شرع رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، منذ شهور في البحث عن تصور جديد لتأهيل شُعب التكوين المهني يعتمد مقاربة واقعية تحدد الأولويات وفقاً لحاجيات الاقتصاد الوطني وسوق الشغل، إلا أنه فشل في حسم ذلك بسرعة وطلب مهلة جديدة من الملك محمد السادس. تحرك الحكومة الذي بدأ منذ فاتح أكتوبر الماضي لم يثمر لحد الساعة أي تصور يرضي الملك بعدما كان قد تطرق إلى الوضع المزري للتكوين المهني في خطابي العرش وذكرى 20 غشت من العام الماضي، إضافة إلى ترؤسه جلسة عمل خصصت لتأهيل عرض التكوين المهني وتنويع وتثمين المهن وتحديث المناهج البيداغوجية قبل خمسة أشهر. وخلال هذا اللقاء كان الملك قد أعطى لحكومة سعد الدين العثماني مهلة ثلاثة أسابيع لبلورة برنامج مشاريع وإجراءات دقيقة في هذا الصدد، لكن تمددت المهلة أكثر من ذلك وما زالت لحد الساعة، مما يُؤشر على أن التصورات التي طرحتها الحكومة في السابق لم تكن في المستوى. ولا يختلف اثنان حول كون قطاع التكوين المهني بالمغرب يُعاني من مشاكل كثيرة جعلته عاجزاً عن القيام بدوره الرئيسي، ألا وهو مد سوق الشغل باليد العاملة المؤهلة، وهذا الوضع المزري الذي يتخبط فيه القطاع راجع إلى اعتبارات بيداغوجية واستراتيجية. ويكفي الرجوع إلى معطيات المندوبية السامية للتخطيط للوقوف على الوضع بشكل واضح: معدل البطالة في صفوف الحاصلين على شهادة التخصص المهني يصل إلى 24.2 في المائة، وشهادات التقنيين والأطر المتوسطة إلى 32 في المائة، وشهادة التأهيل المهني إلى 21.4 في المائة. حساسية هذا القطاع تكمن في كون المستفيدين الذين يلجؤون إليه أغلبهم من الفئات الفقيرة والمتوسطة، حيث يشكل لهم فرصة لاستدراك ما يمكن استدراكه، لكن الواقع يظهر أن التكوين المهني أصبح مثل الجامعات العمومية التي تخرج سنوياً آلاف العاطلين عن العمل. قطاع متخبط وأعداد كبيرة أُحدث مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل سنة 1974، وأريد له أن يكون فاعلاً عمومياً رئيسياً في مجال التكوين المهني في المغرب من خلال تلبية احتياجات الفاعلين الاقتصاديين من حيث الموارد البشرية المؤهلة للمساهمة في إنعاش الشغل، لكن طيلة السنوات التي تلت إحداثه تنقلت مسؤولية تدبيره بين قطاعات وزارية عديدة. تم إحداث سلطة حكومية مكلفة بالتكوين المهني لأول مرة سنة 1995 بعدما كانت إدارة التكوين المهني وتكوين الأطر تابعة لوزارة التجهيز، ثم ألحقت بوزارات عدة بعد ذلك، وهي وزارة التكوين المهني، ووزارة السكنى والتشغيل والتكوين المهني، ووزارة التنمية الاجتماعية والتضامن والتشغيل والتكوين المهني، ووزارة التشغيل والتكوين المهني. وفي بداية سنة 2012 تم إلحاق مكتب التكوين المهني بوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، ولا يزال لحد الساعة كذلك، وهو اليوم تترأسه لبنى طريشة، التي عوضت العربي الشيخ الذي عمّر على رأس المكتب سنوات طويلة. ويشمل مجال التكوين المهني الأساسي والتكوين المستمر أزيد من 340 شعبة تغطي جل القطاعات والجهات، ويبلغ عدد مؤسساتها حوالي 362 مؤسسة بأساتذة مكونين يصل عددهم 11 ألفا في القطاع العمومي، منهم 6 آلاف فقط قارون والباقي عرضيون. وتصل ميزانية القطاع قرابة 400 مليون درهم في سنة 2019، فيما يناهز عدد المستفيدين، حسب إحصائيات موسم 2017-2018، حوالي 600 ألف بعدما كان العدد قليلاً في العقدين الماضين. حاجيات السوق منذ سنة 1995 حين إحداث سلطة حكومية مكلفة بقطاع التكوين المهني لم يتوفر هذا القطاع على استراتيجية مندمجة، ولم يتأت له ذلك إلا سنة 2015 بمبلغ قدره 65 مليون درهم أريد لها أن تضع أفقاً لسنة 2021، لكن بقي الأمر أشبه بالحبر على الورق في ظل ضعف انخراط مختلف الفاعلين في تطبيق ذلك. في تقرير دقيق له أشار المجلس الأعلى للحسابات إلى أن هناك صعوبة للتحكم في حاجيات سوق الشغل نظراً إلى غياب مرجع وطني للمهن والحرف للوصول إلى معرفة حقيقية لسوق الشغل، الذي يعتبر المرحلة الأساسية في عملية التخطيط. وتفيد معطيات وزارة التربية الوطنية أن من بين 100 مسجل في مؤسسات التكوين المهني العمومي هناك فقط 59 مسجلا يحصلون على دبلوم نهاية التكوين. أما فيما يخص المردودية الخارجية، فإن 62.9 في المائة ينجحون في الاندماج بعد 9 أشهر، و83.7 في المائة بعد ثلاث سنوات من التخرج. ومن بين النقط التي أثارها تقرير المجلس الأعلى للحسابات نجد محدودية نظام التوجيه بين التربية الوطنية ومؤسسات التكوين المهني، حيث أشار إلى أن مسطرة التوجيه المعتمدة تقتصر على جمع الطلبات المعبر عنها أثناء الحملة السنوية للإعلام والتوجيه في المؤسسات التعليمية. لكن هذه المسطرة تعتريها اختلالات عدة، أبرزها غياب جدولة مشتركة بين القطاعات المعنية بالتكوين، وغياب نظام معلوماتي مندمج لتدبير مسطرة التوجيه، إضافة إلى غياب التوجيه الفعلي للتكوين المهني نظراً إلى انعقاد مجلس الأقسام الذي له صلاحية النظر في توجيه التلاميذ قبل نشر مباريات الولوج إلى مؤسسات التكوين المهني. وتفيد الأرقام الرسمية، التي كشف عنها المجلس الأعلى للحسابات، إلى أن 5 إلى 10 في المائة من خريجي مؤسسات التكوين المهني فقط يسجلون في المستوى الموالي الأعلى الخاص بالتكوين المهني، مما يعني أن هؤلاء الخريجين لا تمنح لهم أي فرصة لتحسين مستواهم المهني أو الدراسي. رهان الكم عوض الكيف استقت هسبريس آراء بعض العارفين بقطاع التكوين المهني، لكنهم فضلوا عدم ذكر أسمائهم نظراً إلى المسؤوليات التي يتحملونها، وكان مفاد هذه الآراء أن عدم ملاءمة التكوين المهني لمتطلبات سوق الشغل "ليس حادثة وقعت هكذا، بل كان اختياراً للدولة بعدما تبين لها أن نسبة الهدر المدرسي بلغت مستويات كبيرة سنتي 2002 و2003". وقد تزامن هذا الأمر، حسب هذه الآراء، مع سنة 2003 التي شهد فيها المغرب أحداثاً إرهابية بالدار البيضاء، وكانت الفكرة السائدة لدى السلطات أن نسبة كبيرة من الذين يهجرون المدرسة لا يتم "ضبطهم" من طرف الجمعيات أو النقابات أو الأحزاب، باعتبارها هيئات لتأطير المواطنين، وهو ما يرفع شريحة الفئات التي لا تدرس ولا تخضع للتكوين ولا تحصل على فرصة شغل، مما يعني أنها "قنابل مفتوحة على سيناريوهات كيفما كانت". وفي هذا السياق، أُريد للتكوين المهني أن يستقطب هذه الفئة لتصبح مهمة القطاع "اجتماعية وسياسية" وليست مهمة اقتصادية بامتياز، وبالتالي أصبح هاجس الجودة في التكوين غير ذي أهمية، بل أصبح الرهان هو عدد الخاضعين للتكوين في المؤسسات. والرقم الأبرز في هذا الصدد يكمن في كون عدد المتدربين لم يكن يتجاوز 50 ألفا قبل أكثر من عقد من الزمن ليصبح الرقم حالياً قرابة نصف مليون، مما يعني أن الرقم تضاعف عشر مرات، على الرغم من أن الإمكانيات لم تواكب هذا التطور على مستوى الإمكانيات المادية والبنيات. خلق الشعب عشوائياً تشير إفادات عدد من الأساتذة في قطاع التكوين المهني إلى أن خلق الشعب لا يتم بناء على متطلبات النسيج الاقتصادي جهوياً أو إقليمياً، بل يتم ذلك في بعض الأحيان بدون دراسة استشرافية، إضافة إلى إلغاء عدد من الآليات، التي كان القطاع يتوفر عليها من قبيل الموجهين والمفتشين وبرامج تكوين الأساتذة وطنياً ودولياً. وفي ظل الرهان على الكم عوض الكيف ورفع عدد المسجلين سنوياً أصبح التكوين المهني غير منتج للجودة كنتيجة حتمية، وهذا الأمر يترتب عنه انخفاض في نسبة الاندماج في سوق الشغل، وتعبير المقاولات عن عدم رضاها عن مستوى الكفاءات الخريجة. كما أن انتشار عدد من مؤسسات التكوين المهني في عدد من المدن المغربية يجعل التكوين بالتناوب غير ناجح في ظل غياب مقاولات تستقبل المتدرب من أجل التكوين، وحتى إن كانت موجودة فإن حس المواطنة يغيب عنها وتكون بنياتها ضعيفة. هذا الوضع يدفع، حسب الآراء التي استقتها هسبريس، المتدربين إلى التخلف عن إجراء فترة التدريب أو اللجوء إلى ورشات عادية تشتغل في القطاع غير المهيكل، وهو الأمر الذي يرتبط بشكل عام بهشاشة الاقتصاد الوطني الذي ينخره القطاع غير المهيكل بشكل كبير. الموارد البشرية وضعف التكوين في نظر محمد زندور، المكون بالمعهد المتخصص للتكنولوجيا التطبيقية بمدينة خنيفرة، فإن قطاع التكوين المهني يعاني أيضاً من الفوارق في توزيع التخصصات في أرجاء البلاد. كما يشير إلى أن المؤسسات التكوينية تفتقر إلى اللوازم الأولية والبسيطة مثل الكراسي والطاولات والموارد البشرية الكافية. وفيما يخص الموارد البشرية، يشير زندور، في حديثه لهسبريس، إلى اعتماد إدارة التكوين المهني بشكل كبير على المكونين العرضيين، تنضاف إلى ذلك، حسب المتحدث، قلة مباريات التوظيف، ناهيك عن عدم التحاق الناجحين فيها بمراكز توظيفهم في ظل ضعف الأجور والتحفيزات مقارنة بالديبلومات وسنوات التجربة التي يشترطها المكتب. وفي نظر زندور، فإن الوحدات، التي ما زالت تدرس في مؤسسات التكوين المهني بالمغرب، أصبح مضمونها متجاوزا أمام ما وصلت إليه التقنيات والتكنولوجيات الحديثة في العالم، ناهيك عن عدد الساعات المخصصة لكل وحدة والمُعامل رغم اختلاف الساعات والأهمية. كما يشير الأستاذ المكون أيضاً إلى إهمال إدارة التكوين المهني للشروط اللازم توفرها في مؤسسة التكوين المهني، ومن بينها مكتبة ومقصف للمتدربين وقاعة للمكونين. ويوضح في الصدد أن "جل مؤسسات التكوين المهني رغم تنصيصها في القانون الداخلي على الوحدة الديداكتيكية، فإنها تفتقر إلى مكتبة يستفيد منها المتدرب والمكون معاً". ما العمل؟ حين شرّح قضاة المجلس الأعلى للحسابات قطاع التكوين المهني سنة 2015، قدموا عدداً من التوصيات العامة لمعالجة معضلات القطاع، وكان من بينها ضرورة إعداد خريطة توقعية للتكوين المهني، إضافة إلى نظام معلوماتي مندمج من أجل تتبع المنظومة. كما يرى المجلس أن هناك ضرورةً لتحسين أنظمة الجسور الداخلية والخارجية لتحسين جاذبية التكوين المهني لدى الشباب ودعم آليات التوجيه بشراكة مع وزارة التربية الوطنية، ناهيك عن تحسين نظام التكوين أثناء العمل، وتفعيل الهيئات المكلفة بتنسيق وتقنين عرض التكوين المهني. بالإضافة إلى إصلاح شامل لطريقة تدبير هذا القطاع وجعله متناسقاً مع التعليم العالي والتربية الوطنية من أجل أن يجعل الانتقال بينهما سلساً، وبالتالي التشجيع على التكوين المستمر والمرور إلى المستويات الجامعية، إضافة إلى حث القطاع الخاص على أخذ مسؤولية تدريب المستفيدين على محمل الجد واعتبارها مسؤولية وطنية.