لا تبدو قرية أنفكو في سنة 2019 مختلفة عمّا كانت عليه في سنة 2007، إذ شدّتْ إليها أنظار الرأي العام الوطني وحتى الدولي، بعد أن تُوفي، بشكل متزامن، حوالي ثلاثين رضيعا من أبنائها، وحُمّلت مسؤولية وفاتهم للبرد القارس وطُوي الملف، لكنَّ جُرح الشقاء والمعاناة والألم لازال ينزف إلى اليوم. تتراءى لزائر أنفكو مشاهدُ التهميش والبؤس في كل مكان؛ على وجوه الشيوخ والعجائز المحفورة بتجاعيد الزمن القاسي، وعلى وجوه النساء اللواتي يَشقيْن داخل البيوت وخارجها، وعلى وجوه الصبيان، وعلى واجهات البيوت الطينية والدروب الضيقة...وفي كل مكان. باختصار: أنفكو لوحة معبّرة عن التهميش في أقصى تجلياته. مَشاريعُ مَلكية في مهبِّ الريح قبل أن يلتفت مسؤولو الرباط إلى قرية أنفكو، بعد فاجعة وفاة رُضّعها، كان مطلبُ أهلها الرئيس هو فكّ العزلة عنهم. استُجيب لهذا الطلب بعد زيارة الملك محمد السادس إلى القرية سنة 2008، لكنْ سرعان ما عادت أنفكو لتعيش وسط عزلتها، بسبب "انتهاء مدّة صلاحية الطريق"، بسرعة قياسية. تتخلل الطريقَ من تونفيت إلى أنفكو وديان، حين "تَحمل" ينقطع الطريق تماما، بسبب عدم تجهيزه بقناطر. "لقد أعطى الملك أوامره للمسؤولين بربط قريتنا بالطريق، لكنهم لم يُنجزوا عملهم على النحو المطلوب"، يقول أحد أبناء أنفكو لهسبريس، مضيفا: "رشّوا على الطريق قليلا من الزفت وانصرفوا". لا يستطيع المرء أن يشعر بمعاناة سكان قرية أنفكو إلا إذا زارها، وقضّى بها بعض الوقت في فصل الشتاء. في الطريق صادفنا شلّالا صغيرا تجمّد ماؤُه بفعل البرودة. هنا، تنزل درجة الحرارة إلى ما دون الصفر في فصل الشتاء، جاعلة من البيوت الطينية مجمّدات يستحيل العيش داخلها دون الاستعانة بأفران تُحشى أجوافها بالحطب طيلة الليل والنهار. في فصل شتاء السنة الماضية، اجتاز سكان قرية أنفكو محنة قاسية جراء انقطاع الطريق لمدة خمسة عشر يوما متواصلة، بسبب التساقط الكثيف للثلوج، ظل خلالها أهل القرية الصغيرة الراقدة وسط جبال الأطلس المتوسط معزولين تماما عن العالم الخارجي. من بين المشاريع التي حملها الملك إلى سكان قرية أنفكو سنة 2008 بناء مرآب خاص بآلات كسْح الثلوج. بُني المرآب فعلا، لكن ما إن انتهى صدى زيارة الملك حتى تبخّر وعْدُ توطينِ آلات كسح الثلوج في أنفكو، وتحوّل المرآب الذي أنفقت في بنائه الملايين من المال العام إلى خربة مهجورة. لا يفهم أهل قرية أنفكو سبب تحويل حُلمهم بوجود مرآب يضم آلات كسح الثلوج، ذات الأهمية البالغة بالنسبة إليهم، إلى سراب، لكنهم يعرفون مَن هي الجهة التي أجهضت هذا الحلم. حين يُسْألون مَن المسؤول تتوجه أصابعهم مباشرة إلى المسؤولين الذين أُوكلت إليهم مهمة تنفيذ المشاريع الملكية في أنفكو. يقول أحد أبناء القرية، في تعبير صارخ عن اليأس من المسؤولين: "هذا هو المغرب". لكن هذا التعبير الضاجّ باليأس لا يعني تنازل أهل أنفكو عن فكّ العزلة عنهم.. يقول أحدهم: "يجب على المسوؤلين أن يرمّموا مرآب آلات كسح الثلوج، ويستقدموا الآلات إلى هنا؛ أنفكو هي مركز المنطقة، ولا يمكن أن ننتظر قدوم الكاسحات من تونفيت لكي تفسح الطريق". تعاني قرية أنفكو من الخصاص في كل ما له علاقة بالبنية التحتية والتجهيزات الضرورية، خاصة أنها تقع وسط مكان جغرافي وعِر، لكن المطلب الرئيس لسكان القرية هو "أبْريد"، وتعني بالأمازيغية الطريق. حاجة يلخصّها أحد المواطنين بالقول: "في السنة الماضية انقطع الطريق لمدة خمسة عشر يوما، اجتزنا خلالها مِحنة لا يعلم حجمها إلا الله". قرية مَنسيّة أينما رميْت بصرَك في قرية أنفكو يتراءى لك النسيان؛ نسيانُ المَركز للهامش. صادفَتْ زيارتنا إلى أنفكو اختناقا في قناة الصرف الصحي الضيقة التي تخترق القرية. اجتمع حشد من الرجال يصارعون غطاء مجرى الصرف الصحي بوسائل بدائية، في مشهد يجعلك منشطرا بين زمنيْن، زمن "المغرب النافع" وزمن "المغرب غير النافع". يرفع الرجال أحجارا كبيرة ويهْوُون بها على غطاء المجرى الصحي، علّه ينفكّ عن إطاره الحديدي، وحين فشلت المهمّة استعانوا بعمود خشبي لرفْع الغطاء.. أهْدروا وقتا مُعتَبرا من زمنهم الضائع وسط جبال الأطلس المتوسط قبل أن يُفلحوا في رفع غطاء مجرى الصرف الصحي. حين تمّت العملية شعروا وكأنهم حققوا نصْرا كبيرا. "نحن منسيّون هنا"، يقول أحد الرجال المشاركين في العملية، ويُكمل، بعد أن أشار بأصبعه إلى أطفال يلعبون جوار ركام من الفضلات المسحوبة من مجرى الصرف الصحي: "جاء صحافيون من التلفزة إلى هنا، حكيْنا لهم بصدق عن واقعنا، لكنهم لم يقدموا الحقيقة، اكتفوا ببث ما رأوْه مناسبا فقط، وغضّوا الطرف عن الحقيقة". حين تتحدث إلى ساكنة قرية أنفكو تستشعر فقدانا للثقة من لدُنهم في مسؤولي المركز. يقول مواطن لم يتبّق في فمه سوى بضعة أسنان: "لقد تعبنا من الحديث إلى التلفزيون، ولكنهم يبترون كلامنا. إذا كنتم ستنقلون حقيقةَ واقعنا فأنا مستعد ليس فقط للحديث، بل لنزع ملابسي أمام الكاميرا، أما إذا كنتم ستتصرفون في كلامي كما فعل التلفزيون فأعفوني من الحديث". ويقول مواطن آخر: "في السنة الماضية غرقت قريتنا في الثلج، وعشنا وسط الحصار لمدة خمسة عشر يوما، بعد ذلك سمعنا المسؤولين يقولون إن حجم الثلوج التي سقطت على قريتنا لم يتعدّ خمسة عشر سنتمترا.. كيف سمحت لهم أنفسهم بالكذب؟.. إذا لم يرغبوا في مساعدتنا فعليهم أن يقولوا الحقيقة، على الأقل". التعليم والصحة..حقّان دستوريّان ضائعان ينص الفصل الواحد والثلاثون من دستور المملكة على أنّ الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية تعمل على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة، من الحق في العلاج والعناية الصحية والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية. المقتضى الدستوري المذكور لازال "حبْرا على ورْق" في قرية أنفكو، فهي تتوفر على مركز صحي صغير، تُداوم به ممرضتان اثنتان، لكنه يدخل في حُكم غير الموجود، كما يقول أحد أبناء القرية، ويضيف موضحا: "حين يذهب أحدنا إلى المركز الصحي ويشكو ما بجسده من علّة تقول له الممرضة "لا دواء لدينا". إذَن هذا المركز الصحي غير موجود ما دام لا يوفّر لنا الدواء". في المركز الصحي بقرية أنفكو يتم توليد النساء الحوامل، لكن ليس في جميع الحالات، فهو لا يتوفر على التجهيزات الكافية لإجراء عمليات قيصرية، لذلك يتمّ حمل الحوامل إلى مستشفى مدينة ميدلت، وإذا صادف ذلك تساقط الثلوج وانقطاع الطريق تصير حياة الحامل وجنينها في خطر. هذا من الأسباب التي تدفع سكان قرية أنفكو إلى جعل مَطلب إصلاح الطريق وتوفير آلات كسح الثلوج على رأس الأولويات. في فصل الشتاء، يُقام مستشفى عسكري طبي وسط قرية أنفكو، تُقدّم فيه الخدمات الطبية لساكنة القرية، في إطار سياسة الدولة لتقريب الخدمات الطبية من سكان المناطق الباردة. يفتح المستشفى أبوابه أمام المرضى من الإثنين إلى الجمعة، وحين ينتهي فصل الشتاء تُطوى مَضاربه وتعود من حيث أتتْ، تاركا مكانه فراغا، يعجز المركز الصحي الصغير عن ملْئه. لا تختلف حالة التعليم في قرية أنفكو عن حالة الصحّة. تتوفر القرية على مدرسة ابتدائية ومؤسسة للتعليم الإعدادي، عندَ عتبَة آخر فصْل من فصُوله ينتهي مشوار التلاميذ الذين ابتسم لهم الحظ وتمكنوا من إكمال درجات التعليم الإعدادي، إذ يكونون أمام خياريْن، إما الهجرة إلى المدينة لإكمال المشوار الدراسي، أو الانقطاع عن الدراسة، وفي الغالب ترْجُح كفّة الخيار الثاني. يقول تلميذ يتابع دراسته في الثانوية الإعدادية بأنفكو: "حْنا على قدّْ الحال، ما نقدروش نمشيو نقراو فالمدينة"، ويُضيف، وقدْ حسَم أمْر مُستقبله الدراسي: "أنا ما غنكمّلش القراية، الحالة ضعيفة". لكنْ ليست الوضعية المادية وحْدها السبب في انقطاع أبناء أنفكو عن الدراسة، ثمّة سبب آخر، وهو تدهور الحالة المعنوية. يوضح التلميذ ذلك بالقول: "الحالة ضعيفة، مادّيا ومعنويا. لا شيء". ورغم أنّ قرية أنفكو تتوفر على ثانوية تأهيلية، إلا أنَّ أهل القرية من التلاميذ والآباء الذين تحدثت إليهم جريدة هسبريس الإلكترونية قالوا إنَّ المؤسسة التعليمية تفتقر إلى الشروط القمينة بتوفير جو ملائم للدراسة؛ يؤكد ذلك أحدُ التلاميذ بالقول: "الكوليج ما فيه والو، سواء من ناحية المطعمة، أو من جميع النواحي؛ حتى الملعب لا يصلح للعب الكرة وممارسة الرياضة، يُشبه حظيرة البهائم". أمْوات على قيْد الحياة مَضى زهاء ثلاثة عشر عاما على فاجعة وفاة حواليْ ثلاثين طفلا في قرية أنفكو، ومازال واقعُ طفولة القرية كما كان قبْل الفاجعة. حين تتجوّل وسط القرية الصغيرة تظهر لك الصّوَر الموثّقة لشقاء وبؤس أطفالها التي وثقتها عدسات الكاميرات سنة 2007، وهي ماثلة على الأجساد الصغيرة..أرْجُلٌ حافية وأيادٍ مُشقّقة بفعل البرد القارس ومخاط يتدلّى من الأنوف المُحْمَرَّة. ليْسَ ثمّة فضاء واحد، ولو مِن مساحة صغيرة، مخصّص للأطفال.. لحظاتُ لعبهم يقضونها في مداعبة كرة بلاستيكية وسط الطريق المليء بالأتربة والأحجار، أو البحث وسط ركامِ القمامة بجانب الوادي عن شيء صالح ليكون لُعبة. أمّا الطفلات الصغيرات فلا وقت للترفيه لديهن..يَحملْن القناني ويمْلأنها بالماء من أنبوب في مدخل القرية، أو يساعدْن أمهاتهنّ في غسل الملابس وسط الوادي. في أغلب أيام فصل الشتاء بأنفكو يستقرُّ مؤشر درجة الحرارة تحت عتبة الصفر؛ لا يبرح الناس بيوتهم إلا عندما يتقدم النهار..يقصدون الغابة من أجل جلْب الحطب في الغالب. تلخّص سيدة عجوز ظروف قضاء أهل قرية أنفكو أيام فصل الشتاء قائلة: "نُصبح مثل الدجاج، لا نغادر بيوتنا إلى بعد أن تطلُع الشمس، نذهب إلى الغابة لجلْب حطب التدفئة الذي نستهلكه في الليل". بعد صلاة العصر، يجتمع رجال قرية أنفكو خلْف سور طيني..ينشرون أجسادهم المُنهكة بالبطالة على أعمدة خشبية لتستمدَّ دفْء الشمس قبل أن يأؤوا إلى بيوتهم حيث ترتعد الفرائص بسبب البرد القارس طيلة ساعات الليل. بعد زيارة الملك إلى القرية سنة 2008، أنْشئت تعاونية قصْد توفير عمل للسكان، لكنْ سُرعان ما انمحت من الوجود، حسب الإفادات التي استقيناها من المكان، دون أن يعرف الناس مَن المسؤول عن إغلاقها "هل الجماعة أم السلطات المحلية"، كما جاء على لسان أحدهم. تتوفر قرية أنفكو على ثروة طبيعية مهمة تتمثل في غابات الأرْز المُحيطة بها، لكنّ سكّان القرية لا يستفيدون منها، بل يستفيد منها مَن يُسمّونهم ب"مافيات قطْع أشجار الأرز"، الذين يجتثون الأشجار باستعمال مناشير كهربائية ضخمة، قبْل أن تُحمل على متْن الشاحنات إلى مصانع الخشب، وتُباع بالملايين. "على أرض قريتنا يوجد ذهَبٌ، لكننا لا نستفيد منه. أشجار الأرْز تُقطع خارج القانون، ولا نستفيد من أيّ درهم من الأموال الطائلة التي تُجنى من بيْعها"، يقول أحد المواطنين، مضيفا: "نطالب المسؤولين بأنْ يُنصفونا. إذا كانت الغابة في مِلكية المخزن فعليه أنْ يمكّننا من الاستفادة منها، عوض أنْ يمنحوها لمافيات الأرْز، وإذا كانت للسكان فيجب أن يتمّ تقسيمها بيننا لنستفيد من ثرواتنا". لا تسمع، وأنت تتحدث إلى سكان قرية أنفكو، غيْر أنين المعاناة وعبارات الغضب من مسؤولي المركز ومن المسؤولين المحلّيين، وكلمات معبّرة عن انخفاض منسوب الثقة في السلطة والمنتخبين على حد سواء. يقول أحد المواطنين غاضبا: "المجلس الجماعي لا يفعل شيئا لصالحنا، نصوّت على مسيِّريه في الانتخابات لكنهم لا يُعيروننا أيّ اهتمام، ولا يُعطوننا أيّ قيمة، بل إنهم لا يسألون عنّا حتى". وأنت تتجوّل وسط دروب قرية أنفكو تعود بك الذاكرة، بشكل لا إرادي، إلى سنة 2007. تمرّ أمام عينيك صور رجال القرية وهُم واقفون خلْف جثامين صغيرة مسجيّة في البياض، يؤدّون صلاة الجنازة على صِبْية رحلوا تاركين خلفهم علامات استفهام لازالت قائمة إلى اليوم. تتراءى لك مشاهدُ الموت والكُمون، ربما لأنّ أهل القرية في حُكم الموتى وإن كانوا أحياء، كما قالت لنا عجوز تسكن في هامش القرية: "نحنُ هنا موْتى وإنْ كنّا لازلنا على قيْد الحياة".