أزمة تواصل الأطباء والمواطن بالمغرب تناقلت وسائط التواصل الاجتماعي مؤخرا فيديو لشاب مغربي من الفئات الشعبية في حوار صحافي حول أنفلونزا الخنازير، وبعفوية رجل الشارع أو سخرية الممثل، أضحك هذا المواطن ملايين المغاربة بنطقه المشوه لفيروس (H1N1)، وأمام هذا التعليق العفوي البسيط الذي يحث المواطن على تناول البصل لمقاومة تأثير الفيروسات، يتضح لنا أن الغائب الأكبر في الساحة الثقافية بالمغرب هو الطبيب؛ إذ يتقوقع في برجه العاجي منعزلا عن الأنظار، ينتظر فحص المرضى ووصف الدواء وإجراء العمليات مقابل أجور سمينة، تمكنه من رغد العيش، هذا هو النموذج السائد في مجتمعنا حيث لا علم لنا بأطباء يحاضرون في مدارس أو جامعات قصد توعية المواطنين، ونادرا ما قد يغادر طبيب برجه العاجي ليلج برنامجا تلفزيونيا أو إذاعيا لدقائق معدودة قصد الأجوبة على أسئلة المواطنين، وإذا قام بذلك، فهو يسعى حتما إلى الدعاية غير المباشرة لسمعته كطبيب، ولا وجود لمؤسسة طبية منظمة تنشر ثقافة وقائية حديثة بين المواطنين، فمنذ قرن من الزمن، ومجتمعنا يؤمن بأمراض، بادئة أسماؤها ب "بو"، إذ تسمى الكوليرا مثلا ب "بوكليب"، واليوم تفنّننا في التسمية إلى درجة تشويه الكلمات المفرنسة، فأصبحنا مجتمع إيكنوان... لماذا تغيب المؤسسة الطبية بكوادرها ومستشفياتها ومصحاتها ونقاباتها عن تأطير المجتمع والانخراط في جمعيات المجتمع المدني بكثافة؟ فهل يعقل أن جمعية داء السكري، مثلا، يسيرها رجال تعليم، بينما ينهمك الأطباء في تكديس الأموال وبناء الفلل بالمسابح؟ هل قامت الدولة بتدريس الأطباء من أجل هذا الغرض أم من أجل خدمة المجتمع والتضحية في سبيل رسالة نبيلة اسمها إنقاذ الإنسانية من الأمراض الفتاكة؟ أين ضميرك يا طبيب الشعب؟ لقد صدمت يوما حين قال لي أحد الصيادلة إن هناك من الأطباء من يتعاقد مع بعض شركات الأدوية بالفوائد، فيصف الأدوية التي تنتجها شركات معينة دون أخرى؟ إن السؤال الجوهري الذي نواجهه اليوم بمجتمع إيكنوان هو ماذا قدمت المؤسسة الطبية للمواطن المغربي من معلومات وخدمات تنهض بمعرفته الطبية وإحداث تراكم في هذا المجال؟ بماذا ساهمت المؤسسة الطبية في عملية التنوير على صعيد المدرسة والإعلام والانخراط في جمعيات المجتمع المدني؟ هل تعلم عزيزي القارئ أن الطبيب المغربي يتواصل بلغة المعالج التقليدي ولا يختلف كثيراً عن المشعوذ في تصوره للمرض؛ إذ يتواصل بلغة أمية مع المرضى بحجة تبسيط المعرفة الطبية؟ كيف لا والمغرب يشهد منذ قرن من الزمن ركودا في معرفته الطبية، وذلك لعدم انخراط المؤسسة الطبية في تطوير التمثلات الثقافية للأمراض ومعالجتها، فمازال الطبيب يستخدم قاموسا شعبويا لوصف الأمراض، فغالبا ما يشخص المرض بأسماء ذات حمولة خرافية مثل البرد وبوحمرون وبوصفير وبومزوي وهكذا، وهذا الطبيب، مع الأسف، يجهل تماما الدلالات التاريخية والمعتقدات الأسطورية الكامنة وراء هذه التعابير، فإليك أيها الطبيب بعض معاني هذا القاموس العلاجي التقليدي الذي تستخدمه لاواعيا في تواصلك بمريضك؟ يعتبر رهاب أو فوبيا الجن عاملا مهيكلا للنظام الباثولوجي الشعبي للمرض؛ إذ إن المغاربة حملوا الجن مسؤولية إثارة مجموعة متنوعة من الأمراض على مر التاريخ، ويحدثنا ويستمارك (1926) عن الاعتقاد السائد في بدايات القرن المنصرم المتعلق بالمرض، وجله يبدأ ببادئة الاسم "بو"، وتوحي هذه البادئة إلى صاحب المرض، وهي في الغالب قبيلة من الجن وجهت سهام المرض إلى الناس. وإليك أيها الطبيب بعض الأمثلة في هذا الصدد: اليرقان (بوصفير)، والحصبة (بوحمرون)، ويعتقد أن سببها قبيلة من الجن تدعى أولاد بن الأحمر، وعرق النسا (بوزلوم)، والكوليرا (بوكليب)، ومرض القولون العصبي (بومزوي)، وشلل النوم أو الجاثوم (بوغطاط/بوتليس)، وجذري الماء أو العنقز (بوشويكة)، وتوتر عضلات الكتف والرقبة أو شبه شلل حركتها (بوعنيينج/بوشنينيق)، وعند انتشار وباء الكوليرا في المغرب سنة 1895، اعتقد المغاربة أن جيشا من الجن هاجم البلاد، ووفقا لوستمارك دائما، ميز الناس بين هجوم الجن العنيف والمعتدل، فعندما كان الوباء يأتي عنيفا جدا، يتصور الناس أن الجن قد نصب خيامه داخل أسوار المدينة؛ وعندما تخف حدة المرض وتصبح الإصابات قليلة، يفترض الناس أن الجن قد أقام مخيمات خارج أسوار المدينة، ووجه سهامه السامة نحو البشر بين الفينة والأخرى. إذن، كيف لطبيب تعلم بجامعات أوروبية لسنوات يعود لوطنه ليفسر الأمراض بلغة شعبوية، فيقول للمريض "طارشك البرد، عندك بوصفير في الكبدة، أو ولدك عندو عدسة في الراس"، ما هذا المستوى يا طبيب الشعب؟ "عدسة"؟ دبا هذا راس ولا طنجية؟؟؟؟ ما هذه المهزلة؟ أبعد مرور قرن من الزمن مازال الطبيب المغربي يستخدم قاموسا شعبويا للتواصل مع المريض ولم يقدم جهودا بوصفه مؤسسة مستقلة لخلق بديل معرفي عالم يمكٌن المواطن المغربي من التخلص من براثن ثقافة إيكنوان وبوكليب إلى ثقافة طبية تزوده بمعلومات دقيقة عن الأمراض والعلاجات والمكونات الغذائية؟ لماذا لا يعمل الأطباء رفقة الباحثين السوسيولوجيين على ابتكار قواميس حديثة وتبسيط المعارف الطبية للعموم بالدارجة والأمازيغية؟ لسنا ضد الاحتفاظ بالتعابير السائدة، لكن يجب إفراغها من حمولتها المارابوتية وشحنها بمعان طبية حديثة؟ تحيلنا هذه الأسئلة الجوهرية على دور الطبيب في المجتمع، هل هو دور علاجي بامتياز أم هو دور توعوي وجمعوي يساهم من خلاله الطبيب في توعية المواطن بطرق شتى؟ ماذا قدم الأطباء المغاربة لتغيير تمثلات الأمراض بالثقافة المغربية؟ أليس للأطباء يد ضالعة في تخلف المجتمع وتمسكه بالغيبيات الأسطورية في تفسير الأمراض؟ إذا أصبح الطبيب المثقف يستخدم قاموسا شعبويا، فلماذا نلوم المغربي البسيط الذي يمتح من القاموس نفسه لتفسير أسقامه، فيلقي ببواعثها على الجن والعين الشريرة وحسد الآخر النمطي المتمثل في الجيران أو الأقرباء؟ كيف ستتطور الذهنيات والتمثلات الثقافية للأمراض والمؤسسة الطبية تكتفي بالعمل التقني المأجور داخل العيادات والمصحات فقط؟ إن عدم اكتراث الأطباء بنشر ثقافة طبية بالمغرب أدى إلى استمرار فراغ مهول في نمط تفكير المجتمع، فتمسك المواطن البسيط بتمثلاته الأسطورية المتاحة، وخلق نظاما باثولوجيا بعيدا عن الطب الحديث؛ إذ تجد فئات شعبية لا تزور الطبيب حتى تستنفد العلاجات التقليدية البديلة، بل من المرضى من يرفض الأدوية الحديثة، ناهيك عن أولئك الذين لا يستطيعون توفير تكاليف العلاج، فيتمسك بعالم الطلاسم والبركة لمعالجة أسقامه، مما يشكل أحيانا خطرا قاتلا على صحته، خصوصا إذا كان المرض عضويا ويحتاج إلى علاجات سريعة، وأمام هذا الاضطراب في تفسير الأمراض ومعالجتها، وغياب تقنيين العلاج التقليدي، وانسحاب الطبيب من دوره التوعوي، يظل المريض تائها بين "عدس وفول" الطبيب الشعبوي و"الأحراز" التي يخطها المعالج التقليدي. *جامعة شعيب الدكالي