عزز دستور الفاتح من يوليوز من الصلاحيات التشريعية للبرلمان، وأعطى لمجلس النواب "اليد الطولى" في المسطرة التشريعية، فأحكام الفصل 70 من الدستور تجعل البرلمان في موقع الصدارة في ممارسة التشريع، من خلال تصويته على القوانين، إلى جانب اختصاصات أخرى تم توسيعها لتشمل أيضا تقييم السياسات العمومية، بالإضافة لأحكام الفصل 71 الذي يجسد مبدأ العقلنة البرلمانية، الذي عدد بشكل صريح المجالات الرئيسية للتشريع البرلماني دون إغفال العبارة التي تصدرت الفصل والتي جاء فيها: "يختص القانون، بالإضافة إلى المواد المسندة إليه صراحة بفصول أخرى من الدستور، بالتشريع في الميادين التالية" والتي تبين أن مجالات التشريع توجد في فصول متفرقة من الدستور إلى جانب هذا الفصل الرئيسي، هذا بالإضافة إلى ما تضمنته الديباجة التي أشار الدستور صراحة إلى أنها تشكل جزءا لا يتجزأ من هذا الدستور وذلك بالنظر إلى أن ما تضمنته من مقتضيات قد تشكل موضوعا للتشريع. لقد أسدل الستار على أشغال دورة أكتوبر 2018 – 2019 بمجلس النواب يوم 14 فبراير الجاري، وبذلك تصل الولاية التشريعية العاشر (2016 – 2021) إلى منتصفها، وهو ما يعني قرب إجراء الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، مما يعطي للمتتبعين إمكانية رصد الحصيلة النصفية للعمل التشريعي بمجلس النواب. وبالرجوع إلى الحصيلة النصفية للولاية التشريعية العاشرة (2016 – 2021)، نجد أن النصوص المصوت عليها أكثر بقليل من 150 نصا تشريعيا، منها 9 مقترحات قوانين فقط بالإضافة إلى قرابة 75 قانونا يقضي بالموافقة على اتفاقيات دولية ثنائية ومتعددة الأطراف في إطار التزامات المغرب وانفتاحه على العالم الخارجي وتعزيز حضوره الدولي. سنتطرق في هذه الورقة الأولى للاتفاقيات الدولية التي أقرها مجلس النواب على شكل مشاريع قوانين، حيث يأتي هذا الحضور الكبير للاتفاقيات الدولية ضمن حصيلة نصف الولاية تنفيذا لأحكام الفصل 55 من الدستور الذي يلزم بعرض الاتفاقيات الدولية التي تلزم مالية الدولة على البرلمان للموافقة عليها، حيث تنص الفقرتان الثانية والثالثة على أن: "يوقع الملك على المعاهدات ويصادق عليها، غير أنه لا يصادق على معاهدات السلم أو الاتحاد، أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة، أو تلك التي تترتب عنها تكاليف تلزم مالية الدولة، أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، أو بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، العامة أو الخاصة، إلا بعد الموافقة عليها بقانون. للملك أن يعرض على البرلمان كل معاهدة أو اتفاقية أخرى قبل المصادقة عليها ..." وقد جاءت القارة الافريقية في مقدمة القارات من حيث عدد الاتفاقيات الدولية التي تم التصويت عليها بمجلس النواب، فقد بلغ عدد مشاريع القوانين المتعلقة بالموافقة على اتفاقيات دولية مع دول هذه القارة أو مع مؤسسات الإتحاد الافريقي 42 قانونا يمكن تقسيمها إلى ما يلي: 34 اتفاقية دولية ثنائية مع عدد من دول القارة الافريقية في مختلف المجالات وإن كان من أهمها حماية الاستثمارات وتعزيزها، والتخفيف من الحواجز الجمركية ومنع الازدواج والتهرب الضريبي، بالإضافة على التعاون في المجالات القضائية والادارية، وهي اتفاقات هدف من خلالها المغرب إلى تنمية التعاون الثنائي ونقل الخبرات للدول الافريقية، وفتح الأبواب أمام سهولة تنقل البضائع والخدمات ورؤوس الأموال ؛ 8 إتفاقيات كبرى مع الاتحاد الافريقي، وعلى رأسها القانون رقم 01.07 الذي يوافق بموجبه على القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي، الموقع بلومي (التوغو) في 11 يوليو 2000، كما تم تعديله بالبروتوكول الملحق به ، المعتمد بأديس أبابا (إثيوبيا) في 3 فبراير 2003 وبمابوتو (الموزمبيق) في 11 يوليو 2003، وذلك على اثر تقديم المغرب لطلبه لعضوية الاتحاد الإفريقي، وكان لا بد من اعتماد هذا القانون قبل انعقاد القمة الافريقية التي تم خلالها قبول ملف انضمام المغرب رسميا للاتحاد، وكان هذا أو قانون يصوت عليه في الولاية العاشرة (دون أن نتناسى أنه كان السبب في انعقاد المجلس ةانتخاب هياكله رغم فترة البلوكاج التي عرفها تشكيل الحكومة على إثر انتخابات 2016)، لتليها اتفاقيات أخرى تتعلق بهياكل الاتحاد ومؤسساته: بروتوكول مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الافريقي، المعاهدة المؤسسة للجماعة الاقتصادية الافريقية، معاهدة البرلمان الافريقي، النظامين الأساسيين لأفريقيا 50 – المتعلق منهما بتنمية المشاريع والمتعلق بإنشاء المقر الاجتماعي بالمغرب، اتفاقية حول الأرصاد الجوية واتفاقية منع الفساد ومكافحته. هذه الاتفاقيات والبروتوكولات كان اعتمادها ضروريا من أجل اندماج المغرب في هياكل الاتحاد الإفريقي ومؤسساته والانخراط في سياساته بعد نيل العضوية فيه، وبالتالي فإنه من السهل وصف النصف الأول من الولاية التشريعية الحالية بأنه: "ذو نفس إفريقي"، وهو ما يجعل مجلس النواب في تناغم تام مع التوجه العام للدولة الذي أخذ بعدا إفريقيا كخيار استراتيجي لهذه المرحلة على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية (بما فيها الدبلوماسية البرلمانية) وعلى الصعيد الثقافية أيضا. وتأتي القارة الأوروبية؛ الشريح التقليدي والتاريخي للمغرب؛ في المرتبة الثانية ب 12 اتفاقية دولية، في مجالات تتعلق بالتعاون الاقتصادي والاستثمارات، ويمكن ان نقسم هذه الاتفاقيات إلى: اتفاقيات مع دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي: وعددها 7 قوانين من أجل المصادقة على اتفاقيات مع هذه الدول، منها 3 اتفاقيات مع اليونان، واتفاقيتين مع ايطاليا، واتفاقية مع سلوفينيا بالإضافة إلى اتفاقية مهمة مع هولندا ويتعلق الأمر بمراجعة الاتفاقية العامة للضمان الاجتماعي بين المملكة المغربية ومملكة الأراضي المنخفضة لسنة 1972 بشأن كيفية تطبيق الاتفاقية العامة للضمان الاجتماعي بين المملكة المغربية ومملكة الأراضي المنخفضة، والتي أثارت الكثير من الجدل بخصوص إحصاء ممتلكات الجالية المغربية المقيمة بهولندا التي يتوفرون عليها بالمغرب. ويمكن تفسير قلة الاتفاقيات مع دول الاتحاد الأوروبي الشريك الأول والتاريخي للمغرب بكون الاتفاقيات الجماعية في إطار الاتحاد تنظم مجمل علاقات المغرب مع هذه الدول، كما أن علاقات المغرب على مستوى الاتفاقيات مع شركائه التقليديين بشكل ثنائي قد بلغت حد "الإشباع" نظرا لتاريخ هذه العلاقات وتشعبها ؛ اتفاقيات مع دول غير اعضاء في الاتحاد الأوروبي: وعددها 5 اتفاقيات من بينها 3 اتفاقيات مع روسيا الفدرالية، تتعلق بالمساعدة الإدارية في المجال الجماركي والخدمات الجوية وتسليم المجرمين، وتأتي هذه الاتفاقيات في إطار الاستراتيجية المغربية لانفتاح على روسيا وتعزيز العلاقات معها تفعيلا للشراكة الاستراتيجية بين الجانبين والتي عرفت أوجها خلال الزيارة الملكية لروسيا سنة 2016 وانعقاد اللجنة المشتركة بين الجانبين سنة 2018، وهو ما يؤكد مرة أخرى تفاعل البرلمان مع التوجهات العامة للدولة ودعمها من خلال المصادقة على مخرجات السياسة الخارجية المتعلقة بالأوفاق الدولية. بالاضافة لاتفاقية بشأن الخدمات الجوية مع صربيا التي تتنامى علاقاتها بالمغرب مؤخرا من خلال تعدد الزيارات والتصريحات، وأيضا اتفاقية دولية مع البوسنة والهرسك في موضوع التعاون التجاري. وتحتل المنطقة العربية المرتبة الثالثة ضمن الاتفاقيات التي صوت عليها مجلس النواب بمجموع 7 اتفاقيات، 4 منها بشكل ثنائي مع كل من البحرين وقطر (اتفاقيتين مع كل منها) و3 اتفاقيات دولية متعددة الأطراف مع الدول الأعضاء في الاتفاقية العربية المتوسطية للتبادل الحر التي تضم إلى جانب المغرب كلا من: تونس ومصر والأردن، وهو تجمع عربي لدول تجمعها جميعا علاقات شراكة على مستويات متعددة بالإتحاد الأوروبي، وتتشابه في بنية صادراتها، مما دفعها إلى التنسيق فيما بينها للاستفادة من امكانياتها وتوحيد مواقفها وتحقيق أهداف إعلان برشلونة بشأن إقامة المنطقة الأورومتوسطية للتبادل الحر وكذلك تشجيع الاستثمارات المتبادلة فيما بين البلدان الأعضاء وجعل فضائها الاقتصادي أكثر اندماجا وجذبا للاستثمارات الخارجية. وبخصوص القارة الآسيوية، المعروفة بأنها من أسرع مناطق العالم نموا والتي ينظر إليها الجميع كمنطقة ثقل استراتيجي في المستقبل القريب، فمن الملاحظ أن هناك ضعفا في الاتفاقيات المتعلقة بها، حيث تأتي الصين في مقدمة الاتفاقيات المصوت عليها ب 3 اتفاقيات همت التعاون في المجالات العسكرية والقضائية والجنائية، وبنغلاديش باتفاقية واحدة، ثم اتفاقية دولية واحدة مع أذربيجان الجمهورية السوفياتية السابقة، فمن الملاحظ أن هذه الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفياتي السابق لا زالت لم تحظى بعد بأهمية كبيرة في السياسة الخارجية المغربية التي لا تمتلك إرثا تاريخيا في العلاقة معها. أما بخصوص الاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف والتي بلغ مجموعها 7 إتفاقيات، فقد صوت مجلس النواب على: اتفاقيتين معتمدتين من طرف منظمة العمل الدولية تهمان العمل الجبري وإنشاء القواعد الصحية في التجارة والمكاتب ؛ اتفاقية واحدة بخصوص وثائق الاتحاد البريدي العالمي ؛ اتفاقية تتعلق بإنشاء المركز الاستشاري لقوانين منظمة التجارة العالمية ؛ فيما تتعلق الاتفاقيات الثلاث (3) الأخرى بمواضيع بيئية ترتبط بالمواد المستنفذة لطبقة الأوزون، زيت الزيتون وزيت المائدة وأيضا إنشاء للمركز الدولي لتطبيق الحد من الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات وتدهورها (إسيريد)، وهو ما يتماشى مع توجه المغرب في الموضوع البيئي، خاصة فيما يرتبط بالتزامات المغرب الدولية على مستوى فعاليات ال COP22 التي ترأسها المغرب وغيرها من المنتديات والمؤتمرات البيئية الدولية والقارية. من خلال هذه النقطة الأولى المتعلقة بالانتاج التشريعي لنصف الولاية العاشرة بمجلس النواب والمخصصة للاتفاقيات الدولية، نلاحظ أن مجلس النواب استمر في التصويت على الاتفاقيات الدولية بنفس الوتيرة تقريب، فالولاية التاسعة بأسرها عرفت المصادقة على 163 اتفاقية دولية، في حين أن نصف الولاية العاشرة الأول اختتم بالتصويت في مجلس النواب على 78 اتفاقية دولية، كما أن المجلس واكب السياسة الخارجية المغربية من خلال إقراره لمجموعة قوانين مرتبطة بالعلاقات الخارجية للمغرب، وهو ما جسدته مجموعة من هذه النصوص وكمثال على ذلك ما أسميناه "النفس الإفريقي" انطلاقا من القانون الأساسي للإتحاد الإفريقي (الذي كان أول نص تشريعي في هذه الولاية) وصولا إلى الاتفاقيات المرتبطة بالإتحاد والاتفاقيات الثنائية مع الدول الإفريقية، إضافة لروسيا والقضايا البيئية. *باحث في القانون العام بجامعة محمد الخامس –الرباط- [email protected]