مقدمة لم يتنبأ الكثير من المراقبين الفرنسيين والأوروبيين المهتمين بالشأن السياسي والاجتماعي بأن يشتد غضب المحتجين الفرنسيين وتتوسع حركة الاحتجاج إلى حد لم تستطع الحكومة الفرنسية وضع حد للتظاهرات. فقد كسرت حركة السترات الصفراء الصورة النمطية التي ترسخت في الذاكرة الفرنسية والعالمية على وجه خاص، ومفادها أن فرنسا تعج بالرفاهية الاجتماعية. وعملت الحركة الاحتجاجية الاجتماعية-التي تحولت إلى حركة سياسية-على التنديد بالسياسات النيوليبرالية التي لا تعود بالنفع إلا على رأس المال العالمي، وهي حركة غير محسوبة على أي معسكر سياسي أو نقابي، فخدشت صورة فرنسا التي تستوطن عقول ومخيلة الكثيرين. وهكذا صدمت صورة الاحتجاجات وعي الفرنسيين والآخرين بعنف، فشكُّلت وعياً بصرياً جديداً، وكونت خطا من التفاعلية مع ثقافة الصورة بمختلف أشكالها ومعالمها وفعاليتها. حياة الصورة وموتها خلاصة هذا الوعي المستحدث عند الفرنسيين هي انتهاء الزمن الافتراضي للصورة البالية المتداولة، كما يستشف من كتاب المفكر الفرنسي ريجيس دوبري "حياة الصورة وموتها" الذي صدر في 1992 وترجمه الدكتور فريد الزاهي سنة 2002. فقد ساهمت خيبة الأمل عند الفرنسيين في نقل عدد من الرّسائل المختلفة عبر خلخلة تلك المفاهيم الزائفة، ورفع قدرتهم على قراءةِ الصّور القديمة المتناثرة، وما وراء الصّور الحديثة التي بدأت تأخذ أبعادا أخرى، فاتسعت دائرة الصورة الحديثة، بعد أن ازداد سقف المطالب التي تجاوزت البعد الاجتماعي إلى طلب إسقاط رئيس الحكومة ماكرون. احتاجت التظاهرات لقليل من الصّور المتدفقة حول الاحتجاجات عبر مختلف الوسائط كي تتواصل أربعة أسابيع، مما أدى إلى اهتزاز فرنسا. ومع توالي الأسابيع، توسعت دائرة الاحتجاج لتشمل مجموعة من المدن الفرنسية قبل أن تنتقل إلى بلجيكا وهولندا. تلك الصور ساهمت من خلال رؤيةٍ جادةٍ وثاقبةٍ بقوةٍ وفعاليةٍ في إعادة نظرة عموم المتلقي لصورة فرنسا حول الوضعية الاقتصادية والاجتماعية المروجة خطأ. والمتأمل لما يحدث في فرنسا يلحظ أن الاحتجاجات حولت عددا من شوارع فرنسا إلى ساحات حرب، وانتقلت الصورة إلى مادة إعلامية وإعلانية في الوقت ذاته، تتدفق وتحيا عبر مختلف الأوساط الإعلامية، وتحديدا مواقع التواصل الاجتماعي، حيث غدت أداة مهمة من أدوات التأثير في هذا الجانب أو ذاك، وخصوصا عند الجماهير الغاضبة وباقي الشرائح الأخرى التي لم تتشكل بعدها الصورة. وهذا التأثير يأتي بفضل التلقي الواعي للصور بأبعادها وتنوع أشكالها، وتحليلها وتأويل مضامينها. فالصور الاحتجاجية شريك حيوي وتفاعلي للجماهير الغاضبة، لأن الصورة البصرية التي تصدر من شوارع باريس برموزها الثقافية وغيرها من المدن الفرنسية، حولت عموم المتلقي من واقع التفاعل الاستهلاكي إلى واقع العنف الذهني لتطويعه والإيقاع به بصريا، بفضل التقنيات المرئية الجذابة التي تصنع التفاعلية والثقافية. ونظرا لكون الصورة في الوقت الراهن تعيش أزهى فترارتها في عصر طغيانها، فالصور المتدفقة تكشف عن اشتعال شوارع فرنسا وكأنها تعيش حربا مفتوحة. وهذا مشهد لا يمكن تزييفه أو تغييره أو تصنيعه كما جرت العادة في الأنظمة الاستبدادية، فهو يصدر رسائل إعلامية وإخبارية مهمةٌ تكشف عن حقيقة ما يجري في فرنسا وما تحمله الصور من استياء ونقد وغضب شعبي عارم، من شريحة فرنسية واسعة غير مؤطرة سياسيا ولا نقابيا ولا جمعويا. السترات الصفراء: صناعة الصورة.. صناعة المحتوى إن صناعة المحتوى الإعلامي للصورة ضروري في كل خطاب سياسي أو اجتماعي، فلا نجاح من دون وجود مضمون يخاطب المتلقي ويحاكي اهتمامه، مع انتشار الكم المتنوع من الصور في الأوساط الإعلامية الجديدة. ويقف الباحث على مضامين واضحة وعميقة وأخرى سطحية بلا معنى ولا مضمون في مغزى الصور. وتختلف استخداماتها بحسب موقع نشرها، وتبرز الصور متحركة تجعل المتلقي يقف على صور حية وأحداث تتجدد. مما يجعل الصورة صناعةً وفناً، تستخدم لصناعة رسائل إعلامية مؤثرة لدى الجمهور. وتبرز معالم تلك الصناعة في تأثير الصورة وقوتها في إيصال الرسالة الإعلامية بأسرع وقت لتتلقاها شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي عبر طرق عرضها الحديثة والتلقائية بالسرعة المطلوبة، وجعل أثرها مشوقا وجذابا. ولا شك أن هذا التسويق تزامن وفعل الاستقطاب الواسع لباقي المكونات. وخلاصة تلك الصناعة محاولة تغيير ما تحمله الصورة العامة عن فرنسا من غموض واسع في ما يحدث فيها من تردي الوضع الاقتصادي الهش للمواطنين الفرنسيين، وللصورة الراهنة التي تنجلي علاقة وطيدة مع موت تلك النمطية البالية وتغييرها بأخرى حديثة. فقد اندلعت المواجهات والاحتجاجات فكشفت انتهاء الصورة المتداولة التي أصبحت أقل حيوية، لأن الموت هو أولا وقبل كل شيء صورة. وسيظل كذلك كما قال باشلار. فلم تعد تشتغل الصورة بوصفها سلطة فعلية، سواء كانت الصور صادمة أو هادئة، ثابتة أو متحركة، صامتة أو ناطقة، وانتهى دورها في ممارسة الفعل والحث على رد الفعل. وتتمثل الصورة الوليدة التي تبثها حركة السترات الصفراء، منذ شهر أكتوبر من سنة 2018، في قوة الحشد والتأطير العفوي للاحتجاج الذي هز فرنسا بقوة غير مسبوقة؛ الشيء الذي جعل وزير الداخلية الفرنسي، كريستوف كاستنير، يصف المظاهرات المناهضة للحكومة بأنها خلقت وحشا. رغم أنها انطلقت كردود فعل رافضة لقرار زيادة الضرائب على أسعار الوقود، فقد تطورت بعد ذلك وخلفت غضبًا واسع النطاق على الحكومة. فرنسا: الخوف من الصورة.. الخوف من الاحتجاج ما تخشاه فرنسا هو أن تتطور الصورة في شقها الجديد، بسبب تطور وتيرة الاحتجاجات التي أدت إلى تجميد الحياة الثقافية والاقتصادية والرياضية خلال أيام الغضب. وما ترتب عن ذلك من خسائر مادية جسيمة، وهو ما أكده وزير الاقتصاد الفرنسي، برونو لومير، حين أشار إلى أنّ اقتصاد البلاد تضرر بشكل كبير بنسبة تتراوح بين 15 و50 في المائة. معالم الخوف تبرز بعدما هيمنت صورة الاحتجاج، وصور الغضب... التي باتت تغزو شرائح أخرى من المجتمع الفرنسي، فتحولت إلى أهم الوسائل المعرفية والإعلامية لما يجري في فرنسا. فانتقلت من الهامش إلى الحضور القوي، إلى موقع الهيمنة والسيادة، رغم الهيمنة القوية لوسائل الإعلام التقليدية الفرنسية والإعلامية. فالصورة قدمت رسائل الغضب دفعة واحدة، وكانت الصورة مساوية لآلاف الكلمات. ويمكن التأكيد أن صور تحول شوارع باريس إلى ساحات معركة، وما يمكن أن ينتج عنه من فرض حالة الطوارئ في القادم من الأسابيع بسبب تردي الوضع الأمني، جعل السلطات الفرنسية تكرر خشيتها من الصور الجديدة التي صارت تتشكل عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث استعملت لجذب فئات مختلفة من الشعب الفرنسي، وارتفعت وتيرة الخوف لدى السلطات الفرنسية وبلغت مداها بعد اتساع الحركة مع ارتفاع سقف مطالب المحتجين، الذين اشتكوا من غياب المساواة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء وتدني القدرة الشرائية وزيادة الضرائب. واتسعت قائمة المطالب باتساع رقعة الاحتجاجات، فضمت أربعين مطلبا، تخص عدة قضايا كالإسكان والضرائب والصحة والتعليم والمالية العامة. ولم تفلح الإجراءات الأمنية واسعة النطاق في وضع حد للتظاهرات، مما يظهر عدم الرضا والاستياء العام الذي تعيشه الحكومة الفرنسية، خاصة وأن سقف المطالب ارتفع، كما ورد في صحيفة "لو جورنال دو ديمانش". على الرغم من محاولات عديدة لشيطنتهم، يصر أصحاب السترات الصفراء على محو الصورة الزائفة، التي تهيمن على العقول بالاعتماد على قوة الإشارات والرموز والإيحاءات في إيصال الرسائل الإعلامية لكشف معالم الغموض، في الوقت الذي تعجز فيه حكومة الرئيس ماكرون في الحفاظ على جمالية الصورة من غضب المحتجين، وفي أثناء الحفاظ على معالم تلك الصور المهترئة فضلت الحكومة مواجهة المحتجين باستعمال العنف بقنابل الغاز، وتجييش حوالي تسعين ألف عنصر شرطة للسيطرة على الاحتجاجات، كأسلوب أولي للحوار، دون أن تفكر أن إصلاحاتها الاقتصادية تؤثر على الوضع المادي للمهمشين والفقراء وتنحاز إلى الأغنياء، مما يجعلها تؤثر سلبًا على أوضاع الطبقة الفقيرة فتثير سخطها وغضبها. خاتمة اجتاحت الصورة الاحتجاجية واتسعت، فنجح الغضب الفرنسي في فرض الأمر الواقع. ومن ثم، التشكيك في الصورة القائمة القاتمة وزعزعتها لدى الرأي العام الفرنسي والعالمي على وجه خاص. في السياق ذاته، استطاعت الصور القادمة من أطياف الاحتجاج بكل حيادها أن تمارس هيمنة وسلطة على المتلقي الفرنسي وعموم المشاهد، لما لها من عنف رمزي وعنصر أساسي في بنية الاحتجاج الذي يتواصل لأربعة أسابيع، لتشكيل تصور حقيقي عن الواقع الفرنسي. ومن نتائج ذلك أن تحول الواقع الاجتماعي في نظر الفرنسيين للصورة الجديدة التي بثت خلال أسابيع الغضب. *إعلامي باحث