لم يتوقف دعم المغرب الدبلوماسي في الأممالمتحدة للقضية القبايلية بعد إثارة ردود الفعل المرحبة من البعض، والغاضبة جدا من البعض الآخر. وهكذا تكرر هجوم الإعلام المحسوب على الأجهزة والمؤسسة العسكرية الجزائرية، على كل من «المخزن» ورموز النضال القبايلي، ولم يستثن نعتا من نعوت التآمر والغدر والعمالة إلا وألصقها بهم. بينما سارع في المقابل الصوت المسموع للقبايليين، ممثلا في حكومة القبايل المؤقتة، وعلى لسان اليزيد عبيد نائب رئيس حكومة القبايل المؤقتة، إلى تحية «الدعم المغربي للقضية القبايلية»، وتوقع أن يكون ذلك الحدث الدبلوماسي مقدمة لاعترافات دول أخرى. لكنه توقع أيضا، من منطلق معرفته العميقة بطبيعة النظام الجزائري، أن يتصرف هذا الأخير «مثل حيوان جريح». لكن بقدر ما تواصل تفاعل المواقف في كل الاتجاهات حول الموضوع على مدى الأيام القليلة الماضية، بقدر ما كانت الأسئلة تتناسل دون توقف، من قبيل: من هي حكومة القبايل المؤقتة؟ ما هي مطالبها؟ وما هي علاقتها بالحركة الأمازيغية في المغرب؟ وما موقفها من الوحدة الترابية للمغرب؟ وهل حقا يتلاعب بها المغرب إلى جانب المكونات الأمازيغية الأخرى، كما يدعي النظام الجزائري؟ للاستيضاح حول هذه الأسئلة وأخرى كثيرة غيرها بات يطرحها الرأي العام بإلحاح، اتصلنا برئيس حكومة القبايل المؤقتة فرحات مهنى في منفاه الفرنسي، فكان هذا الحوار، الذي تجدر الإشارة إلى أنه أجري في الأصل بالفرنسية. – بداية سيد فرحات مهني، ما هو جديد قضية القبايل؟ لقد اجتازت القضية القبايلية عدة خطوات، آخرها إقرار العَلَم القبايلي وهي الخطوة التي فاق نجاحها كل توقعاتنا. فقد حظي علمنا بحب واحترام القبايليين وأثار لديهم شعورا غير مسبوق بالاعتزاز، إذ تم رفعه فوق جميع المواقع الرمزية بمنطقة القبايل وعبر العالم: في بجاية، وبويرة، وتيزي أوزو، وكذلك في إشريدن، حتى نبرز للعالم بأننا انتصبنا واقفين في المكان نفسه بالضبط الذي تم فيه إركاع أسلافنا مؤقتا في 1857 [تاريخ إخضاع القبايل من طرف الاحتلال الفرنسي]، عندما أضاعت القبايل سيادتها. أما القرى القبايلية التي لا زالت لم تنظم بعد حفل رفع العلم فإنها تواصل الاستعداد لذلك. وللتذكير، فآخر مرة رفعنا فيها العلم [كحكومة مؤقتة] كانت بتاريخ 11 أكتوبر الماضي، بنيويورك أمام مقر الأممالمتحدة، حتى نقول للعالم قاطبة بأن القبايل تطرق باب هذه المنظمة لتطالب بحقها في دخولها، والحصول على مقعد بداخلها. وقد سمع المغرب نداءنا واستجاب له بعد انصرام 15 يوما [من وقفتنا أمام المنظمة الأممية]، فطالب الأممالمتحدة بإدراج حماية والنهوض بحقوق شعب القبايل ضمن جدول أعمالها، لدراسة حقه في تقرير مصيره. إن هذا الاختراق الدبلوماسي الذي ستتلوه اختراقات أخرى، يعد سابقة بالنسبة إلى قضيتنا. ولذلك نحرص شخصيا على التعبير عن تشكرات القبايل على هذا الدعم الأخوي للمغرب. – لنعد إلى لحظة تأسيس حكومتكم المؤقتة قبل أكثر قليلا من خمس سنين، لماذا شكلتم حكومة تطالب بتقرير مصير القبايل في وقت يعيش العالم على إيقاع العولمة؟ ثم لماذا «حكومة منفى»؟ تحتاج العولمة إلى إعادة مراجعة الجغرافيا السياسية المترسبة عن الحقبة الاستعمارية، حتى تعيد تركيب عالم أكثر استقرارا وحرية. وفي هذا الصدد، نرى أن من شأن انبثاق قبايل ذات سيادة أن يكون مقدمة، على الصعيد الجهوي، لبناء كتلة شمال أفريقية متساكنة ومتضامنة. وبالعودة إلى مسارنا [الكفاحي]، فقد بدأ كل شيء في 2001، عندما أصدرت الدولة الجزائرية الأمر بإطلاق الرصاص المتفجر على المتظاهرين القبايليين السلميين. وبلغ بها الأمر حد مطاردة الجرحى منهم في المستشفيات للإجهاز عليهم. فسقط نتيجة لذلك 128 قتيلا، عدا عن آلاف الجرحى والمعطوبين بإعاقات دائمة. لقد تجاوزت الدولة الجزائرية بهذا العدوان الوحشي خطا أحمر. فقمنا بمعاقبتها بالمطالبة بمصير مستقل للقبايل. في البداية، كان مطلبنا مقتصرا على حكم ذاتي جهوي. لكن في أعقاب عشر سنين من التجاهل والاحتقار الذي واجهتنا به الدولة الجزائرية، رغم الرسالة التي وجهناها في يونيو 2008 إلى كل الهيئات الجزائرية، قررنا الانتقال من حال المواجهة العقيمة مع الدولة الجزائرية إلى مرحلة أعلى. فأسسنا ال Anavad(حكومة القبايل المؤقتة) بتاريخ فاتح يونيو 2010، وعقدنا المؤتمر الثاني للحركة من أجل تقرير مصير القبايل MAK في ديسمبر 2011، الذي قام بتعديل مطلب القبايل من الاستقلال الذاتي إلى تقرير المصير. إن حكومتنا توجد في المنفى لأن ظروف القمع المسلط محليا هي من الشدة بحيث كان أعضاؤنا سيواجهون محكمة أمن الدولة، لو أسسناها داخل الجزائر. نحن لسنا خائفين من السجن أو من الموت، لكننا نريد فقط أن نعطي لشعب القبايل كل الحظوظ الممكنة حتى ينتزع حقه ويمتلك مصيره. ولذلك يبقى المنفى احتياطا وحماية، وحتى أكون واضحا فهو يوفر لنا حرية الحركة. – لنتكلم بصراحة أكثر.. بماذا تطالبون على وجه التحديد: باستقلال ذاتي في إطار الدولة الجزائرية، أم بالاستقلال التام عنها بكل بساطة؟ كحكومة مؤقتة للقبايل، نحن نطالب باستقلالنا. لكننا كديمقراطيين نؤمن بأن للشعب القبايلي وحده الحق في أن يقرر مستقبله السياسي بكامل السيادية. ولذلك يشكل الحق في تقرير المصير المفهوم الذي يناسب أكثر شعبنا. من جهة، لأنه متشبع بعمق بثقافة ديمقراطية ضاربة في القدم، ومن جهة أخرى، لأن مفهوم تقرير المصير هو الأكثر قابلية للتطبيق في حالة القبايل، من منظور القانون الدولي. – طيب، لننتقل إلى نقطة حساسة يؤاخذكم عليها كثير من خصومكم. فخلال زياراتكم إلى إسرائيل، لم تترددوا في الرد على الانتقادات الجزائرية الموجهة إليكم بالقول إن علاقاتكم مع تلك الدولة العبرية «تندرج في إطار علاقات دولة مع دولة». ما الذي يمكن أن تقدمه إسرائيل للقضية القبايلية؟ إن حكومتنا تبحث عن تحالفات داخل المجموعة الدولية. وكلما تم استقبالنا بحكم منصبنا من طرف قوة إقليمية إلا وسارعت دبلوماسيتها إلى الإعلان عن ذلك، خصوصا في واشنطن. إن إسرائيل دولة فتية يرتبط بها الكثير من اليهود المشتتين في العالم. وغدا عندما تصبح القبايل ذات سيادة سوف تكون شبيهة لها، ولذلك فإن مشاركة التجارب هو شيء ثمين بالنسبة إلينا، ونقطع كذلك وفورا [من خلال زيارة إسرائيل] مع الخطاب المعادي للسامية للدولة الجزائرية، ونضع نصب أعيننا أن نتعايش في سلم ورخاء مع باقي شعوب البحر الأبيض المتوسط. ليس بكل تأكيد للسلطات الاستعمارية الجزائرية أن تملي علينا من سيكون أصدقاؤنا في الخارج. والجزائر ٌ[العاصمة] تتمنى ألا يكون لنا أي صديق في العالم، حتى نبقى معزولين يائسين على الساحة الدولية. لكننا نحن هنا لانتزاع حق الشعب القبايلي في التعبير عن مستقبله، وتحركاتنا الدبلوماسية تذهب في هذا الاتجاه. – ضمن هذا الإطار، دخلت الدبلوماسية المغربية منعطفا جديدا أخيرا، من خلال دفاعها ولأول مرة عن قضية القبايل في أروقة الأممالمتحدة. كيف استقبلتم كحكومة مؤقتة للقبايل هذا التحول الجوهري لصالحكم؟ إنه أكبر نصر دبلوماسي تحقق لنا. بطبيعة الحال، هذا الاعتراف ما كان ليكون لولا نضال الحركة من أجل تقرير المصير في الميدان داخل القبايل، وبفضل الاتصالات التي تقوم بها حكومة القبايل المؤقتة على المستوى الدولي؛ وأيضا وبالأساس بفضل عزيمة وإصرار شعب القبايل. للمغرب دون شك أسبابه التي دفعت به إلى اتخاذ هذا القرار التاريخي والسليم لصالحنا. ونحن من جانبنا لدينا أسبابنا التي تجعلنا نستقبل هذا القرار باحترام، ونحمله كثيرا من آمالنا من أجل تطورات أخرى أكبر حجما ومنطقية. إنه باب فتح لنا وسوف نبادر من جهتنا إلى فتح أبواب أخرى. فالمطلوب منا جميعا أن نعمل على استقرار محيطنا الشمال أفريقي والمتوسطي والساحلي [نسبة إلى منطقة الساحل الأفريقي]. إذ نلاحظ أنه بخلاف المغرب، فإن الجزائر تتلاعب بالإرهاب الإسلامي من حولها، ما يمثل عامل زعزعة للاستقرار على الصعيد الجهوي. ومن واجبنا أن نوحد جهودنا لتحييد هذا التهديد. – في سياق علاقاتكم الخارجية كحكومة مؤقتة للقبايل دائما، وفي اتصال بالقرار الدبلوماسي الأخير لصالح قضيتكم، نريد أن نعرف منكم هل تم الاتصال بكم بشكل رسمي أو غير رسمي من طرف المغرب؟ هناك فعلا اتصالات جارية ونتمنى أن تقود في وقت نريده قريبا جدا، إلى وضع القواعد المؤسساتية المناسبة من أجل مزيد من التمتين لعلاقات الصداقة والتعاون المثمرة، القائمة منذ زمن بعيد بين شعبينا الشقيقين. – في السياق ذاته، تناقلت مواقع إخبارية أنباء عن قرب افتتاح ممثلية دبلوماسية لحكومتكم في الرباط. هل تؤكدون أو تنفون هذه الأنباء؟ إنها أكثر من أمنية بالنسبة للشعب القبايلي.. إنه طموح قوي من شأنه أن يشكل انتصارا آخر لقضيتنا، أن نتمكن من فتح أول ممثلية دبلوماسية للقبايل في الخارج في الرباط. لكن لندع الأشياء تتم بشكل منتظم وبعيدا عن أي تسرع. – على مستوى الوضع الداخلي الجزائري، لا يملك المتتبع إلا أن يندهش في كل مرة تشتعل غرداية أو ينتفض الأمازيغ في الجزائر، لمسارعة النظام الجزائري إلى اتهام المغرب بالضلوع في الأحداث، من دون تقديم دلائل.. كيف تقرأون خلفية هذه الشيطنة المنهجية للبلد الجار؟ إن شيطنة المغرب هي وسيلة لتحويل الأنظار. وحتى عندما لا تكون ثمة قلاقل على الأرض، يقوم النظام الجزائري باختلاقها كي يتمكن من اتهام المغرب، وإسرائيل، وفرنسا، وهي البلدان الثلاثة التي يسعى إلى تقديمها كأعداء للجزائر، من خلال اتهامها بالوقوف خلف الأحداث. وهذه «الأيادي الخارجية» تكرر اتهامها إلى درجة أن لا أحد أصبح يصدق تلك المزاعم. لقد أصبح النظام الجزائري متهالكا وفاقدا للمصداقية، إن داخليا أو خارجيا. ومع ذلك يواصل استعمال الحيل نفسها في سعيه إلى تحميل المسؤولية عن جرائمه للآخرين.. وعلى هذا النحو ختم على مصير الميزابيين من خلال ذبحهم على أيدي الشرطة والدرك الجزائريين، ثم اعتقال قادتهم ومحاكمتهم بتهمة «المس بأمن الدولة». – لكن النظام يتهم أمازيغ الجزائر بأنهم مجرد أدوات يتلاعب بها «المخزن».. فهل أنتم كذلك؟ هذا الاتهام سخيف وافترائي ولا أساس له من الصحة.. إن لدينا حقوقا يتم تجاهلها من طرف النظام الجزائري. وأمام هذا الإنكار، وباعتباري مدافعا عن الشعب القبايلي، من واجبي وليس فقط من حقي، أن أبحث عمن ينصت إلي ويساندني حيثما وجد. وإذا أراد المغرب استقبالنا، فلا يمكن اعتبار ذلك تلاعبا بنا، بل تلاقيا للمصالح نتحمل مسؤوليته كاملة. هل سبق لأحد أن اتهم زعيم الأمازيغ في جزر الكناري أنطونيو كوبيلو بأن الجزائر كانت تتلاعب به عندما كان لاجئا لديها، ومناضلا انطلاقا من أراضيها من أجل استقلال جزر الكناري [عن إسبانيا]؟ – ثمة مفارقة عجيبة لا يستقيم لها منطق وتحكم مع ذلك سياسة الدولة الجزائرية. فبينما تنكر على شعب القبايل حقه في تقرير مصيره، نجدها لا تتوقف عن الترويج منذ 40 عاما لأطروحة «حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره».. نحن أمام أي منطق هنا؟؟ إن النظام الجزائري يتصور بأن كل شيء مسموح له القيام به. فنجده يطالب البوليساريو التي صنعها صنعا بالحق في تقرير مصير الصحراء، رغم أن هذه الأخيرة كان يسكنها بالكاد 75000 نسمة في 1975، حتى تقيم فيها دولة «عربية»، بينما ينكر في بلاده حقوق شعب القبايل، وهو شعب أمازيغي تعداد سكانه 10 ملايين نسمة. لقد دعا هذا النظام إلى عقد مؤتمر دولي في يوليو 1976 للمصادقة على ميثاق حقوق الشعوب، في الوقت نفسه الذي كان يعتقل ويعذب مناضلين قبايليين، لمجرد حيازتهم حرف تيفيناغ. وما يزال هذا النظام يعتقد بأنه يستفيد من عدم محاسبة دولية أبدية، رغم أن العالم تطور، وأبناء القبايل المضطهدة عرفوا كيف يتسللون عبر عقد الكثير من الفخاخ القاتلة التي نصبت لهم، حتى يجدوا طريق الحرية لوطنهم الوحيد: القبايل. – ما هو نوع العلاقات التي تربطكم بالحركة الأمازيغية المغربية؟ لقد نسجنا علاقات أخوة مع الحركة الأمازيغية المغربية منذ ثمانينات القرن الماضي، في وقت كان المحجوبي أحرضان هو مرجعنا الوحيد. ثم تكثفت الاتصالات بيننا بعد فتح الحدود الجزائرية المغربية [مطلع التسعينيات]، حيث تمكنا من أن تقدير ما هو مشترك بيننا، وما يشكل خصوصيتنا كشعب قبايلي. وإلى اليوم، ما زلت ألتقي بكثير من السرور أطياف المناضلين الأمازيغيين من المغرب، في إطار علاقات تنحصر غالبا في إطار دعوات إلى لقاءات ثقافية محضة. – كسؤال أخير، من المدهش أن قضية الشعب القبايلي بلغت العالمية بفضل مجموعة من الفنانين الكبار، خصوصا المغنيين، أمثال فرحات مهني، والمرحوم لونيس معتوب، وإيدير، ولونيس آيت منقلات.. كيف تفسر هذه الظاهرة التي تنفرد بها القبايل؟ إن شعب القبايل يعطي قيمة للكلمة وللجمالي، والمغني هو الذي يقوم بتوليفهما. ويعود أصل هذه الظاهرة خلال القرن العشرين إلى المرحوم سليمان عازم[شاعر ومغني قبايلي]، الذي تم منعه بعد استقلال الجزائر من البث. وعندما خاضت القبايل حربا قادها الحسين آيت أحمد ضد ابن بلة، تمكن المغني القبايلي خلال هذه الفترة من أن يتحول إلى لسان حال شعبه. ومن خلال الكلام المنظوم، والحِكم، واللعب بمعاني الكلمات، تمكن المغني القبايلي من أن يكسب شعبية غير مسبوقة ويصبح بطلا. فمنح شريف خدام [مطرب جزائري من أصل قبايلي، توفي في 2012]، ثم بعده جيل السبعينيات، هالة أكبر لأولئك الذين يُعبرون بطريقة شجاعة، من خلال الأغنية التي هي وسيلة التعبير الوحيدة المنفلتة من الرقابة الجزائرية، عن آمال القبايليين. إن كل هؤلاء المغنيين نجحوا ببراعة في نقل الثقافة القبايلية والأمازيغية إلى العالمية، وأتاحوا للأمازيغ أن يسترجعوا أصولهم التي تعود إلى آلاف السنين. إن هؤلاء الفنانين هم فخر للقبايليين. فرحات مهني.. فنان ملتزم في جبة زعيم كاريزمي ما بين تاريخ مولده بمنطقة القبايل في الخامس من مارس 1951، وتاريخ تحمله رئاسة حكومة القبايل في المنفى في الفاتح من يونيو 2010، عاش فرحات مهنى تقلبات السياسة الجزائرية بكل فصولها، وعانى محنا كثيرة أثرت في مساره السياسي، ليس أقلها قسوة السجن والمنفى والاحتقار. فحسمت جميع تلك المؤثرات خياره واضحا ولا رجعة لديه: استقلال القبايل. لقد امتلك هذا القبايلي، المتحدر من مجاهد شارك في حرب التحرير، وعيا سياسيا مبكرا بالتزامن مع تفجر الحس الفني فيه. وكانت بدايات تعبيره عن انتمائه الأمازيغي، إلى جانب رفيق دربه الدكتور سعيد سعدي منذ مطلع السبعينيات، عندما أسسا مجلة تفتيلت (شعلة)، ثم إثري (نجمة)، سعيا من خلالهما إلى بلورة مطالب ثقافية. وخلال الفترة نفسها دشن مهني مساره الفني، من خلال مشاركته في مهرجان للأغنية الجزائرية في ربيع 1973، مع فرقته التي حملت اسم إيمازيغن (الأمازيغ). ثم سريعا وجد الشاب الأمازيغي القادم من إحدى قرى القبايل المهمشة نفسه منخرطا في معمعان النقاش حول الهوية في 1976، ومعبرا عن انتمائه الأمازيغي في كل الملتقيات. وخلال الفترة نفسها بدأت مماحكاته مع الأمن العسكري، ليجد نفسه عندما انفجر الربيع الأمازيغي في 1980، من أبرز صناعه، فتعرض للاعتقال إلى جانب آخرين وهو العضو في «لجنة أبناء الشهداء». وبعد إطلاق سراحه، سحب منه جواز سفره وأصبح موضوع مضايقات ومراقبة أمنية لصيقة. وفي منتصف الثمانينيات، كان مهني من مؤسسي العصبة الجزائرية لحقوق الإنسان فانتخب عضوا بارزا في جهازها الإداري، وتعرض بسبب ذلك للاعتقال وأدين بثلاث سنوات سجنا. وبعد خروجه من السجن بعفو رئاسي في أعقاب عامين قضاهما خلف القضبان، أسس رفقة سعيد سعدي حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وأصبح مهني واحدا من أشهر قيادييه. لكنهما اختلفا فغادر هذا الأخير الحزب، ليجد نفسه في خريف 1994 في قيادة حملة المقاطعة المدرسية التي أطلقتها الحركة الثقافية الأمازيغية، وكان من أبرز نتائجها أن خلق النظام الجزائري لجنة عليا للأمازيغية. بيد أن سخرية القدر جعلته يتواجد بالصدفة في الطائرة الفرنسية التي خطفتها مجموعة تابعة للجماعة الإسلامية المسلحة في العام نفسه، فخرج من المحنة مصدوما، لكنه استعاد حياته الفنية فأصدر ألبومين غنائيين في باريس. ثم سريعا عاد إلى السياسة، عندما اتصل به جنرالات النظام لطلب وساطته من أجل وقف مقاطعة الدراسة التي أعقبت اختطاف المغني القبايلي لونيس معتوب. وبعدما فرض عليهم بعض الإجراءات لفائدة الاعتراف بالأمازيغية في الجزائر، دعا فرحات مهنى القبايليين على التلفزيون الرسمي إلى وضع حد ل»حرب المحفظات». لكن في 2001، وفي أعقاب الأحداث الدامية التي انفجرت في القبايل (الربيع الأسود)، دعا فرحات مهني إلى إقرار حكم ذاتي جهوي. وفي هذا الاتجاه أسس «الحركة من أجل تقرير مصير القبايل» بجماعة مكودة (في القبايل). وفي 2004، تعرض ابنه أمزيان لاغتيال غامض في باريس، لم تكشف ملابساته أبدا. وفي صيف 2010، شكل في باريس حكومة القبايل المؤقتة من تسعة وزراء. ورغم مسلسل الأحداث المتقلب هذا وفي خضمه، ألف فرحات مهنى كتبا وأغاني حمّلها مشاعره وأحلامه بأن يرى القبايل التي أنجبته حرة مستقلة. إن المسار الكفاحي الطويل لفرحات مهنى يشهد له بأنه ليس طارئا ولا حديث عهد بالحديث عن القضية القبايلية. واليوم وهو في بداية شيخوخته، ما يزال يحمل صدق الفنان الملتزم الذي ارتدى اضطرارا جبة المناضل السياسي. يثير الكثير من الجدل في كل مواقفه وقراراته «لأن لسانه ليس من خشب»، ويعبر عن السياسة بلغة هي أقرب إلى الشعر. ثم يسبغ على حديثه مسحة من التفاؤل، من خلال ابتسامته الشهيرة. بالنسبة إلى مناهضيه داخل الجزائر، ليس فرحات مهنى أكثر من عميل يعمل لفائدة «المخزن» المغربي، تتلاعب به كل من إسرائيل التي «تخطط لتقسيم الجزائر»، وفرنسا. لكنه بالنسبة لشعب القبايل يعد أحد الرموز الحية للنضال من أجل الحرية. المساء