على سبيل التقديم لم يكن عزيز بنحدوش مجرّد كاتب، ولا كان عملُه السردي الأول (جزيرة الذكور) محض رواية. بل إنّ تبصُّرَ راءٍ عليمٍ كان يُجاوِر احتدامَ ثائرٍ جسورٍ في دواخله. كان عزيز يدبّر هذا الاصطخاب الذي يُزَوْبع كيانه بحكمة، وكانت الكتابةُ وسيلتَهُ والغايةَ معًا؛ لذلك عدتُ يوم رحيله إلى بعض كتاباته، فوجدتها طرية كأنها مكتوبة للتو: "في الوداع الأخير، ستجد كل ما يذكِّرُك بي إلّا أنا، لن تجدني". وكذلك كان. حين رافَقْنا عزيز إلى مثواه الأخير تلك العشية، وبعدما تمّ الدفن في مقبرة "دوار العسكر" بمراكش بعد صلاة العصر، التقيتُ أصدقاء قدامى من أبناء الحيّ...أصدقاء مشتركين، شقيقه مصطفى، والده المكلوم، طفله المندهش من غياب مباغت كان عاجزا ولازال عن استيعاب فداحته، كلهم ذكّروني به، لكنني فعلا لم أجده. سألني صديق في المقبرة وجثمان الراحل يُسجّى في مرقده الأخير: ها هو الجسد يوارى التراب، فهل انطفأت روحه؟ فكّرتُ في المشروع الروائي الجديد الذي كان عزيز يشتغل عليه قبل الرحيل. لا شك أن الفقيد نفخ فيه هو الآخر من تلك الروح التي لا تنطفئ حتى بعد أن يخذلها الجسد. التفتْتُ لأسأل مصطفى عن المخطوط، رأيته يبكي، والمعزّون يتناوبون على عناقه ومواساته. أجّلت سؤالي وانسحبتُ في هدوء..فكّرت مع ذلك في (جزيرة الذكور)، روايته الأولى التي صنعت شهرته، والتي يتحدث عنها الجميع، ويسأل عنها الأصدقاء هنا وهناك؛ خصوصا الآن بعدما غادر عزيز جزيرته ورحل، فجأة رحل. ذاك أن عاشق البحر لم يتخيّل قطّ أن الموج سيخونُه يومًا. عاش شامخا مثل جبل. (هل جبلٌ وينحني للبحر؟) لكن عزيز المُنتقل حديثًا حينها من بلدة "تازناخت" الجبلية، حيث كان يدرِّس الفلسفة، إلى ثانوية ب"تيزنيت"، سرعان ما سيتّخذ البحر صديقا ورفيقا؛ ولأن إيمانه بالصداقة كان أعمى، صدّق البحر ووَثِق به، فقبل أقل من أسبوع على رحيله كتب على صفحته: "مازال البحر مزارًا ومعبدًا ومصدرَ حياة"، لكن موجة غادرة صادَتْه حينما حمل صنّارته يومها وذهب إلى شاطئ "أگلو" ليصطاد. فهل كان نداءَ البحر؟ ألم يكتب عزيز مرّةً: "نداءُ البحر لا يقاوم"؟. لكن معارك عزيز بنحدوش على اليابسة كانت سابقة على مغالبته الأخيرة لموج البحر الغادر، وروايته (جزيرة الذكور) تعدّ من أشهر الروايات المغربية التي نشرت في السنوات الأخيرة؛ ربما لأنها لم تكن مجرد رواية. "لسنا كًتّاب أدبٍ، بل نحن كتّاب قضايا"، هكذا تكلّم بنحدوش. و(جزيرة الذكور) كانت رواية قضية، بل رواية فضيحة على الأرجح. لم ينس عزيز وهو يخوض غمار تجربته السردية الأولى أنه خريج شعبة علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط. وبحدس الباحث الاجتماعي سينتبه إلى ظاهرة الأطفال الأشباح السائدة في المنطقة التي كان يشتغل بها. مهاجرون بأوروبا من أبناء المنطقة ظلوا يستصدرون على امتداد سنواتٍ شواهد ميلاد أطفال لم يولدوا قطّ، يستعملون هذه الوثائق الإدارية من أجل الحصول على تعويضات عائلية من مُشغّليهم هناك، ويجدون هنا من يؤمّن لاحتيالهم التغطية اللازمة واللوجستيك الضروري. مدَّ الكاتب يده إلى عش الدبابير بجرأة، كتب الرواية، نشرها، ثمّ تعاقبت الأحداث المريعة. "كاتب مغربي يتعرّض لاعتداء جسدي بسبب رواية". "رجمٌ بالحجارة وضربٌ بالهراوة كاد يودي بحياة كاتب". "روائي مغربي يتعرَّض لمحاولة اغتيال قبل أن ينجو بأعجوبة"، هكذا توالت عناوين الأخبار في الصحافة الوطنية والعربية. ونحن على تواصل مع عزيز عبر "فيسبوك". نتضامن ولا نجد تضامُنَنا كافيا، ننبّه إلى خطورة ما يجري لكن أصواتنا المحصورة في مداها الافتراضي لا يصل صداها خصوم عزيز بنحدوش هناك. بعض من تصوّروا أنّ الرواية تعنيهم بشكل مباشر، تفضحهم كأشخاص وليس كظاهرة، كانوا وراء الاعتداء. التجأ عزيز إلى القضاء. ألقِيَ القبض على المعتدي وحُكِم عليه بالحبس لمدة لم تتعدَّ الشهر الواحد، ليغادر السجن بعدها ويستأنف القضية، لتتواصل المحاكمة من جديد، محاكمة (جزيرة الذكور) هذه المرة. هكذا قضت المحكمة الابتدائية بمدينة ورززات بإدانة عزيز بنحدوش بشهرين سجنًا مع وقف التنفيذ وغرامة قدرها 21 ألف درهم. كان الحكم الابتدائي قد اعتمد مقتضيات قانون الصحافة، رغم أن الأمر لا يتعلق بمقال في صحيفة وإنما بعمل أدبي تخييلي. والمؤلم أن محكمة الاستئناف بورززات واصلت محاكمة عزيز بنحدوش حتى بعد رحيله، إذ قامت بتمديد المداولة في قضيته رغم أن أسرة الراحل أرسلت لها شهادة تُثبت وفاته المفجعة التي تداولتها كل الصحف والقنوات التلفزيونية والإذاعية الوطنية، رغم أن المتعارف عليه قانونًا هو السقوط التلقائي للدعوى القضائية بوفاة المتهم. والآن، وقد تمّ أخيرًا إلغاء الحكم الابتدائي، وبعد سقوط الدعوى العمومية في حق "المتهم" بسبب الوفاة مع تحميل الخزينة العامة الصائر...ما الذي تبقّى؟. بقيت (جزيرة الذكور) تحكي قصتها كعمل أدبي، وتحكي أسطورتها الموازية وأسطورة كاتبها؛ صديق الثانوية القديم الذي تركَنا في مراكش ورحل إلى الرباط ليدرس الفلسفة عند طه عبد الرحمان ومحمد سبيلا وسالم يفوت، ويتخصّص في علم الاجتماع وينبهر ككل أبناء جيله بمحمد جسوس. في (جزيرة الذكور) نقرأ قصة طالب الفلسفة القديم الذي صار أستاذا، قصة طالب السوسيولوجيا الذي لم ينزع عن رأسه قبعة السوسيولوجي حتى وهو يكتب رواية. (جزيرة الذكور) رواية مغربية سمع عنها الكثيرون، أمّا قرّاؤها فَقِلّة؛ لذا كان من الضروري أن يُعاد طبعها من جديد، لنتلقّاها بهدوءٍ أكبر وجلبَةٍ أقل، إكرامًا لروح صديق قديم اسمه عزيز بنحدوش، وتخليدًا لأثره الذي سيبقى رغم المنع والتضييق والمصادرة، ورغم الموجة الغادرة.