أغلب ما يجذب الرواد إلى مسجد ما هو قراءة الإمام الشجية المعتمِدة على أصول التلاوة؛ فلا غرابة أن يقطع الواحد بضعة كيلومترات أو يزيد ليستمتع بتلاوة إمام يحب سماعه، إذْ يجعله يتفاعل مع الوحي المنزل، تسمو به النّغمات الملكوتيّة على المادة التي سجنته في قفص الجسد، فلا يفتأ باحثاً عن الرقي بروحه، يحررها من الأغلال التي طالما كبلتها. فهو يريد أن يُلحقها ولو للحظة بأصلها العُلوي الذي أتت منه مرغمة وعائدة إليه لتخلد، الحنين الدائم إلى الأصل والمستقَر، البداية والنهاية، إنها تحن إليه في لحظتي الحزن والفرح معاً. عندما تطْهر وتصفو يشتد ترنمها بالوصال وتأخذ الغربةُ منها مأخذها حالما لم تجد ولن تجد من تستأنس به هنا كغريب في بلاد غريبة لا تعيش سكناً، إلا في ذكر الأصل المتجانس معها. يطربها كل صوت جميل صوتَ الطبيعة كان أم صوت إنسان. أنينها شبيه بغُنة قصب الناي الذي يبكي على أمه الشجرة الأصل وقد قُطع من جذعها، فهو يئن متوخياً العودة إلى جذع أمه. وفي القرآن وحده تلامس هذه الروح المسافرة أصلها وجنسها وفصيلتها النوعية بين ثناياه وفواصله وأصواته. فلا تبخس فيه بحرف أو حركة، فكل حرف في الكتاب كتاب. فالقارئ أمثل وأجل قدراً من حادي الأينق ينشد لها من الشعر لتجوب عباب الصحراء فأرهقها إن شاء إرهاقها بالحُداء، فذاك يحدو الإبل بالشعر وأنت تحدو الأرواح بالقرآن فيشتد سيرها ثم تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. أعطي نبي الله داود عليه السلام صوتاً خارقاً وهو يغني بالمزامير الموحاة إليه مواعظ وأحكاماً جعل الجبال والطير والكائنات في تناغم معه [يا جبال أوبي معه والطير- سبأ 10] كانت الكائنات تسبح بتسبيحه يرددن معه صلواته، تُقبل عليه الوحوش طيّعة لينة منصتة. فليس الإنسان وحده من يتأثر بالصوت الجميل إنما الطبيعة لها ذاكرة تسبح بالطريقة التي أريد لها أن تسبح بها ولكن لا تفقهون تسبيحهم. فكيف إذا حمل الصوت الجميل كلام الله. القارئ المتمكن من تشكيل حلقة الوصل بين الخلق والخالق يُلغَى شخصُه من ذهن المستمع أثناء التلاوة إطلاقاً، تلغيه قراءتُه الشجية ذاتُها، تحل محل شخصه آياتُ الله فتهيمن على الفضاء كله تتخلل القلوب فتصير الأقوى سيطرةً وأحكمَ سلطاناً فوق كل سلطان. فالإمام إنما يربطنا بالسماء، يجول بنا في النعيم السرمدي يطوف بأرواحنا في جنة الخلد ونحن على الأرض، يخترق بنا حجبي الزمان والمكان، يروى لنا بسنده المتصل ما رواه جبريل عن رب العزة، ورواه نبينا الأمين صلى الله عليه وسلم عن الأمين جبريل.الحبل الممدود من السماء إلى الأرض. إن المنصت للتلاوة الندية تأسره ليُعمِل خياله في تصوير المشاهد التي يَنقلها سيناريو القرآن إلى مسامعه بترتيب وانتظام، يُخرجها في قالبه الذي يُلهَمُه في ذات اللحظة، كما تجعله تلك التلاوة يغوص في قصة حياته في مراحلها الدقيقة ويلتمس لها عن دلالة بين ثنايا الآيات التي تُتلى عليه، فيخاف، يستيقظ ويحيى، يأمل، يستغفر، ساجداً وقائماَ يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. التلاوة الخبيرة تفسر القرآن وتبين أحكامه ومواعظه وقصصه دون تفسير مفسر. فمادة تَلا بمعنى تبِع، تقتضي تتابع الآيات وتناسقها بحيث لا يدخل مع التلاوة غيرُها من غير جنسها ولا تطغى حركة على أخرى بله حرف على آخر ولا تطغى فيها صفه حرف شديد على صفة حرف لين أو رخوي، أو حرف استعلاء جاور حرف استفال ففخمه وغير جماليته، وهلم إلى الوصل والوقف ومعرفة المخارج، إنها صناعة فنية يتقنها من أحب هذا الكتاب. فالتلاوة مفهوماً إنما تنتظم فيها الحركة والحرف والمفردة والجملة قبل أن تنتظم فيها القصة والحكم الشرعي، وبالتالي الإتباع الذي تتضمنه معنى التلاوة أيضاً، فهذا وعاء لذاك. فليس كل قراءة تلاوة، فهي أعم من القراءة. فالتلاوة خاصة بكلام الله والقراءة عامة لكل ما يمكن قراءته.أنظر: [يتلونه حق تلاوته: البقرة-121]. إن العلم بأصول القراءة يعود بنا إلى أصل النطق الذي نطق به الأعرابي على بداوته وسليقته الفطرية قبل أن يختلط اللسان العربي بالأمم الأخرى من غير العرب وهم يدخلون في دين الله أفواجاً حيث دخل اللحن في التركيب والإفراد بَدَا اللحن في العربية والقرآن، فنشأت نتيجة ذلك صناعة علم النحو والصرف وضبط القراءات، انبرى لهذه الصناعة بداية أبو الأسود الدؤلي، وبعده العبقري الخالد السامق في سماء المعارف والتخصصات الموسوعي الخليل بن أحمد الفراهيدي وبعده تلميذاه الكسائي وسيبويه ثم ابن جني، وتفصيل المرحلة متوفر في غير هذا المقال الوجيز. في الوقت الذي وصل فيه تبادل المعلومة إلى حد التخمة، ونزل كل غث وسمين إلى السوق فسد الذوق وصار كل شيء قابلا للتسويق بحق أو باطل. تعينت العودة إلى القرآن غضاً طرياً كما أنزل ليقول كلمته. فلو تحكم ذو الصوت الشجي في علم التلاوة من حيث النظريةُ والتطبيقُ لاخترق بأرواحنا الفضاء دون العودة إلى أرض الأحزان. يقول عباس محمود العقاد إن اللغة العربية لغة شاعرة. والشعر يترجم من الإحساس ما لا يترجمه غيره من الكلام؛ فعندما تكون هذه العربية وحيا، قرءانا فإن الوحي يرفعها. وعلوم اللغة العربية والمواد المرتبطة بها صناعة، ولوحة فنية يتذوقها الخبير بها بسر جمالها ورعة بيانها. ليس الصوت وحده من يجذبك للقارئ، بالرغم من أهميته الأساسية. يبرز القارئ صاحب الصوت الرنان ثم لا يلبث أن يختفى وتتحول عنه الأنظار، وتجد آخر خلدت قراءته القواعد التي تأسست عليها قراءته وظلت خالدة تعلو فوق الزمن. الأخطاء التي يسقط فيها كثير من الأئمة في قراءاتهم لا يمكن أن يتقنوها إلا بالأخذ المباشر عن عليم بها، لأن القراءة تؤخذ من أفواه العلماء بها أخذا مباشراً. في القراءة يتفاعل المستمع مع الحرف العربي في رنته، في إيقاعه وموسيقاه، إذ كل حرف له هويته وذاته لا تجعل حرفاً يطغى على حرف آخر أو يقوم مقامه نيابة، أو يمتلك صفته إذ جاوره، حتى اشتراك المخرج الواحد للحرف ليس على إطلاقه. فالمخارج مستقلة. هنا يتجلى الماهر بالقرآن في تحكمه في التعامل مع الحروف في مستحقه دون تكلف. القوي من الحروف يُنطق به قوياً، والشديد شديداً، والمستفل مستفلا كما نطق بها الأعرابي البدوي الذي يعد مرجعيتنا في العربية. إن العلم بأصول القراءة يعود بنا إلى الوجه الذي نطق به الإنسان العربي على بداوته وسليقته الفطرية قبل أن يختلط هذا اللسان بالأمم الأخرى من غير العرب - وهم يدخلون في دين الله أفواجاً.