تقديم (بتلات لمقهى الزهور) لسعد سرحان ليست سوى واحدةٍ من بتلات كتاب (مراكش التي كانت) الذي أصدره ياسين عدنان بالفرنسية عن (دار مرسم) العام الماضي قبل أن تصدر طبعته العربية مؤخرا فقط. هذه المقالة / البتلة هي وشقيقاتها اللواتي تَوّجن الكتاب انحدرن جميعًا من بين صلب الحنين وترائب الذكرى. فلا عجب أن جئن في الأبيض والأسود، اللّونين اللذين ينتهي إليهما كلّ ماض مهما كان لونه. ولأنهن كذلك، فقد انبرى لهنّ، تحميضًا وتوضيبًا، ثلّة من فنّاني المدينة الفوتوغرافيين، في توأمة حارّة للقلم والعدسة، لجعلها موضوعَ معرض مفتوح. أمّا اللّقلاق، الشاهد الحزين الذي رأى المدينة دائمًا من علٍ.. اللقلاق بلونيه الأبيض والأسود، بصمته الفصيح، بمنقاره الذي كالقلم وعينه التي كالعدسة، فقد صارت له ، في مدينة بكرمِ مراكش، دارٌ تحمل اسمه الحركيّ: (دار بلّارج). وفي داره هذه سيستضيف اللقلاق المدينةَ، كِتابَها وصُورَها، أدباءها وفوتوغرافييها، الحنينَ وأتراَبَهُ، في معرض سيظل مفتوحا في وجه العموم ابتداء من السبت 9 مارس حتى 30 سبتمبر المقبل. بتلات لمقهى الزهور (الدليل الأزرق) في الدليل الأزرق لمدينة مراكش، كان السائح، حتى ثمانينيات القرن الماضي، يجد الساحة والصومعة، الصهريج والعرصة، المتحف والفندق، الجبل والوادي، القصور والقبور.. ومقهى الزهور. أما الأجانب المقيمون، ومعظمهم من ذوي اللسان الفرنسي، أولئك الذين كانوا متعاونين أو متعاقدين مع قطاعيْ الصحة والتعليم على الخصوص، فلم يكونوا في حاجة إلى دليل من أي لون، ليس فقط لأن ضالتهم كانت في مكان معلوم، بل أيضا لأن دليلهم الفصيح إلى مقهى الزهور كان عبارة عن باقات زهور من مختلف الألوان والروائح، تلك التي كانت تُعرض كل صباح عند أبواب السوق المركزي، الجاِر الأنيق للمقهى. ولعل الشَّعر الأشقر وعُجْمة اللسان واللباس الجريء لرواد الزهور من مختلف الجنسيات، ما كان يعطي لزبنائه المغاربة الإحساس بوضعهم المتقدم. فهم، وبلا تأشيرة تشهر، كانوا يشاطرون النصارى حداثة المكان، ويأخذون عنهم غير ما تقليد. (الزهور صباحا) تفتح الزهور أبوابها مع الأصوات الأولى للصباح، تماما كما تفعل الزهور إذ تتفتّح على إيقاع الزقزقة. ومن الغبش حتى الضحى تولِمُ للزبائن الفطور تلو الفطور. فقبل الثامنة يأتي الكثير من النصارى والقليل من المغاربة الذين يحذون حذوهم لا في اللغة فحسب، بل أيضا في البوتي فور والكافيه سيبَّاريه وتصفح المجلات الفرنسية التي يوفرها الفتى محسن، صبي كشك الجرائد المجاور، مقابل بقشيش معلوم. وبعد أن يغادر معظم هؤلاء نحو أعمالهم، تبدأ ملامح المقهى تتغير تدريجيا، فتخفت الفرنسية لصالح الدارجة، ويظهر على الموائد المسمن بالعسل والقهوة بالحليب، وتكثر الاحتجاجات على الندل... أما الفتى محسن، فيواري مجلاته الملونة ويشهر الجرائد الوطنية بعناوينها المتجهمة. فإذا اشتد الصباح امتلأت الزهور عن آخرها بزبائن القهوة، فيصبح المكان مراكشيا تماما: لا مجلات، لا كرواسان ولا عصائر.. فقط، القهوة مهرسة والكَارُّو والكوكب المراكشي. (الزهور زهورًا) نسرين، نرجس، ياسمين، كاميليا.. هذه بعض أسمائهن. بأكمام وبلا أكمام كنّ يأتين الزهور أصيلا ولا يغادرنها قبل أن يجن الليل.. شوقًا إليهن. بأسمائهن، بالعطور والكركرات كن يضفين على الزهور ما تضفي الزهور على النفس. يحتسين فناجين القهوة ويدخن السجائر الرشيقة، فإذا ارتفعت حرارة المكان، يتخففن من الملابس تخفف الزهور من البتلات، فيظهر منهن ما يسر الزبائن والندل والهواء. بإشارة منهن تأتي ألوان العصائر ومعها علب الحلويات من المحل المجاور، فيقبلن عليها بشراهة كأنها الشبق. فما ألذ الحلوى محشوة بالحلوى وطوبى لمن ستنتهي إليه مَنًّا وسلوى. نسرين، نرجس، ياسمين، كاميليا.. هذه بعض الأسماء التي يرتضينها فيرتدينها. ما هَمَّ إن كانت صريحة أو مستعارة، فبها حوّلن المقهى إلى مزهرية تضجّ بعطورهن وبتلاتهن، تلك التي ما إن يسقطنها حتى يبتن حطبا للغرائز في مواقد الهزيع الأخير من الليل. نسرين، نرجس، ياسمين، كاميليا.. أسماء زهور حقيقية طالما حلمت أن تكونها خضراء الدمن. (مجانين ليلى) ليلى ليست واحدة منهن. ليلى ليست زبونة للزهور. ليلى اسم مقهى آخر. وفي هذا الآخر كنا نلتقي بلا موعد. فهو أقرب إلينا وإلى مكتبتنا الأثيرة: مكتبة عليلي. نأخذ الكتاب من هنا ونقرأه هناك، ولنا في المكانين حظوة. وبسبب من الحظوة تلك، اقترح عليَّ السي محمد البوزيدي إصدار ديوان لي عن منشورات مكتبته الفتية، وكذلك فعل مع الشاعر طه عدنان الذي كانت قصائده الجامعية قد نالت إجازتها قبله بسنوات. بعد قليل من المشاورات والكثير من نكران الذات، سنحوّل اقتراح صاحبنا إلى إصدار مجلة.. فكانت أصوات معاصرة. في مقهى ليلى حرّرنا العدد الأول وكتبنا افتتاحيته. في ليلى تعرفنا على أصدقاء جدد من كتّاب المدينة وزوّارها. في ليلى حيكت تلك المؤامرة السخيفة، فما سادوا ولا تفرّقنا. وفي ليلى شهدنا اليوم ياء. فحول طاولة على سطيحتها تحلقنا ذات ليلة رمضانية نتملى الطلعة البهية للعدد الأول، منتشين بأبوّتنا البكر. وبينما كنا - ياسين، طه، جمال، عبد العزيز، السي محمد.. وأنا- نتصفّح النسخ ونتبادل حولها الملاحظات، وقف علينا النادل بصينية عامرة بأصناف العصائر نخبًا حلالًا من الحاج محمد، صاحب المقهى. يا إلهي، من يصدّق؟ قبل عشرين عاما فقط أصدر صاحب مكتبة مجلة ثقافية، واحتفى بصدورها صاحب مقهى، فيما كان اثنان من محرّريها لا يزالان طالبين في الجامعة. أليس السي محمد البوزيدي والحاج محمد بن حادة وجهين لعملة فريدة؟ خصوصا بعد أن جفت مياه كثيرة تحت الجسر، فاقتربت المكتبات من أساطير الأولين، وأمست المقاهي ملحقات حقيقية للملاعب الرياضية، فيما تفرّق دماغ الطلبة بين المواقع؟ بعيدًا عن مضارب بني عامر، قريبًا من شارع فلسطين، كان لليلى مجانينها. (الحبر صنو القهوة) قَدَر الحبر أن يكون صنو القهوة، فلولا اهتداء الإنسان إليه لاتّخذها مادة للكتابة. ولنا فقط أن نتأمل القهوة المركّزة والحبر الصيني لنتأكد أيّ توأم هما. فلا غرابة، إذن، أن تكون المقاهي من مختلف الجنسيات بين أكثر الأماكن التي يسفك فيها المداد. ففيها تقرأ الجرائد وتحرّر المقالات وتكتب النصوص والبيانات.. ومنها انطلقت أشهر الحركات الأدبية على مرِّ العقود. وإذا كان مقهى ليلى قد شهد أصوات معاصرة من النطفة حتى القماط، فإن مقهى الزهور كان الساحة الأولى للغارة الشعرية. كنا ياسين، طه وأنا، نشرب قهوتنا ذات صباح في الزهور حين اندلعت من نقاشاتنا تلك الشرارة التي تعهّدناها بالحطب والأنفاس، فلم تمر سوى أسابيع قليلة حتى وصلت حرارتها إلى الجرائد والمجلات، بعد أن فوجئ الكثيرون بالغارة الأولى في صناديق بريدهم. لقد أردينا العديد من الشعراء أصدقاء بعد أن اصطفيناهم دريئة لكنانتنا، فغنمنا الكثير من قصائدهم وترجماتهم، وحوّلناها ذخيرة حيّة للأعداد اللاحقة من الغارة والخراطيش. ومثلما كان طه رجل الظل في أصوات معاصرة، فقد ظل كذلك مع الغارة. فرغم عدم إعلان مسؤوليته عن إطلاقها، كان يتحمل الجزء الأكبر من تلك المسؤولية، ذلك أن استحضار الفرساوي، خطّاط الغارة الأول، كان دونه استحضار الأرواح. أما الزّج به في المقهى والصبر على تلكئه حينا وتملصه أحيانا فيستحق التحية. لقد كان الفرساوي فنانا ذا مزاج يحتاج إلى الكثير من غضّ الطرف والكفّ معا. ومَنْ غير طه كان قادرا على ذلك في الوقت الذي كان فيه ياسين يعمل في ورززات، ورشيد يسعى بين بنسليمان والرباط، فيما كان صدري، أنا بالذات، يضيق عن تلك الفرساويات. في ليلى والزهور حرّرنا الكثير من الأعداد واستقبلنا العديد من الأصدقاء، وشهدنا الكثير من الوقائع التي تستحق أن تصدر في عمل مستقل، أعدكم بعدم كتابته. وسأكتفي بواقعة صغيرة حضرتها كل جماعة الغارة بمن فيهم الشاعر رشيد نيني، الذي كان معنا بالمراسلة قلبًا وقلمًا منذ العدد الأول، وقد كتب إحدى افتتاحياتها لاحقا. التقينا في الزهور لكتابة العدد الثاني. فجاء ياسين بقلم حبر فاخر من أشهر مكتبة بالمدينة، وما إن أشهره الفرساوي حتى عمد إلى تكسير ريشته أمام دهشة الجميع، وأمام دهشة الجميع أبدع به صاحبنا أجمل الخطوط. لقد كسرت الغارة ريشة القلم فحلّق الشعر عاليا. بعد نجاح الغارة، وهي حركة في تداول الشعر لا في كتابته، أنشأت لها فروعا أخرى: الخراطيش، مدن شاعرة، نيكروفيليون، البطائق الشعرية. كما أصدرت عددا مخطوطا على الجلود والشموع والأحجار والزجاج. دون أن ننسى موقع الذبابة الإلكتروني الذي أسسه الشاعر هشام فهمي، أحد المغيرين الأوائل شاعرا ومترجما. هكذا، وبكلفة تزيد قليلا عن لا شيء، أصبح لنا هولدينغ شعري يترأس مجلس إدارته الشعر شخصيا. ولكم فقط أن تلاحظوا أيّ أثرياء شعر صرنا. (الغارة) وَغَلنا في لحم البراري ووَلَغنا في دمها العسير ... وحين انصرفنا إلى عروشنا كانت طيور الجِيَف تشحذ مناقيرها على العظام. (غوغل إيرث) لا يقارن عدد زبناء الزهور الآن سوى بعدد متصفحي الدليل الأزرق. فنصارى المدينة غادروا إلى بلدانهم بعد أن تقاعدوا أو أنهوا تعاقداتهم، وعوّضهم آخرون حلوا بها لينعموا بتقاعدهم المريح، فرمّموا دورا لهم، وصارت لهم مشاريعهم ومقاهيهم، بعد أن كان لأسلافهم شارع رمزي يشرب فيه المغاربة قهوتهم بلا تأشيرة. فما حاجة هؤلاء إلى الزهور مقهى وبناتٍ؟ وما حاجة البنات إليها وقد عمّت المدينة المطاعم الأمريكية والبيتزيريات..؟ ما حاجتهم جميعا إلى مقهى لم يعد السوق المركزي جاره الأنيق؟ لقد كبرت المدينة وتغيّرت ملامحها تماما، فانتقلت مراكز ثقلها إلى أماكن أخرى. هكذا صارت الزهور لمقاهي مراكش الطارئة كالدليل الأزرق لغوغل إيرث. (سؤال الورقة) لماذا سمي مقهى الزهور بهذا الاسم؟ أ- لأنه كان على مرمى نظر من السوق المركزي الذي تضجّ مداخله بالزهور. ب- لأنه، احتفالا برأس السنة، كانت تتربّع فوق كل طاولة منه مزهرية بها زهور حقيقية، زهور من الزهر لا من البلاستيك. ج- لأن زبوناته كنَّ يرتدين الأزهار ملابسَ وأسماءً. د- لأن الحاج محمد سمّى المقهى على اسم كريمته البكر: ليلى، فيما صاحب الزهور ليس له ابنة بهذا الاسم.