نشرت صحيفة "ذا نيويوركر" الأمريكية، يوم السبت 29 دجنبر، تقريرا مطولا عن قضية الصحراء المغربية لكاتبه نيكولاس نياركوس. ويبدو من تقرير نياركوس، الذي أقل ما يقال عنه أنه مسيء للمغرب، أنه كتبه لإرضاء جهة معينة. فالمقال يصور النزاع كما يراه الجزائريون والبوليساريو، ويزعم أن المغرب "يحتل" الصحراء، و"يظلم" الصحراويين، و"يحرمهم" من حرية التنقل، مدعيا أن الصحراء "ما كانت قط خاضعة لسيادة المغرب". وفي محاولة لاستمالة القارئ إلى الظن بأن المغرب لم يكن يعد الصحراء جزءا من ترابه، استشهد صاحب المقال بمعاهدة مراكش الموقعة عام 1767، لكنه تحاشى الإشارة إلى أن المغرب لم يوافق على التأويل الإسباني للمعاهدة آنذاك منذ توقيعه لها. وقد ذهب العديد من الباحثين إلى أن إسبانيا فسرت النسخة المكتوبة بالإسبانية من المعاهدة بما يخدم مصالحها، متجاهلة اعتراضات المغرب، الذي طالما أكد أن المادة 18 بالنسخة العربية من المعاهدة لا تنص على أن الصحراء لم تكن خاضعة لسيادة المغرب. وقد حاول نياركوس في مقاله التحجج باتفاق 1767 لكي يثبت عدم مشروعية سيادة المغرب على الصحراء، ناسيا أن البريطانيين اعترفوا بمغربية الصحراء في معاهدة أخرى وقعت بين المغرب والمملكة المتحدة في مارس 1895. شركات العلاقات العامة تدخل على الخط للترويج للرواية الجزائرية لم يكن الهدف من نشر هذا التقرير المطول تثقيف القارئ بخصوص جميع حيثيات نزاع الصحراء، وإنما الترويج للمزاعم الجزائرية بأن المغرب "يحتل" الصحراء، ويقف عقبة أمام التوصل إلى حل نهائي للنزاع. ولعل ذلك ما يظهر جلياً من خلال انتقائية الكاتب في سرد الحقائق التاريخية، والتغاضي عن العديد من الحقائق الأخرى، التي لا تتماشى مع الرواية التي يسعى إلى الترويج لها. كما يلاحظ أن مقال نياركوس لا يستشهد برأي أي محلل أو باحث سياسي يناقض طرح الكاتب وما ينطوي عليه مقاله من نواقص وتأويلات ومغالطات. والأكثر من ذلك أن المقال لا يذكر شيئا عن دعم الجزائر لجبهة البوليساريو سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا وماليا منذ نشأة الجبهة قبل أكثر من أربعين عاما. والواضح أن ما يرمي إليه صاحب المقال هو حصر النزاع بين المغرب وجبهة البوليساريو. كما لم يأت المقال على ذكر استغلال قيادة البوليساريو والحكومة الجزائرية للمساعدات الإنسانية المخصصة لمخيمات تندوف على مدى العقود الأربعة الماضية، ناهيك عن حرمان سكان المخيمات من حرية التنقل داخل الجزائر، ومن الحصول على بطاقات اللاجئين الصادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وحسب تقرير للجنة الأمريكية للاجئين والمهاجرين صدر عام 2009، تمنع البوليساريو الصحراويين الراغبين في السفر إلى موريتانيا من اصطحاب عائلاتهم وممتلكاتهم، كما يُمنعون من السفر إلى بلد أجنبي بدون موافقة مسبقة من البوليساريو والجزائر. كما يحظر "دستور" البوليساريو تأسيس أي أحزاب سياسية في مخيمات تندوف قبل "استقلال" الصحراء المغربية. كما أن البوليساريو لا تسمح بالتعبير عن أي آراء تنتقد شرعيتها داخل المخيمات، ولا النهج الذي تتبناه في التعاطي مع العملية السياسية الأممية. وتُعد قضية مصطفى سلمى ولد سيدي مولود خير دليل على ذلك. فمنذ 2010 تلقى مدير الأمن العام السابق لجبهة البوليساريو معاملة قاسية لتعبيره عن رأي مخالف لتوجه الجبهة، بعدما صرح بأن مخطط الحكم الذاتي الذي وضعه المغرب خطوة إيجابية لإنهاء النزاع، فكانت النتيجة سجنه، ثم طرده من المخيمات، وحرمانه من لقاء عائلته. وخلال حديثي مع مصطفى سلمى في العديد من المناسبات، أكد لي أن قيادة الجبهة تخوّن وتضايق وتعاقب بقسوة كل صحراوي يعبر عن رأي مخالف لها أو يحاول التنويه بمخطط الحكم الذاتي المغربي. ولعل خير مثال على تشدد البوليساريو تجاه الأصوات المعارضة داخل المخيمات هو تصريح القيادي في الجبهة البشير مصطفى السيد، حيث قال معلقا على إطلاق "المبادرة الصحراوية من أجل التغيير"، التي تنتقد الوضع في المخيمات، إن "أي شخص قرر أن يخرج من البوليساريو، أو يسعى إلى تأسيس منظمة جديدة، لن يستحق الرحمة أو التعاطف من جانبنا". وبالعودة إلى مقال "ذا نيويوركر"، فكاتبه لم يسلط الضوء على سلوكات قيادة البوليساريو، وتحكم الجزائر في كل تصرفاتها ومواقفها وتوجهاتها. فعوض الخوض في ذلك، سعى إلى تقديم مخيمات تندوف على أنها مسيرة كما لو كانت دولة ذات مؤسسات، حيث "المدارس مفتوحة، والمستوصفات تزود الناس بالغذاء والدواء، والقانون يُحترم، والمحاكم تمارس سلطاتها". كما زعم أن الاقتصاد تحسن كثيرا حتى أصبح "أقرب إلى الاقتصاد الرأسمالي". ولم يكتف بهذه الادعاءات، بل نقل عن مسؤول في البوليساريو قوله إن "نساء المخيمات يتمتعن باستقلالية قل نظيرها في العالم العربي". ومن اللافت للانتباه أن أسلوب كتابة مقال نياركوس يشبه أسلوب مقالات ديفيد كين عن موضوع الصحراء. ففي مقالة افتتاحية نشرت عام 2010، ادعى ديفيد كين أن "دستور البوليساريو قل نظيره بين الدول المسلمة، إذ يكفل للمقيمين حق التصويت، وللمرأة المساواة مع الرجل". وفي افتتاحية نشرها سنة 2004، زعم أن البوليساريو "أسست ديمقراطية فعلية تضمن المساواة بين الرجال والنساء". ضرورة رد المغرب على الحملة الإعلامية الجزائرية يظهر من أسلوب كتابة مقال نياركوس وتحليلاته أن لجهاز العلاقات العامة الذي يديره ديفيد كين يدا فيه. ففي نوفمبر الماضي تعاقدت الجزائر مع ديفيد كين، المقرب من المستشار الأمريكي جون بولتون. ولا يخفى على أحد سعي الجزائر من وراء هذا المقال إلى توجيه النقاش لصالحها في واشنطن، وكسب التأييد لمواقفها من قضية الصحراء، وهو الأمر الذي أفلحت فيه نسبيا إلى حد الآن. وقد نكون سذجا إذا سلمنا بأن هذا المقال يهدف بالفعل إلى تثقيف المتلقي الأمريكي حول النزاع، وأن هذا الصحافي، الذي لم يسبق له قط أن كتب عن قضية معقدة مثل قضية الصحراء، قرر بين عشية وضحاها، ومن تلقاء نفسه، الاهتمام بهذا الموضوع وكتابة تقرير مطول عنه. إن هذا المقال هو نموذج خالص من العمل الذي تقوم بها شركات العلاقات العامة وجماعات الضغط في واشنطن من أجل الدفع بأجندة الدول التي تعمل لصالحها. فمعروف أن جماعات الضغط تختار بعض الصحافيين، وتدفع تكاليف سفرهم وإقامتهم للقاء بعض الأشخاص المؤثرين في القضايا التي تهم تلك الجماعات. وما إن يَعُد الصحافي من سفره حتى يخرج بمقال يروج لهذا الرأي أو ذاك حسب ما تمليه عليه جماعة الضغط. والأمثلة على ذلك كثيرة، حيث إن العديد من الدول تتعاقد مع جماعات الضغط وشركات العلاقات العامة من أجل كتابة تقارير ومقالات رأي تخدم أجندتها وتسيء إلى خصومها. وفور تعاقد الجزائر مع ديفيد كين، سارعتُ إلى التنبيه إلى أن تلك الخطوة الجزائرية قد تبعثر أوراق الدبلوماسية المغربية بواشنطن، وأكدت على حاجة المغرب إلى التحرك بأقصى سرعة لإبطال مفعول الجهود التي ستقوم بها الجزائر للتأثير على صناع الرأي في واشنطن، وعلى المسؤولين الأمريكيين. وفي ضوء الحملة الإعلامية المنظمة التي أطلقتها الجزائر في الشهرين الماضيين، لا يسعنا إلا التساؤل عن فعالية شركات العلاقات العامة المغربية، التي تعاقدت معها وزارة الشؤون الخارجية المغربية مطلع 2018، في إبطال المزاعم الجزائرية وتقوية الموقف المغربي في واشنطن. فخلال متابعتي المستمرة لهذا الموضوع، لم أجد أي نشاط إعلامي لتلك الشركات ولا مقالات نشرتها في مؤسسات إعلامية أمريكية وازنة من شأنها إبراز موقف المغرب وإيصال الرسالة إلى المسؤولين الأمريكيين. ومنذ عامين حلت بالبيت الأبيض إدارة جديدة يصعب توقع قراراتها، فهي لا تنهج المبادئ نفسها التي تبنتها السياسة الخارجية الأمريكية في الماضي. لذا وجب القول بأن مصالح المغرب ستتضرر إذا لم يأخذ الإعلاميون والمراقبون والمسؤولون المغاربة هذا المستجد على محمل الجد. وفي هذا الصدد، ينبغي أن يكون القرار الأخير للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بسحب القوات الأمريكية من سوريا دون الاكتراث بموقف أو رأي أي مسؤول داخل الإدارة الأمريكية بمثابة إنذار بأنه يصعب توقع الخطوات التي يمكن أن تتخذها الإدارة الأمريكية الحالية بخصوص أي قضية تهم السياسة الخارجية الأمريكية. ومن ثم الحاجة إلى العمل المتواصل لمنع أي تطور للأحداث قد يعرض مصالح المغرب الاستراتيجية للخطر. كما أن مجلس النواب الأمريكي أصبح تحت سيطرة الحزب الديمقراطي لأول مرة منذ عام 2011، مما سيتطلب من المغرب بذل الكثير من الجهود للحفاظ على المكتسبات التي تم تحقيقها خلال السنوات الأخيرة في الكونغرس. كما سيكون على المغرب خلال السنتين القادمتين التقرب أكثر فأكثر من أعضاء مجلس الشيوخ، ووضع حد لسيطرة بعض أعضائه المقربين من الجزائر على مواقف وتوجهات هذا المجلس بخصوص قضية الصحراء. وكما ذكرت في مقالة سابقة، على المسؤولين في وزارة الخارجية المغربية تقييم عمل شركات العلاقات العامة التي تعمل لصالح المغرب مقابل مبالغ مالية ضخمة، وتأثيرها على النقاش العام في واشنطن بشأن النزاع. إن الاستعانة بشركة أمريكية يمتلكها أي أمريكي لا يعني أن تلك الشركة تمتلك الكفاءة والدراية اللازمتين بخصوص النزاع أو تمتلك شبكة من الصداقات التي بإمكانها مساعدتها على كسب الدعم الأمريكي للموقف المغربي. يأتي هذا فيما يحاول بعض المحللين التقليل من أثر هذا التحرك الجزائري على المغرب، بناءً على فهم متقادم للعلاقات المغربية الأمريكية مفاده أن الولاياتالمتحدة لن تدير ظهرها للمغرب نظرا إلى متانة العلاقات بين البلدين. لكن على الإعلاميين والمحللين المغاربة التحلي بمزيد من الجرأة، وتسمية الأشياء بمسمياتها، ومصارحة القراء والمسؤولين بحقيقة الوضع وما ينطوي عليه من مخاطر. إن حب الوطن لا يقاس فقط بالتصفيق للنجاحات التي قد يحققها المغرب في بعض المجالات، بل كذلك بالتحلي بالنزاهة والمسؤولية لدق ناقوس الخطر أو التنبيه إلى أي خطر أو تهديد قد يعصف بالمصالح الاستراتيجية للبلاد، ودفع المسؤولين في البلاد إلى التحرك لدرء تلك الأخطار. لا خلاف على أن الدبلوماسية المغربية حققت مكاسب كبيرة في السنوات الأخيرة، لكن تلك المكاسب قد تذهب سُدى إذا لم يعمل المغرب على نحو استباقي على منع الجزائر من رسم ملامح النقاش الدائر في واشنطن بشأن الصحراء المغربية. ومن ثم، وجب التأكيد على الحاجة إلى تحرك غير مسبوق من طرف المغرب لإحباط كل محاولات الجزائر للنيل من المصالح العليا للبلاد.