ما زلت أتذكر تلك الصيحات المتتالية وأنا منهمك في تصحيح تمارين التلاميذ المنجزة في حصة الصباح. لقد كانت أصوات مريم وفاطمة توحي بأن هناك حدثا ما وقع. عادة ما أقضي حصة الاستراحة الزوالية صحبة السي أحمد والسي عبد السلام، نتناول وجبة الغذاء الساخنة معا. هذه الوجبة التي حرص آباء وأولياء دوار النواصر على إعدادها وتقديمها كل يوم تكريما لنا نحن المدرسين الثلاثة. ما عدا يوم الثلاثاء، يوم السوق الأسبوعي الذي غالبا ما تشد إليه الرحال من كل صوب وحدب. ويبقى الدوار مهجورا من طرف الرجال بالخصوص. وفي بعض الأحيان، تغبن النسوة أيضا لشراء مستلزماتهن الشخصية من ملابس أو عطور. وجبة الغذاء التي كانت تتنوع ما بين طاجين دجاج بلدي أو لحم غنم بالخضر الطرية التي كانت تزخر بها ضيعات القرية. لا بد من التذكير بأن كل هذه المأكولات هي من إنتاج محلي بلدي صرف. نفس الشيء بالنسبة إلى أطباق القطاني التي كنا من حين إلى حين آخر نتناولها كاللوبية والعدس والبيصار. بالإضافة إلى الخبز المحلي الطري. ناهيك عن اللبن والزبدة البلدية والزيتون التي كانت دائما ترافق الطبق الرسمي للغذاء. أضف إلى هذا الفطور المتنوع الذي كنا نستقبل به كل صباح. شاي منعنع وحرشة وبغرير ورغائف أو خبز طري وزبدة بلدية وزيتون. على بُعد أمتار قليلة من المدرسة كانت توجد معصرة الزيتون الوحيدة في المنطقة. هذه المعصرة التي كانت تعج بالفلاحين وباعة الزيوت في موسم الزيتون. كان الجزء الخلفي من القسم مخصص لقنينات الزيوت الطرية التي كنا نحصل عليها من طرف أغلب الآباء كعربون محبة وتقدير لدور المدرس. كان سكان الدوار يسعون بشتى الوسائل إلى إرضاء رغباتنا نحن المدرسين؛ لأن مستقبل تعليم أطفالهم رهين بما نقدمه لهم داخل الفصل. أما البيوت فلها عالمها الخاص بها ولا يعول عليها في تقديم يد المساعدة في هذا المجال. لكن الرغبة القوية لدى الآباء الذين حرموا من الدراسة حاضرة وبقوة من أجل تعليم أبنائهم رغم الإمكانات المحدودة والأوضاع الصعبة. يوم الثلاثاء هذا، الذي ينتظره سكان الدواوير المجاورة للقرية بكل شغف، يشهد في بداية الصباح حركة نشيطة غير عادية. ترى قوافل السكان مشيا على الأقدام أو فوق دوابهم تتحرك في اتجاه القرية التي تبعد بحولي ستة كيلومترات عن دوار النواصر حاملين معهم منتوجاتهم الفلاحية البلدية المتكونة من بيض وعسل ودجاج وبعض الخضروات الموسمية، لبيعها وشراء مستلزمات أخرى. مجموعة أخرى من السكان تمتطي السيارات أو الشاحنات التي تشتغل خصيصا في هذا اليوم. وغالبا ما تقل المواشي والدواب بمعية الفلاحين في نفس الشاحنة. كل شيء ممكن في هذا اليوم وفي هذا المكان. تعالت أصوات التلاميذ من جديد: monsieur! Monsieur!” monsieur! ظننت في أول وهلة بأن هناك عراكا ما بين التلاميذ. بسرعة وضعت القلم الذي كان بيدي على الطاولة واتجهت نحو الباب. مسألة عادية أن يقع خصام أو عراك بين التلاميذ في فترة الاستراحة. يحدث هذا من حين إلى حين آخر. ولكن بمجرد أن يظهر المدرس وجهه في الساحة، تهدأ الأمور. مجموعة كبيرة من التلاميذ تفد على المدرسة من الدواوير المجاورة. لذا، يضطر هؤلاء لقضاء الاستراحة وتناول وجبة الغذاء جنب المدرسة. وجبة الغذاء هاته التي كان الأطفال يحملونها معهم من البيت كانت وجبة بسيطة مكونة غالبا من خبز وزيتون وبيض وبرتقال. الدواوير المجاورة لنهر سبو كانت تنعم بخيرات الضيعات الكبيرة لأشجار البرتقال. هذه الضيعات التي خلفها الاستعمار الفرنسي كانت تجود على المنطقة بهذه الفاكهة اللذيذة. وتختلف المسافات والطرق التي يقطعها التلاميذ للوصول إلى المدرسة. فإن كنت أنسى فلن أنسى وضعية الأطفال الثلاثة: سعاد ورشيد وأحمد. هؤلاء الثلاثة الذين كانوا يقطعون مسافة طويلة للوصول إلى مدرسة النواصر. كان وضعهم يختلف عن باقي التلاميذ لكونهم كانوا يسكنون في الضفة الأخرى لنهر سبو. هذا يعني أنهم مجبرون، بجانب قطع المسافة الطويلة، على عبور نهر سبو يوميا في الصباح وفي المساء بدون قنطرة. كانت الأمور صعبة للغاية لهؤلاء الأطفال للالتحاق بالمدرسة. فكنت ضطر في بعض الأوقات لإرسالهم إلى بيوتهم ساعات قبل الوقت إذا لاحظت أن السماء تستعد لإنزال خيراتها على الأرض. وغالبا ما يتغيب هؤلاء الأطفال عن الدراسة في أوقات الشتاء، حيث يستحيل عبور نهر سبو وما أدراك ما نهر سبو. أوقات الغياب في هذه الحالة كانت تستمر أياما. وتنقطع الأخبار عنهم بالمرة. وماذا عساك أن تفعل في مثل هذه الحالة؟ لا شيء، سوى هو أن تتمنى لهم السلامة والعودة من جديد إلى المدرسة. غادرت الفصل في اتجاه فاطمة التي كانت تشير بأصبعها إلى ما وراء الأقسام. monsieur ! " خالتي خديجة تلد لوحدها في الخلاء!". كلمة "خالتي" تطلق احتراما على كل السيدات في هذه المنطقة. إنها إحدى سيدات الدوار التي كانت منشغلة، كباقي السيدات، بجمع الحطب. أعدت السؤال من جديد للتأكد من كلمة "تلد". "هل تعني فعلا أن السيدة تضع مولودها هنا؟" فكانت الإجابة سريعة من طرف الجميع تؤكد الأمر. تقدمت رحمة بسرعة نحوي لإعطائي مزيدا من المعلومات حول الوضع. تبين من كلامها بعد ذلك بأن الأم الحامل كانت منهمكة في جمع الحطب حيث اشتد بها ألم الولادة. ولا تستطيع الآن العودة إلى البيت. فهي تستعد لوضع مولودها في خلف المدرسة. أول شيء تبادر إلى ذهني آنذاك هو إخبار نساء الدوار بأسرع وقت ممكن وطلب مساعدتهن. انطلقت رحمة بسرعة كبيرة في اتجاه الدوار. بينما كلفت فاطمة بالبقاء إلى جانب الأم. وكم كنت سعيدا وأنا أهتدي إلى المنديل الذي كنت استعمله كغطاء للخزانة. هذا المنديل أصبح له دور إنساني آخر. سرعان ما أخذته إحدى التلميذات لتحجب به الأم التي ما زالت تقبع في مكانها انتظارا للمساعدة الطبية المنعدمة طبعا في هذه الأماكن! لحظات محرجة للغاية يصعب وصفها لمن لم يعايش هذا الوضع. كان دوري يقتصر على الإرشاد وتوزيع المهام والسرعة في إيجاد الحلول. طبعا، لا يمكنني بالمرة الاقتراب من السيدة الحامل بصفتي رجلا! شعرت شعورا غريبا. لأول مرة، أعجز فيها تماما عن تقديم مساعدة لشخص هو في أمس الحاجة إليها. هذه الحالة لم أكن أتصور أنني سأصادفها في حياتي العملية. لم أكن مهيأ لها بالمرة. وضعية لم نتطرق لها أثناء مرحلة التكوين التي قضيناها في مركز تكوين المعلمين بتطوان. أكثر من هذا، لم يسبق لي أن قرأت أو سمعت بمثل هذه الحالة من قبل، أثناء أو بعد التكوين. ومما زاد الطينة بلة هو وجودي لوحدي في هذا اليوم! باقي الزملاء استغلوا وقت الاستراحة للذهاب إلى السوق المركزي بالقرية. عاينت الكثير من الحالات التي لم يسبق لي أن صادفتها في أيام التكوين؛ ولكنها كانت أغلبها حالات تتعلق بالعمل المدرسي! مثل كيفية إعداد توزيع الزمان لثلاثة أقسام مشتركة وتطبيقها على أرض الواقع. شيء جديد بالنسبة إلي وأنا المدرس المبتدئ الذي يريد تفعيل ما تلقنه في مركز التكوين بكل إتقان وإخلاص؛ لكنني حاولت التأقلم مع الوضع وإيجاد مخرج مناسب للوضعية. لكن مسألة الولادة هذه لم تخطر على بالي بالمرة. الجانب الإيجابي لهذه الوضعية هو وقوفي ومعاينتي للدور التلقائي الكبير الذي قام به التلاميذ والتلميذات على الخصوص. لقد تجندت البنات بسرعة فائقة وقمن بكل ما يلزم لمساعدة الأم. كان جسمي يرتعش (وكلما تذكرت تلك اللحظة أشعر بنفس الإحساس) وأنا أسمع أصواتهن تردد بصوت عال: "صلاة وسلام عليك يا رسول الله" . تليها زغاريد محتشمة كانت تغطي أنين وألم الأم لحظة الولادة. عاينت أيضا كيف التفت الفتيات من حول الأم من أجل حمايتها من أعين باقي التلاميذ. شاهدت التعاون التلقائي الذي قمن به من أجل طلب المساعدة من نساء الدوار. شيء رائع أن ترى إحدى التلميذات وهي تمر على التلاميذ من أجل الحصول على ما تبقى لديهم من الماء. وما أدراك ما الماء في مدرسة بدون ماء. هذا الماء الذي استعمل جزء منه لتبليل حلق النفساء. هذه الأشياء لا يمكن استخلاصها عبر نتائج الفروض والامتحانات التي تدون نتائجها في اللوائح الرسمية وبها يتم الحكم على مدى جاهزية التلميذ للمستقبل. وفي نظري، أن الدور الأهم للمدرسة هو إعداد التلاميذ لتقلص دورهم في الحياة. منحهم الفرصة لمعايشة واقع الحياة داخل القسم أو المدرسة. أسئلة متعددة راجت بخاطري دون أن أجد لها أجوبة مقنعة. ماذا عساني كنت أفعل في هذه اللحظة؟ أغلبية سكان الدوار توجد في السوق. ليس لدي سيارة أو وسيلة نقل أخرى لأحملها إلى المستشفى الذي يبعد بحوالي ستة كيلومترات أو إلى بيتها الموجود في أعلى الجبل. ربما تظن أني تناسيت الهاتف النقال. لا يا سيدي. الأمر ليس كذلك. لا وجود للهاتف بالمرة في فرعيتنا آنذاك. لأن في هذه الحقبة الزمنية من الثمانينيات لم يكن الهاتف النقال قد رأى النور بعد. أما الهاتف العادي فكان هو أيضا يحضر في مكاتب المديرين فقط! وسيلتنا الوحيدة للاتصال بالإدارة المركزية، بمعنى مع المدير، كانت هي البحث عنه في المقهى المركزي للقرية بعد حصة الدراسة أو خلال عطلة الأسبوع. وغالبا ما كان الاتصال به في آخر الشهر للتوصل بالحوالة الشهرية. انعدام الهاتف في مثل هذه الحالات لا يهم بالمقارنة مع أشياء أهم صادفتها في حياتي العملية القصيرة: أقسام نوافذها مكسرة، انعدام الماء والكهرباء، ناهيك عن غياب الكتب والوسائل المدرسية وغياب التأطير. أما الطامة الكبرى فهي غياب مرحاض للتلامبذ ونفس الشيء بالنسبة إلى المدرسين. الهواء الطلق هو البديل في هذه الحالة. ولا تثقل خاطري بالتنقيب على بعض التفاصيل في هذا الأمر. إنه الواقع المعاش لا أقل ولا أكثر. ثلاث حجرات من البناء المفبرك، تآكلت ألوانها. يشتد بها البرد في فصل الشتاء، ويستحيل العمل فيها أوقات الحرارة. هذه باختصار هي بناية الفرعية. ومع ذلك، فإن الرغبة في العمل كانت دائما حاضرة من طرف المدرسين ومن طرف التلاميذ. هيهات على تلك الأيام الجميلة. بضع لحظات بعد ذلك هلت الزغاريد الحقيقية وتعالت أصوات النساء وهي تصلي على النبي. إنها أصوات سيدات الدوار اللواتي لم يزرن السوق هذه المرة. حضرن لاستقبال المولود الجديد. فرحة عارمة وحركة دؤوبة لهؤلاء النسوة. هرعن جميعا لمعايشة هذا الحدث المهم. أما أنا فكنت حائرا. لا أدري ما أفعل. كنت أتنقل داخل القسم وأحاول في نفس الوقت الاستماع لما يروج هناك. وكلما تعالت أصوات النسوة كلما ازداد انشغالي بما يحدث. إنها لحظات حرجة أمر بها وكأني الأب لهذا المولود. بينما الزوج المعني بالأمر لا علم له بما يحدث. ترى كيف سيتلقى الخبر بعد عودته من السوق هذا المساء؟ وسرعان ما تغيرت إيقاعات الأنغام وصدى الكلمات التي كانت تنشد. فهمت أن الوضعية جد صعبة. وما هي لحظة حتى دوت الأصوات من جديد وتعالت الصلاة على النبي مرة أخرى. لقد تمت عملية الإنجاب بسلام على ما أظن. أخبرتني فاطمة وعلامات الفرح بادية على محياها بأن المولود ذكر. سبحان الله. لم تتوقف أصوات النسوة على الإنشاد وإطلاق الزغاريد المدوية في هذا الخلاء الواسع. وفي وقت وجيز عاينت حشود الأمهات وهن يحملن الأم على حمار اقتيد لهذا الغرض. بينما حمل المولود الجديد بين يدي إحدى السيدات. محاط من كل الجوانب بالنسوة وفتيات القسم وهن ينشدن الأغاني الشعبية تتخللها بين الفينة والأخرى زغاريد تجعل كل الأعناق تشرئب إلى هذا الموكب البهيج. إنه منظر خالد! حاولت إحدى التلميذات أن تطلب مني السماح لها بمرافقة الموكب إلى الدوار. طبعا أبديت موافقتي. عدت إلى مكتبي لمحاولة إتمام عملي؛ لكن فكري ظل عليقا بهذا المشهد. ناديت على ما تبقى من التلاميذ للشروع في الحصة الزوالية؛ لكنني لم أقو على التشبث بما في المذكرة اليومية لهذا اليوم. فتحت باب النقاش للأطفال للحديث عن التعاون وتقديم المساعدة للآخرين، عن الأوضاع الصحية بالمنطقة والولادة. درس تلقائي بدون تحضير. درس لم يكن مسطرا على التوزيع السنوي أو الشهري أو في المذكرة اليومية. درس شارك فيه الجميع. وهذا هو الأهم بالنسبة إليّ.