الأعلام ألغام في كتابه صراع الحضارات، عقد الباحث الأمريكي صاموييل هونتينتون Samuel Huntington المنتمي لتيار المحافظين الجدد، فصلا سماه "الأعلام والهوية الثقافية"، وفيه ينطلق من كون تَفَكُّك الاتحاد السوفياتي وتحول الفيديرالية الروسية إلى دولة مستقلة، ارتبط بظهور عَلَم جديد واختفاء تمثال الزعيم الشيوعي لينين. وانطلاقا من هذا التاريخ وقع ما يشبه الانقلاب في التعبير عن الذات والتعبير عن الهوية، وانتهى الأمر بانهيار المعسكر الشرقي وظهور ما سمي آنذاك بالنظام العالمي الجديد. هذه الإشارة، تؤكد أن الأعلام ليست مجرد قطعة قماش تُرفع في المناسبات، ويُعبَّر بواسطتها عن فرحة أو احتجاج عابرين، بل هي، بسبب ارتباطها بمجموعة أفكار وقيم، تعتبر أداة لممارسة السياسة بامتياز. فهي قد تجمع كما في حالة الأعلام الوطنية، كما أنها قد تُفَرق وتمزق وتشتت... في حالة إذا ما كانت عِرقية قَبَلِية تحكمها إيديولوجية صدامية، كما هو الشأن بالنسبة إلى العلم المسمى "أمازيغي" وهو أبعد ما يكون عن ذلك. وفي هذه الحالة الأخيرة عادة ما يعمل صانع العلم ومروجه على إخفاء هدف التفريق، إلى أن ينضج المشروع وتصبح الظروف ملائمة لمصادمة أصحاب هذا العلم بحاملي علم آخر مناقض له، أو توظيف العلم المرفوع في نشر التجزئة أو تحطيم دولة، أو في بعض الحالات الاكتفاء بتوظيف العلم في نشر الفوضى، التي قد تكون هي الهدف النهائي الذي يُرَاد تأبيده ما أمكن ذلك. معنى الأعلام ألغام إذن، هي أن العَلَم الذي تتحكم فيه خلفيات عِرْقِية إثنِية طائفية قَبَلِية، وتحكمه إيديولوجية نزوعية كتلك التي تحكم العلم المسمى كذبا بالعلم الأمازيغي، قد يتحول إلى لُغْم، وقد يؤدي إلى كوارث تَرْهَن الرقعة الجغرافية التي "صُنِعَ" من أجلها، ويؤدي إلى تناسل أعلام أخرى مناقضة له وإيديولوجيات متقاتلة، بحيث يدخل أفراد المجتمع في صراع ويشرعون في التصادم فيما بينهم بطريقة تشبه المصادفة ودون هدف حقيقي، مثلهم في ذلك مثل حمولة مبعثرة في سفينة ألَمَّت بها عاصفة هوجاء. عَلَمٌ عِرْقي أجنبي ولفهم قصة هذا العلم وإثبات أنه عَلَمٌ لا علاقة له بالمغرب ولا بالمغاربة ولا يمثل الناطقين بالأمازيغية، لا بد من الرجوع إلى التاريخ والوقوف عند أحداثه بموضوعية دون تحيز أو كذب. وقبل ذلك، نشير إلى أن هذا العلم مثله في ذلك مثل الحرف الفينيقي (تيفيناغ)، لا نجد له مساهمة حضارية في تاريخ المنطقة، بمعنى أنه لم يرتبط بالأحداث التاريخية العظمى للناطقين بالأمازيغية ولا للمغاربة عموما، ولا بأي مكون من مكونات المغرب. على عكس الكثير من الأعلام والرموز الأخرى التي ارتبطت بالدول التي تعاقبت على حكم المغرب، والتي رفعت أعلاما وتبنت رموزا، كان هدفها الأول هو التعبير عن وحدة المغاربة ومد الجسور فيما بينهم، والتركيز على المشتركات الوطنية وإيلائها الأهمية التي تستحقها، مع بقاء الاختلافات قائمة بحكم وعورة التضاريس والتباعد الجغرافي بين منطقة وأخرى. إن كل المعطيات تؤكد أن هذا العَلَم ارتبط بظهور الأكاديمية البربرية L'Académie Berbère التي أسسها مجموعة من الجزائريين الذين انتقلوا إلى فرنسا للاستقرار فيها بعد استقلال الجزائر، وهو التأسيس الذي كان بمبادرة من محمد أعراب بسعود سنة 1966. والإيديولوجيا التي سيطرت على هذه الأكاديمية، تتجسد في مزيج من التصورات التي أنتجها علماء التاريخ والسوسيولوجيا عن الأمازيغية في مرحلة الاستعمار، بالإضافة إلى التصورات العِرقية التي تقرأ الواقع الجزائري من زاوية عنصرية (عربي في مواجهة أمازيغي). كل ذلك يؤطره الحقد اللاعقلاني إزاء المكون العربي الإسلامي والرفض المطلق له، وهو رفض ناتج عن كون بعض مؤسسي هذه المنظمة هم من الأمازيغ القبايليين الذين تحولوا إلى المسيحية، فاصطبغت مواقفهم إزاء المكون العربي الإسلامي بنوع من العداء الديني، ونذكر من بينهم الكاتبة مارﮔوريت طاوس عمروش التي استضافت الاجتماع الأول للأكاديمية البربرية في منزلها في باريس وأغسطين إبازيزن وغيرهما كثير، هذا دون نسيان أثر شخصية القبايلي محمد أعراب بسعود، الأب الروحي لهذه الأكاديمية الذي كان بطبيعته عدوانيا شديد العنف، كما وصفه بذلك كريم بلقاسم، أحد قادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية الذي سيتم اغتياله في فرانكفورت سنة 1970. وإذا كان تأسيس هذه الأكاديمية يدخل فيه ما له علاقة بما هو سياسي وثقافي وما له علاقة بما هو نفسي وديني، فإنه يجب ألا ننسى رغبة بعض الأطراف الفرنسية في خلق مشاكل لمغرب وجزائر الاستقلال، وخاصة الأطراف التي لم تستسغ انفصال الجزائر والمغرب عن فرنسا، ومن بين هؤلاء "جاك بيني" Jacques Bénet الذي كان من أكثر الأشخاص ارتباطا بمحمد أعراب بسعود، فساعده وشجعه على تأسيس الأكاديمية البربرية، وتوسط له لدى الأمن الفرنسي للحصول على الترخيص لبدء الاشتغال. كما تدخل لإطلاق سراحه بعد سجنه بسبب تهديده بالسلاح لبعض التجار القبايليين في باريس للحصول على المال، وانتهى به الأمر بالسفر إلى إنجلترا والحصول على اللجوء السياسي هناك، دائما بتدخل من جاك بيني. وجاك بيني هو مثقف، لكنه بحكم ارتباطه بالمقاومة الفرنسية ضد الألمان، نسج علاقات مع الكثير ممن ستصبح لهم أدوار حاسمة في مسار فرنسا، من أمثال جاك فوكار رجل الإليزي الذي تولى مناصب عليا واتهم بالوقوف وراء أكثر من عملية اغتيال، وفرنسوا ميتيران وشارل دوﮔول... وفيما بعد سيتبين أنه كان عضوا في المخابرات الفرنسية بمصلحة التوثيق الخارجي والتجسس المضاد (SDECE). كل هذه المعطيات جعلت البعض ممن ارتبط بهذه الأكاديمية في بدء تأسيسها يبتعد عنها بشكل نهائي، وعلى رأسهم محمد أركون الذي حضر الجلسة التأسيسية الأولى في منزل مارﮔوريت طاوس عمروش، ليقطع بعد ذلك الاتصال بمحمد أعراب بشكل نهائي، ويبتعد عن هذه المؤسسة التي قدمت نفسها بوصفها مؤسسة ثقافية، بينما أهدافها سياسية خالصة. بذور الانفصال فهذا العلم خرج من هذه الاكاديمية بعد تصميمه من طرف عمر مدكور، وهذا ما يؤكده الباحث بروس ميدي-وايتزمان عن مركز موشي دايان للأبحاث التابع لجامعة تل أبيب بقوله :"وكما هو الشأن بالنسبة إلى الحركات الإثنو قومية والإثنو ثقافية، فإن ذوي النزعة البربرية les berbéristes في العصر الراهن، بذلوا جهدا كبيرا لتشييد منظومة متماسكة وقابلة للاستعمال، كالسرد التاريخي مضافا إليه طقوس احتفالية ذات ارتباط بالأحداث الأساسية والمعالم الثقافية التي تتجاوز حدود الدول، انطلاقا من الاحتفال بالسنة الأمازيغية وصولا إلى الربيع الأمازيغي، وما يصحب ذلك كالتقويم والعَلَم الأمازيغيين وكلاهما من تصميم الأكاديمية البربرية، وكتابة قديمة وأغان ذات قيمة رمزية[...] والتي من بينها أغنية "انهض يا ابن الأمازيغ" التي كتبها القبايلي محمد إيدير أيت عمران [وهو في ريعان شبابه]، والتي ترجمت من القبايلية إلى تاشلحيت وتم أداؤها من طرف فرقة غنائية مغربية أمازيغية مع تعديل النص الأصلي لتعميم رسالته". إن مصمم هذا العلم هو يوسف مدكور الملقب بيوسف أمازيغ، وهو جزائري قبايلي كان مقيما في فرنسا، وهو من مؤسسي الأكاديمية البربرية، وأكثر من مرجع ينسب تصميم هذا العلم خطأ لمحمد أعراب بسعود، بينما هذا الأخير كان قد اعترض عليه في البداية، مخافة أن تُنسب أهداف انفصالية للأكاديمية البربرية. إذن الكثير مما يتم ربطه بالأمازيغية ومما يروج له اليوم ومن بينها هذا العَلَم، يرجع إلى منطقة القبايل على وجه الخصوص، ويستلهم السياسة البربرية Politique Berbère التي كان يعتمدها الاستعمار هناك، وله ارتباط وثيق بالأحداث التي سبقت وتلت استقلال الجزائر. وهذا ما ينطبق كذلك على ما يسمى بالسنة الأمازيغية، فإذا كانت الفكرة فرنسية في الأصل، إذ هي التي ألغت تسمية السنة الفلاحية وعوضتها بتسمية التقويم البربري Calendrier Berbère، فإن الذي وضع تصور هذه السنة وربطها بانتصار شيشنيق الأسطوري، هو عمار النﮔادي أحد مؤسسي الأكاديمة البربرية في باريس. وهو جزائري من أمازيغ الشاوية، والذي اضطر للانفصال عن الأكاديمية وتأسيس منظمة أخرى، بعد اتهام محمد أعراب بسعود له بالعمل على اغتياله، واتهامه له بالاشتغال لصالح المخابرات الجزائرية. نقول ذلك لنبين أن نشطاء الأمازيغية ذوي التوجه النزوعي العرقي من المغاربة الذين يرفعون هذا العَلَم ويطالبون بترسيم السنة الأمازيغية العرقية الوهمية، ليسوا سوى تابعين للمدرسة الفرنسية "القبايلية"، القائمة على العِرْق والعداء لكل ما له علاقة بالثقافة العربية، ونحن على يقين أنها مدرسة لا تمثل أمازيغ الجزائر الذين وقفوا في وجه التفتيت و"التمزيغ العرقي" المعادي للمكون العربي، والذين ساهموا مساهمة فعالة في استقلال الجزائر وكان المغرب سندا لهم في ذلك. ومن يرغب في معرفة الهدف النهائي الذي يريد الوصول إليه أصحاب هذا العَلَم الملغوم، ما عليه إلا أن يقرأ أدبيات "الحركة من أجل تقرير مصير منطقة القبايل" MAK والتي ترفع العَلَم نفسه (مع تغيير طفيف في توزيع الألوان) والتي تؤكد أن "دولة القبايل سيكون لها شعارها الخاص وعملتها الخاصة وعَلَمُها الخاص". فهذا العلم إذن تتحكم فيه نزعة انفصالية صدامية ناتجة عن كونه مُشْبَعا بالخلفيات الكولونيالية المعادية للوحدة. وما يؤكد ذلك هو رمز الزاي الذي يتوسطه والمكتوب باللون الأحمر، والذي يفسره واضعه يوسف مدكور بكونه دم الإنسان الأمازيغي الذي أريق في مواجهة الغزاة، وعندما ترجع لكتابات هذا الخطاب "الأمازيغي" النزوعي العرقي، تجد بأن المقصود بالغزاة بالدرجة الأولى هم "العرب" الفاتحون والثقافة واللغة العربيتان. ويُسْحب هذا الحكم على كل من يرفض تصوراتهم العنصرية، حتى ولو كان أمازيغيا بحجة أنه شخص مُسْتَلَب. ننتهي إلى مجموعة حقائق لا بد من استصحابها كلما رُفِع هذا العلم الملغوم، وهو أنه عَلَمٌ لا علاقة له بالمغرب ولم يصنعه المغاربة ولم يرتبط بتاريخهم. وأن كل من يرفعه هنا، يكون عقله هناك في القبايل وفي الأكاديمية البربرية في باريس يعيش مشاكل جغرافية غير الجغرافيا المغربية. عَلَم هذه خلفياته، هو علم مثير للصراع مُشْعِل للحرائق، يعمل على زرع بذور الطائفية والصراع، ويجعل من الانفصال أفقا للأجيال المقبلة المتشبعة بالأفكار التي تتحكم فيه. ومن يشك في ذلك فما عليه إلا أن يتأمل تجربة كاتالونيا بإسبانيا، وسينتهي إلى أن هذه الخِرْقة التي يشجعها البعض ويستهان بها من طرف البعض الآخر قد تتحول إلى ألغام تنشر الفوضى وتَشُقُّ المجتمع. الكلمة والحجر هذه هي الحقيقة كما يرويها التاريخ وكما يرويها من صنعوا أحداثه من متطرفي "أمازيغ" منطقة القبايل الذين خضعوا لاستعمار فرنسي دام ما يناهز 132 سنة، هذا هو تاريخ هذا العَلَم على حقيقته وليس التاريخ المزور والأسطوري المحشو بالكذب، والذي هدفه التمويه على المغاربة الناطقين بالأمازيغية وإقناعهم بالأوهام عن طريق دغدغة عواطفهم، تمهيدا لتحويلهم إلى جماعة منغلقة في وجه المكونات المغربية الأخرى، وحشرهم دون وعي منهم في أجندات ضد مصلحة المغرب. ومعلوم أنك عندما تصنع جماعة منغلقة على ذاتها وتربطها بِعَلَم عرقي صَنَعَه أشخاص لا يمتون إلى المغرب بصلة، تدفع المكونات الأخرى إلى الانغلاق بدورها، وبالتالي تضعف القيم المشتركة وتمزق نسيج المجتمع وتحوله إلى أرخبيل، وتحطم الجسور وتقطع التواصل والتفاهم. لذلك وجب عدم التساهل مع هذه الرموز العرقية القَبَلِية ومواجهتها بالنقد والتفكيك والحفر، لاستخراج خلفياتها وتنبيه المغاربة إلى ما قد ينتج عنها من كوارث، سيكون الخاسر فيها المغاربة جميعا. يقول سيﮔموند فرويد: "بدأت الحضارة عندما قام رجل غاضب لأول مرة بإلقاء كلمة، بدلا من إلقاء حجر"، ويظهر من خلال الواقع الذي يسهم هذا العَلَم الملغوم بالطائفية والعِرق والصدام والعداء والكراهية، وغيرها من العناصر الأخرى التي تؤسس بتدرج للصراع، أننا بصدد قلب مسيرة تاريخ المغرب، وأن الحجر فيما سَيُقْبِل من أيام، سيصبح هو الأداة المثلى للتحاور!!! * أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك/ جامعة الحسن الثاني – الدارالبيضاء.