إن المتتبع والمهتم بالشأن الوطني لن يجد صعوبة تذكر في استخلاص أربع حقائق مفجعة وصادمة؛ أولها أننا نعيش أزمة خانقة على كافة المستويات وقتلنا التشخيص بحثا، ولكن دون أجوبة وحلول ملموسة. وثانيها انتشار مرعب للعدوانية (والحقد وحتى الرغبة في الإيذاء هكذا مجانا) داخل المجتمع جراء الضغوطات الهائلة، والتي يئن تحت رحمتها عموم الأسر والشرائح الاجتماعية؛ وثالثا سيادة الضبابية والعبثية واتساع نطاق الاحتقان والإحباط، يقابله غياب شبه كلي لبوادر الانفراج والمعالجة الجدية للقضايا الشائكة والمستعجل..رابعا الدور السلبي للغاية لحزب العدالة والتنمية في تكثيف هذه المظاهر.. حزب تحوّل إلى مشكلة حقيقية بعدما فشل في أن يكون حلا وطيلة سبع سنوات متواصلة. العدالة والتنمية: تصحّر في الأطر..أقلية منظمة بعد سبع سنوات من تدبير الشأن العام والهيمنة المطلقة على السلطة التنفيذية والتشريعية والجماعات والقطاعات وحتى الشارع العام، بات واضحا أن حزب العدالة والتنمية فشل في تحقيق الرخاء الاقتصادي والاجتماعي للمغاربة. سبع سنوات كان فيها أداء الحزب متواضعا للغاية قياسا مع الإمكانيات التي يتوفر عليها والتي وضعت تحت تصرفه. الدولة على مشارف الإفلاس بسبب الارتفاع الصاروخي لحجم المديونية وارتفاع معدلات البطالة وانهيار الطبقة المتوسطة وإغلاق آلاف المقاولات الخاصة الصغيرة منها والمتوسطة. فبكل تجرد وموضوعية فإن حزب العدالة والتنمية أوصل البلاد إلى حافة الإفلاس..حزب كان كل حلمه وأقصى رهانه السياسي هو تشكيل فريق بمجلس النواب وتسيير جماعتين أو ثلاث في جغرافية نائية وجد نفسه على حين غرة يسيطر على دولة برمتها دون أن تكون له الإجابات اللازمة ولا الأطر الضرورية. من المحقّق أن أمور الدولة لا تسيّر بالقهقهات والأدعية والأذكار أو بالنكت. وطبعا سنجد أن حزب البي جي دي، حزب محظوظ، فليس في تاريخ الحزب بطولات نضالية ولا تضحيات جسام ولا حتى علاقات دولية تنفع البلد والعباد. حزب بلا صفحات مشرقة، لم يطالب لا بتعديل الدستور ولا بمؤسسات ديمقراطية ولا بلائحة وطنية وتوسيع صلاحيات المؤسسة التنفيذية والتشريعية وغيرها من المعارك الديمقراطية والتنموية، كما أنه لم يحمل على عاتقه برنامجا مجتمعيا حقيقيا، ورغم كل ما تقدّم قاده الحظ إلى الاستفادة من كل ما ضحى من أجله غيره وبسط نفوذه وبكثير من التكبر على كل المؤسسات تقريبا ودون نتيجة ولا فعالية ولا حتى قيمة إضافية تذكر. صحيح أن حزب العدالة والتنمية فاجأ الجميع بوحدة صفه الداخلي وتماسكه التنظيمي رغم مختلف الزوابع والزلازل التي هزت كيانه ورغم إكراهات تدبير الشأن العام؛ ولكن لا يجب إسقاط ومقارنة هذا الواقع التنظيمي مع باقي الأحزاب السياسية الأخرى، باعتبار ذلك مجحفا ومختلا، فأولا: عمر الحزب "صغير جدا" قياسا مع حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي مثلا، ولعامل الزمن دور كبير في تفشي الصراعات، وثانيا الاكتساح الذي حققه الحزب مكن جميع فئاته وأطره بالكامل من "الاستفادة الحزبية"، وهو ما لم يتأت للأحزاب الأخرى، حيث تكون الانتظارات طويلة الأمد فضلا عن صراعات طاحنة تخلف في الغالب الكثير من الضحايا. وثالثا حسب نظرنا دائما الدور الحاسم لحركة التوحيد والإصلاح باعتبارها سلطة تأديب وإخضاع واحتواء جبارة. فخلافا لما يقال وينشر بكون حركة التوحيد والإصلاح هي الذراع الدعوي للحزب، نعتقد جازمين أن الأصل هو الحركة، أي إن حزب العدالة والتنمية هو الذراع السياسي لحركة التوحيد والإصلاح وليس العكس. باختصار فالمستقبل التنظيمي لحزب العدالة والتنمية لا يلعب في الأمانة العامة أو المجلس الوطني للحزب، بل في حركة التوحيد والإصلاح...فداخل الحركة يقرّر كل شيء. الاتحاد الاشتراكي: خزان أطر..جحود..أغلبية مشتتة لا يمكن لأي باحث ودارس، جاد وموضوعي، خاصة في السياسة أو تاريخ المغرب الحديث، ألا يتوقف طويلا عند تجربة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. حزب راكم تجربة كبيرة للغاية وساهم مساهمة وازنة في تحديث الدولة والمجتمع..حزب مرتبط كليا باللحظات المفصلية للمغرب الحديث، حزب عانى الكثير جدا ودفع أثمان باهظة (اعتقالات-مناف-سجون-تعذيب...) خلافا لكل الأحزاب السياسية المغربية. خصوم وأصدقاء حزب الاتحاد الاشتراكي متفقون على أن تجربة الحزب الكبيرة مكنته من التوفر على آلاف الأطر في مختلف التخصصات، وأيضا إنجاب رجال دولة كبار... وما الفائدة من حزب لا ينتج الكفاءات والأطر؟ كما أن للحزب صيت دولي مقتدر، كما له شبكة مؤثرة داخليا وإقليميا وخارجيا، لكنها معطلة إلى اليوم وتحتاج إلى "فنان اتحادي مبدع" يعيد تشغيلها. تاريخ الاتحاد الاشتراكي، حلم، عذاب وتميز يقابله جحود وعدم إنصاف. نعم اتحاد اليوم ليس هو اتحاد الأمس، فالعالم تغير وحتى الناس، ولكن مشاكل المغرب لازلت "هي هي"، بل ساءت الأوضاع وتم تدمير الكثير من المكتسبات و"السطو" مع تحريف أخرى اقتصاديا واجتماعيا وحتى سياسيا، الأمر الذي يفرض الحاجة إلى عودة الروح إلى الاتحاد ووطنييه الصادقين. وإذا كان حزب العدالة والتنمية أقلية منظمة وحزبا محظوظا بسيطرته على جل المؤسسات دون تضحيات ولا استحقاق وفي زمن قياسي، فإنه في المقابل يمكن الجزم بأن العائلة الاتحادية أكثر عددا من حزب المصباح لو توحّدت وتجاوزت الصراعات وطوّقت الخلافات. حزب يعج برجالات الدولة والأفكار والحلول في مواجهة حزب عاجز حتى عن تدبير نجاحه الانتخابي. حركة حداثية وطنية في مواجهة حركة محافظة غير مؤتمنة. وبغير قليل من التحفظ فإن حزب الاتحاد الاشتراكي قوة مضاهية لحزب المصباح وبأفق مفتوح ومشكلتها أنها كتلة عائمة ومبعثرة ومشتتة وتلعب فيها صراعات العائلات ومصالحها المادية دورا مخربا ومدمرا للغاية. حكى لي أحد القياديين في حزب العدالة والتنمية (وهو بالمناسبة صديق)، جوابا على سؤال: "بم تفسر وأنت القيادي استمرار التماسك التنظيمي لحزبكم خاصة أنكم لم تقدموا للمغاربة أي شيء يذكر وأنتم تسيطرون على الميزانيات وجل المؤسسات المنتخبة؟"..(حكى) أن: "كل عضو في حزب العدالة والتنمية ينام ويستيقظ على تجربة الاتحاد الاشتراكي، وحتى من شروط الانتساب والانخراط في الحزب هو أن تحفظ عن ظهر قلب مصير وتاريخ الاتحاد الاشتراكي وتجربة اليوسفي في حكومة التناوب..حتى لا يتكرر ذلك عندنا".. ضحكت طبعا لأن في الأمر / الجواب بعض المبالغة، ولكن حملت الإجابة على محمل الجهد لأن فيها الكثير من الجدية والصدقية. وبعبارة أخرى حزب العدالة والتنمية يقتات على حزب الاتحاد الاشتراكي، وقوة هذا في ضعف ذاك. عزيز أخنوش: الرهان الخاطئ..."اليأس مكرّر" في وقت سابق، وغير مأسوف عليه، وفّرت الدولة للسيد إلياس العماري بصفته أمينا عاما لحزب الأصالة والمعاصرة، حديث النشأة، كل الظروف والإمكانيات، ووضعت رهن إشارته ميزانيات خيالية وسلطات واسعة بهدف تسيّد المشهد الحزبي ومنع حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال من لعب دورهما الطبيعي وكذا منع العدالة والتنمية من الوصول إلى السلطة. طبعا أخد الناخبون المغاربة، الصغار والكبار، المال من حزب إلياس العماري، وصوتوا بكثافة لصالح حزب العدالة والتنمية انتقاما؛ والسبب بسيط وهو أن الأمور كلها تغيرت والناس "عاقت وصابرة او صافي". اليوم، ومن أجل الإنصات العميق للمغاربة واحترام ذكائهم، خاصة بعد انتشار وسائط التواصل الإعلامي والاجتماعي، واحترام ذكاء نخبه وأطره، وجب تصحيح كافة أخطاء الأمس ومنها: أولا: بدل ترك حركة لكل الديمقراطيين المغاربة تلعب دورها الإستراتيجي رويدا رويدا كجمعية مع ما يقتضيه ذلك من أناة وصبر تم حرق المراحل وجرفها ومسخها في هيئة حزب سياسي مرفوض من عامة الشعب، ساهم كثيرا في رفع مقاعد العدالة والتنمية. ثانيا: الغرض من تأسيس حزب "البام" هو الطي الكلي لصفحات الاتحاد والاستقلال خصوصا وكل قوى وفعاليات الحركة الوطنية.. إهانة واستخفاف وتبخيس وتمييع. وكانت النتيجة أن حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي ورغم كل محاولات القتل الرمزي والمعنوي والتجريف والتقزيم الانتخابي حافظا على وجودهما وسط خراب حزبي مهول. ثالثا: المستفيد الوحيد من ظهور وبروز حزب الأصالة والمعاصرة هو حزب العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية إلى حد ما، والخاسر الأكبر هو الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. تأسيسا على ما سبق، وجب القول بكامل الوضوح والتواضع إن القيمين على خطاطة تدبير المرحلة الأخيرة ارتكبوا أخطاء كثيرة حد الجسامة، وصعب حتى فهمها مهما كانت التبريرات؛ وبالتالي فتكرار تجربة إلياس العماري وحزبه "البام" بنسخة عزيز أخنوش وحزب التجمع الوطني للمستقلين سيكون رهانا خاسرا، بل كارثيا وفظيعا للغاية. فلا الشخص، مع كامل التقدير والاحترام، أهل للسياسية ودروبها وديدنها، ولا الحزب (الحمامة) أهل أن يطمئن ويؤطر الشارع ويضمن الاستقرار وسلاسة اشتغال المؤسسات اليوم وغدا. حزب التجمع خلق في يومه الأول لغرض لعب دور "إبرة كفتي الميزان"..هذا هو دوره الوحيد إلى يوم الناس هذا في هندسة المشهد الحزبي المغربي، أي هو "شيك ضمان" الأغلبيات العددية وليس العكس. أماّ التفكير في إعطائه دورا آخر أكبر منه وحتى القيادة في شخص السيد عزيز أخنوش، فإنه سيكون ضربا من الجنون وتكرارا بشعا لتجربة "البام".. وبدون تهويل أقول هو إشعال لفتيل الحرائق. الدور الذي يجب أن يلعبه حزب أخنوش – استعجالا- هو تجميع "أحزاب الإدارة" في حزب واحد وإنتاج خطاب وقيادات جديدة تراعي التطور التكنولوجي والوعي الاجتماعي والاستحقاقات الدولية، أي إعادة الاعتبار للدور الوسطي (إبرة الميزان) لأحزاب الإدارة. وبالتالي فمن المهام الآنية للسيد أخنوش هي: نسيان الرهان على منصب رئاسة الحكومة، ثانيا خلق حزب إداري "قوي" جغرافيا –مجاليا وفي وسائط التواصل الاجتماعي وبأفكار جديدة. أتحدث هنا عن تجميع أحزاب التجمع والدستوري والبام والحركة وما جاورها. هذا هو في رأينا دور السيد اخنوش وحزبه وغيره سيكون مغامرة غير محسوبة العواقب وربما سيمنح أخنوش لحزب العدالة والتنمية ما لم يحلم به حتى يوم كتابة هذا المقال. معنى القول أن خسارة أخنوش أعلنت منذ الآن حتى قبل بداية السباق، وكل معاكسة لتوجه الشارع واحترامه والأخذ به سيكون مأساويا. في معنى القول ومنتهاه: التاريخ هو الفيصل بما أن شرايين البلد مختنقة بشهادة وعلم الجميع، فما عاد هناك مجال لإهدار الفرص والزمن، وحتى الميزانية والتغاضي والتواطؤ البليد الغارق في الأنانية، خاصة أمام تحديات هائلة تتجاوز الجميع مهما بلغ علمه ومنصبه. فبعيدا عن لغة التشخيص العقيم، نقترح ما يلي باعتباره أفقا مشتركا للحلم والأمل والعطاء والاستقرار: أولا: تعديل حكومي واسع وجذري في غضون الأسابيع القليلة القادمة، يخفّض عدد أعضاء الحكومة وحتى الأحزاب المشاركة إلى 16 وزيرا مع تجميع الأقطاب الوزارية في أربعة أو خمسة. ثانيا: التفعيل الصارم لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة لتشمل عقوبة الحبس والسجن و"التتريك" بدل الاكتفاء بالإعفاء والإقالة. (أعضاء الحكومة- رؤساء جهات، عمداء، منتخبون بالعموم، عسكريون، أعضاء سلك القضاء، ولاة وعمال وقياد ورجال أمن من مختلف الرتب حسب السلم الاداري) + مسؤوليات مختلفة. ثالثا: لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تبقى الدولة رهينة في يد حركة التوحيد والإصلاح إلى أجل غير مسمى وبأفق ملتبس، ومقابل ذلك- وعلى مدار الساعة - يتم نسف وتسفيه وتبخيس حزبي وأطر وتاريخ: الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، ويقع كل ذلك أمام مرأى ومسمع المغاربة قاطبة في الداخل والخارج. رابعا: من غير المقبول نهائيا تكرار جسامة خطأ حزب "البام" وأمينه العام؛ وعليه فإن سيناريو "أخنوش" غير مجد كليا، وعلى جميع المستويات والرهانات المستقبلية. وهذا لا يعفي هذا الحزب ورئيسه من لعب دوره في تجميع قطب "الوسط" بكامل الشفافية ووفق القواعد والأصول الديمقراطية المتعارف عليها دوليا. خامسا: إذا كان السيد إلياس العماري قد انبهر ببعض التجارب في أمريكا الجنوبية وغيرها من مناطق العالم فكذلك ينبهر اليوم بعض شباب وأطر حزب تجمع المستقلين بقيادة "أخنوش" بتجربة حزب الرئيس الفرنسي "ماكرون".. لقد كانوا يستعدون لتسويق منتوج بائت و"بيريمي" للمغاربة. اليوم العالم كله قبل الفرنسيين مدرك للوهم الكبير المسمى "ماكرون وحزبه"..ففي وقت تسقط أوراق التوت عن "النموذج الفرنسي"، نجد من يستعد للاستعلاء والتخطيط والتعاطي مع المستقبل المغربي بنفس هذه الوصفات الفاشلة والمفضوحة. سادسا: اصلاح دستوري عاجل غايته تدارك الأخطاء والثغرات الكثيرة والعديدة، والتي تسبب فيها الاستعجال والتوافقات الهشة إبان تخطيطه. في السياق ذاته وجب التنبيه إلى ملحاحية إعادة النظر أيضا في نمط الاقتراع والتقطيع الانتخابي، وصولا إلى التفكير الجدي في إلغاء اللائحة الوطنية للشباب وتخفيض أعضاء البرلمان بغرفتيه. سابعا: حركية قوية في مناصب المسؤوليات، لغرض إعادة تنشيطها وتفعيلها بما في ذلك رئاسة مجلس النواب؛ فحزب الاستقلال بموقعه الحالي أحق من غيره برئاسة مجلس النواب. وفي الختم، سأجازف بالقول إن المغاربة قاطبة يتمنون ألا تفقد الدولة في المستقبل القريب ملكة الحلم والقدرة عليه... *صحافي ومحلل سياسي وباحث في التاريخ وكاتب