"الاحتفال معرفة"، والمعرفة بحث في حقائق الوجود، والمولد النبوي حقيقة كونية، فالله تعالى خلق نبيه في الأزل واختاره بين البشر، فهو المختار المصطفى، و"السراج المنير"، والحديث عنه في ذكرى مولده نور وفرقان ودرء للفتن والدجل. فالاحتفال بذكرى المولد النبوي ذكر لسنته الفعلية والقولية، وذكر لكماله ورحمته وحرصه على المؤمنين، وإعلاء لذكره، وطلب لشفاعته وللمقام المحمود. "مشكاة الأنوار": من البديهي أن نور "السراج المنير" ليس بالمعنى المحسوس، فهو من مخلوقات الله، الذي لم يفهمه الفزيائيون أنفسهم إلى الآن، مقابل الأجسام النورية كالشمس والنجوم والمصابيح التي يضيء بها الناس ولولاها لكانت الظلمة الدائمة. جرد الإمام أبو حامد الغزالي، في "مشكاة الأنوار"، النور الحسي وقارن بينه وبين نور البصر، وانتقل إلى نور العقل، فوجد أنه أولى من نور البصر باسم النور، ولاحظ أن العقل لا يستطيع سبر بعض المدركات، إذ يحتاج إلى نور الحكمة التي هي (نور الشرع والدين)، والقرآن أولى باسم النور من العقل لأنه يعين على معرفة الحقيقة، فهو بمنزلة نور الشمس. ويخلص الغزالي إلى أن الذي يستحق اسم النور هو الذي تفيض أنواره على غيره، هو النور المقصود لذاته وغيره، وهو نور النبي محمد وأنوار الأنبياء عليهم السلام وأنوار العلماء، إذ تفيض منهم أنوار المعارف على الخلائق. وقد وصف الله تعالى نفسه بالنور: (الله نور السماوات والأرض) النور 35 ووصف نبيه بالنور (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) المائدة 15، وجعل القرآن نورا (ولكن جعلناه نورا) الشورى 52، وسمى الإيمان بالنور (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الأنعام 122 وجمعت في الآية الأنوار (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء) النور 35، والذي سيحمل هذا النور هو "السراج المنير". "السراج المنير": يعتبر الفخر الرازي السراج والمنير صفتين؛ فالسراج "صفة جلال" والمنير "صفة جمال"؛ فقد بدأ الله تعالى به الوجود وختم به الرسالة. وقد وصفت الشمس بالسراج، والقمر بالنور (وقمرا منيرا). ووظيفة الشمس والقمر هي استمرار الحياة على الأرض؛ فالله تعالى جعل ضوء الشمس ذاتيا لها، تمد غيرها بالضوء، وجعل القمر يستمد منها ضوءه فيعكسه بالليل نورا، فنوره ليس ذاتيا شأن الشمس. وقد جمع تعالى الوصفين معا لرسوله فهو شمس وقمر، نوره رحمة للعالمين، وهو "سراج منير"، أي نوره مستمد من الله مباشرة. ومن هنا تكون مصدرية النور بكل دلالاتها المعرفية والخلقية والتجليات الإلهية. فكل نور في الحياة مصدره نور الله، (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) النور 40. والنور واضح وموضح لغيره، والله تعالى هو الذي يعطي صفة الوضوح والإيضاح للأشياء؛ هو نور يحدث في باطن الإنسان نوعا من الكشف يدله على الهدف والحقيقة. بهذا المعنى نفهم النور بأنه الحقيقة الواضحة والموضحة الدالة على ذاتها. النور "انشراح للصدر": "الانشراح" نور الله كما جاء في الآية: (فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) الزمر 22، فشرح الصدر ليس مقتصرا على الأنبياء؛ فكل من اهتدى إلى الإسلام فقد شرح الله صدره، فهو ينشرح به في واقعه ويرتقي حسب تفاعله. والانشراح هو المسافة بين الإسلام والإيمان، هو وضوح الطريق بالرسالة والنبوة وأمانة التبليغ، هو الهداية والرحمة للعالمين، هو هم الآخرة لا هم الدنيا؛ فبالانشراح تذوب الهموم وتتحرر الذات من الأغلال. وشرح الصدر يعني "سعة الصدر" كما جاء في القول: "آية الرياسة سعة الصدر". ولا يقصد هنا الاتساع بل يعني كثرة التحمل والصبر؛ فالشخص الذي لا يتسع صدره لا يمكن أن يصبح مديرا ولا رئيسا ولا مسؤولا. وكلما اتسع مجال الإدارة اتسع الصدر والحلم، ف"سعة الصدر" من نعم الله تعالى على الإنسان ومن الأنوار المحمدية. و"شرح الصدر" أوسع من "سعة الصدر"، فلم تقل الآية: (ألم نوسع لك صدرك)؛ فالانشراح مسألة روحية ونفسية، وروح الإنسان أكثر حاجة إليه. وكلمة "الشرح" قد تعني الانبساط بالعلم والمعرفة، أي هي الحكمة. والبعض قال الانشراح لمكارم الأخلاق، فصفة "وإنك لعلى خلق عظيم" لم يحتج بعدها عليه الصلاة والسلام إلى ثناء. والبعض قال الانشراح لتحمل الأعباء، فالعبرة بالمعونة الإلهية لا بأنواع الهموم؛ فقد لا تقوى على تحمل الهم إذا لم يكن لديك شيء من نور الله. كما جاءت صيغة "شرح الصدر" على لسان موسى: (رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) طه 25 بما تحمله من دلالة التجربة الموسوية . أما بعد: نحتفل بذكرى المولد النبوي، بمفارقة بين الرحمة والعداء، بين خفض الجناح والاستقواء بالأعداء، فما الذي يشفع للعرب والمسلمين أن يستبيحوا دماءهم وهم يطلبون شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام؟ وكيف نحتفل بذكراه ونحن نضرب رقاب بعضنا البعض؟ أيشرف هذا سيد الخلق الذي حقن دماء الأوس والخزرج؟ ولماذا تتفادى الدول الغربية الحروب بينما الدول العربية على استعداد لتنحية بعضها البعض، وتغيير الخريطة الجغرافية والتحالف مع الشيطان؟.