وجبة الغذاء يومان مرّا على نزول الطائرة التي أقلتني على متنها. إنني لست في رحلة سياحية أو في زيارة عائلية؛ ولكنني في بلدي.. الإحساس بوجودي في بلدي سيأتي مستقبلا. أسلك اليوم نفس الطريق التي سلكتها أثناء التجربة التي قمت بها يوم البارحة: عبر القطار من محطة "فوردن" إلى محطة "ماودربورط" بأمستردام. النزول عبر الدرج إلى الأسفل ثم على اليسار. عبور طريق الدراجات أولا، ثم طريق السيارات وسكة "الترام"، بعد ذلك طريق الحافلات والرصيف. وأخيرا آخذ الشارع الثالث على اليمين وتتبعه إلى غاية الوصول إلى بناية مخالفة لباقي مباني الشارع.. إنها بناية جديدة. الساحة فارغة من التلاميذ. إنهم ما زالوا في عطلة. غدا سأباشر عملي كأستاذ في الديار الهولاندية. اليوم أنا الزميل المغربي الجديد الذي سيعزز الفريق المدرسي. قاعة فسيحة وفارغة، ما عدا بعض الصناديق الموجودة في إحدى الزوايا. الرائحة المنبعثة توحي بأن كل شيء هنا جديد. داخل الفصل توجد مغسلة بمعية صنبور ماء. لدي الاختيار في استعمال الماء البارد أو الماء الساخن. توجد مناديل لمسح الأيدي، وهناك أيضا ستائر. كما يمكنني أن أضع كتبي ومعداتي المدرسية في الخزانة المعدة لذلك. الصناديق الموجودة داخل القسم مملوءة بالكتب المدرسية العربية. جزء منها من مصر وجزء آخر من المغرب. توجد أيضا مجموعة كتب هولاندية تحاول عن طريق الترجمة التعبير على أنها هي الأخرى تؤدي نفس المهمة. تمر أصابعي بسرعة عبر صفحات هذه الكتب، بينما تقوم عيني بمسح ضوئي للصفحات. تولد عن هذه العملية صفان من الكتب. صف أقبر داخل الخزانة والصف الثاني وضع على أحد الرفوف باديا للعيان. تقتحم طانية، نائبة المدير، قسمي حوالي منتصف النهار لتطلب مني الالتحاق بقاعة الأساتذة. "إنه وقت الغذاء"! هذا ما فهمت من جملتها الإنجليزية. الصناديق لم تفرغ بعد, ولكن فكرة الغذاء, فكرة جيدة على مايبدو. تغص القاعة بالمدرسين والمدرسات، بالإضافة إلى المدير. أتقدم بالسلام على كل واحد منهم. "اسمي مصطفى"، أردد هذه العبارة بالفرنسية في وجه كل فرد أصافحه. أجلس في أحد جوانب القاعة المخصصة لاستراحة المدرسين. كلما حل شخص جديد بالقاعة أقوم وأردد نفس عملية المصافحة. في الكرسي المقابل لي يجلس "بيرت". يأخذ هذا الأخير علبته الزرقاء ويزيل غطاءها. تنبعث منها أعداد من فطائر الخبز ألصقت الواحدة بالأخرى. تفصلهما شرائح الجبن الأصفر. توجد في نفس العلبة الزرقاء حبتان من الفجل الأحمر. بالقرب من "بيرت" يجلس زميل آخر، هو أيضا يتناول شطائر خبز فرقت بشيء آخر. شيء أحمر. زميلة أخرى لا تتوفر على علبة زرقاء، بل لديها كيس بلاستيكي شفاف عقد من فوق. باقي الزملاء لديهم هم أيضا فطائر الخبز يتوسطها شيء من الأشياء. أما في علبة ملونة أو في كيس بلاستيكي شفاف. انهمك الجميع في تناول وجبة الفطور الثانية، بينما لا أزال أحملق في القاعة في انتظار وجبة الغذاء. فوق الطاولة الوحيدة التي تتوسط القاعة، وضع إبريق زجاجي مملوء بسائل أدكن اللون. داخل الإبريق يوجد كيس صغير. تسألني طانية بالهولاندية: "هل تريد شرب كأس شاي؟". يتبين من حركة يديها أنه لا داعي لإعادة الطلب بالفرنسية أو الإنجليزية. قدم لي كأس شاي لا توجد به حبات الشاي المعهودة أو أعراش النعناع الخضراء. كأس شاي بدون ملعقة. لا يوجد سكر في الشاي، ولا يوجد سكر على الطاولة أيضا. أقدمت على شرب الماء الساخن. أيام بعد ذلك، أرشدني أحد الزملاء إلى مكان السكر الذي لا يستعمل إلا نادرا. إنه يوجد في المطبخ المجاور للقاعة. مطبخ خاص بالأساتذة! بناية المدرسة بناية جديدة. أنا أيضا جديد بالنسبة إلى زملائي هنا في العمل. وثلاثة ملاعق من السكر التي أضفت إلى كأس الشاي هي أيضا شيء جديد. يتابع "بيرت" قضم شطائر الخبز المحشوة بالجبن؛ بينما يرمي باقي الزملاء أكياس البلاستيك في قمامة الأزبال بعد إفراغها من محتواها. أما أنا، فأنتشي بكأس الشاي في انتظار وجبة الغذاء. إنها بداية عهد جديد! (أمستردام غشت 1988)