخميس أو عشيته، تجد النساء أسرابا، وكلهنّ لابسات الثياب الوطنية البيضاء، لا فرق في ذلك بين الغنيّات والفقيرات، ولا بين المثقّفات والجاهلات. وكانت غراسي زيّانة أكثر البساتين موافقة لتلك النزه الأسبوعية - ظهريات الخميس -، تليها أجنة الطويلع والغراسي القريبة من بابي التوت والنوادر، وكل قوم بناحيتهم معتزون ولها مفضلون، وتلك سنة الله، كل حزب بما لديهم فرحون. أما الغراسي والبساتين البعيدة ككيتان وبوجرّاح والعدوة.. فكان الناس في الغالب يتهيؤون لها يوم الأربعاء، ويبكّرون لها على البهائم صباح الخميس، حيث يقضون النهار كله، ويسمّى ذلك بالقيّولي". وكانت عائلة الأديب محمد داود تقضي قيُولياتها في غرسة والده بكيتان، وكانت تلك القيوليات تاريخية بالنسبة إلى عقله ومحيطه، لأن غراسي تلك الناحية يدخلها جزء من نهر كيتان، فكان رفقة الأطفال يسبحون في تلك السواقي. والأطفال حينما يجدون المياه المأمونة يفعلون ما يغيظ الأمهات والآباء، إلا أن آباء الأطفال ما كانوا يغتاظون من ألعابهم وسباحتهم، لأنها كانت هادئة وديعة مأمونة.. كما أن فواكه كيتان من لشّين وإجّاص وتفاح كانت مضرب المثل في الجودة والمذاق.