تحوّلت مؤسسات الرعاية الاجتماعية إلى مراكز ل"صناعة" المجرمين وتخريج أفواج المتشردين، بفعل التسيّب وغياب الأمن الداخلي؛ وهو ما يحول دون تأطير وتأهيل النزلاء بالشكل المطلوب، حتى يتمكنوا من الاندماج داخل المجتمع بطريقة سلسة، بل إن بعض دور الرعاية صارت أشبه بالسجون، لا سيما أن النزلاء يُلقبّون بنعوت قدحية تؤذي مشاعرهم الإنسانية، ما يتسبب في عزلتهم الاجتماعية. ويُعامِل المجتمع هذه الشريحة بنوع من الإقصاء والاحتقار، لأنها لم تتلق تربيتها داخل الأسرة، وبالتالي أصبحت تتعرض للتهميش والحيف في سوق الشغل والمؤسسات التعليمية وغيرها من المجالات، إلى درجة أن هذه النظرة الدونية كانت موجودة حتى داخل مؤسسات الدولة في وقت سابق، بحيث كانت تسمى هذه المؤسسات ب"دار الخيرية"؛ وهو ما جعل مصطلح "ولد الخيرية" يحمل حمولة قدحية وتحقيرية. وقد فطنت الوزارة الوصية إلى هذه المسألة لاحقا، بعدما عمدت إلى تعويض التسمية السابقة ب "نزلاء مؤسسات الرعاية الاجتماعية" سنة 2016. انعدام مقاربة شمولية توحّد الرؤى المختلفة تُعرّف مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وفق القانون 14.05 المنظم لشروط تدبيرها سنة 2006، بكونها جميع المؤسسات التي يتمثل غرضها في التكفل بجميع الأشخاص، الذين يوجدون في وضعية صعبة أو غير مستقرة أو وضعية احتياج. ويُقصد بطبيعة التكفل المشار إليه الاستقبال والإيواء والإطعام والعلاجات شبه الطبية والتتبع الاجتماعي والتربوي. ويضيف القانون 14.05 أن المؤسسات التي تحمل تسمية الرعاية الاجتماعية تتمثل في: دار كفالة الأطفال المهملين، دار الأطفال، دار الطالب، دار الطالبة، دار الأشخاص المسنين، مؤسسة رعاية الأشخاص المعاقين وإعادة تربيتهم أو تأهيلهم، المركز الاجتماعي الخاص بمحاربة التشرد والتسول، مؤسسة إعادة إدماج الأشخاص الذين يوجدون في وضعية صعبة. ويلزم القانون نفسه هذه المراكز باحترام الأحكام التشريعية أو التنظيمية المطبقة على وضعية المستفيدين من خدماتها، لا سيما تلك المتعلقة بالأطفال القاصرين، تحت طائلة العقوبات الواردة فيها. وعرف موضوع نزلاء دور الرعاية تقصيرا كبيرا من قبل الحكومات المتعاقبة، بسبب تعدد المتدخلين وغياب المتابعة الدورية من قبل السلطات المحلية، ما مرده إلى انعدام رؤية شمولية توحّد المقاربات والتصورات المختلفة، بحيث تبقى البرامج التي تعلن عنها القطاعات الوزارية مجرد حبر على ورق، باعتبار أن الإدماج الاقتصادي يبقى غير كافيا، في ظل عدم وجود مواكبة نفسية واجتماعية مستمرة من قبل الموظفين الذين يشتغلون داخل المراكز. وفي هذا الصدد، يقول ياسين بنشقرون، رئيس الجمعية المغربية لليتيم، إن "مؤسسات الرعاية الاجتماعية الخاصة بالأيتام والأطفال المتخلى عنهم تعيش فوضى داخلية وتدهورا كبيرا، إذ سبق أن طالبنا بتدخل الجهات المسؤولة للحد من نزيفها؛ لكن لا آذان صاغية.. والدليل على ذلك هو أن مئات الأطفال والشباب قد وقعوا ضحية الانحراف والإجرام. لقد دخل السجن أكثر من عشر حالات من النزلاء خلال الثلاثة أشهر الأخيرة بجرائم مختلفة، بينما يجب عدم محاسبتهم على الأخطاء التي يرتكبونها، لأنها نتاج لسوء تسيير وتدبير هذه المراكز، التي يغيب فيها الأمن والنظام الداخلي". عدوانية النزلاء ترجع إلى حيف المشغّل واحتقار المجتمع يبلغ عدد مؤسسات الرعاية الاجتماعية، حسب آخر مسح قامت به وزارة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية، 1347 مؤسسة موجودة بمختلف جهات المملكة، خلال سنة 2013، تتكفل حسب طبيعة التدخل، إما بالأشخاص في وضعية إعاقة، أو بالأيتام، أو بالأطفال المهملين، أو بالمسنين، أو بالنساء في وضعية صعبة، كما يصل عدد المستفيدين إلى 160 ألفا سنويا. وتنقسم منظومة مؤسسات الرعاية الاجتماعية بالمغرب إلى جيلين من المؤسسات؛ جيل أول بدأ منذ العقد الأول من القرن الماضي إلى حدود سنة 2005، وقد بلغ عدد مؤسساته 761، أي ما يشكل 56 في المائة من مجموع هذه المؤسسات، ثم جيل ثان انطلق سنة 2005، ويبلغ عدد مؤسساته 586، أي ما يمثل 44 في المائة، تتشكل أساسا من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ومؤسسة محمد الخامس للتضامن. وعلى الرغم من العدد الكبير للمؤسسات، فإن التأطير منعدم بها، وفق بنشقرون، الذي أضاف أن "نسب الفشل والهدر المدرسي مرتفعة، فضلا عن غياب التكوينات المناسبة لهم. وحينما يصل النزيل إلى سن الرشد القانوني من أجل الخروج من أسوار المؤسسة، يجد نفسه لا يتوفر على أي مؤهل، ومن ثمة يصطدم بإكراهات المجتمع؛ وهو ما يدفعه إلى العودة إلى دار الرعاية الاجتماعية من جديد، ويستمر في العيش داخلها على الرغم من بلوغه إلى سن متقدم، لذلك يصعب على المؤسسة طرده، لأن النزيل يفرض نفسه بالقوة في ظل عدم تدخل السلطات". وأوضح رئيس الجمعية المغربية لليتيم: "يوجد شباب مؤهل ومؤطر، حاصل على شهادات عليا من إجازة وماستر؛ لكنهم يلقون الحيف والتمييز داخل سوق الشغل، ففي الغالب يتم رفضهم من قبل المقاولات والشركات لأنهم يتحدرون من مؤسسات الرعاية الاجتماعية. أصل المشكل هو صعوبة الاندماج في المجتمع، بسبب النظرة الدونية للنزلاء الذين يلقبون بأولاد الحرام". وأردف: "هؤلاء النزلاء حساسون جدا، بحيث يترجمون ضعفهم الداخلي إلى شخصية عنيفة تعكس العدوانية التي يتعرضون لها، في وقت كانوا فيه مصدر افتخار واعتزاز من قبل المجتمع الذي ساد فيها التكافل الاجتماعي. ولعل ما يزيد حقدهم تجاه المجتمع هو رفضهم من قبل مؤسسات التعليم العالي، فعلى الرغم من الظروف المأساوية التي يعيشون فيها، يتمكن بعضهم من الحصول على شهادة البكالوريا بميزة مقبول، لكن المعدلات لا تسعفهم في الولوج إليها". العزلة سبيل في مواجهة "مجتمع لا يرحم" أرجع التقرير الوطني، الذي أعدته وزارة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية باعتبارها وصية على القطاع، بخصوص واقع مراكز الرعاية الاجتماعية سنة 2013، سبب الوضعية "الكارثية" التي وصلت إليها إلى تعطيل آليات الحكامة والتدبير، من خلال غياب اللجان المشرفة على تدبير شؤونها، ثم البطء في صرف الدعم المخصص للمراكز من طرف القطاعات العمومية. ومن بين الأسباب الأخرى، نجد عدم احترام دفاتر التحملات الخاصة وتدني أجور مستخدمي بعض المراكز الاجتماعي، ثم القصور في قدرات الموارد البشرية المشرفة على التدبير أو التأطير، وانعدام التدبير المالي والمحاسباتي، وكذلك إخضاع الدعم المالي المقدم من طرف بعض المجالس المنتخبة للمصالح الحزبية أو السياسية. وبخصوص جذور نظرة الاحتقار تجاه النزيل، قال علي شعباني، عالم اجتماع، إنها نتيجة "ترسبات العادات القديمة التي ترسّخت لدى المجتمع المغربي، بحيث جرت العادة أن الطفل من المفروض أن ينشأ داخل أسرته، باعتبارها المؤسسة الوحيدة التي تسهر على تربية وتوجيه وتنشئة الأطفال، وبالتالي فإن الطفل الذي يعيش خارج الأسرة يكون معرّضا للانحراف والشذوذ، ما جعل المجتمع يُلفق لهم هذه التهمة". وأكد شعباني، في حديث مع هسبريس، أن "المجتمع كان يؤمن أن الإنسان الذي يعيش خارج أسرته لا يخضع للتربية السليمة؛ لأن الحضانة والرعاية لا يمكن أن توجد إلا داخل الأسرة بالمفهوم الواسع، بوصف مؤسسات الرعاية الاجتماعية حديثة العهد بالمغرب، وبذلك يُنظر إلى الطفل الذي تربّى في الشارع بنظرة تحقير وتنقيص، كما أن الطفل الذي يودع في الملاجئ الخيرية يعتبر مثل اللقيط". وزاد: "العادات القديمة لا تعترف بالأطفال الذين ينشؤون خارج التربية الأسرية، ما يجعلهم يتعرضون للتهميش والتحقير والإهانة، فتتكون لديهم عقد نفسية تؤثر على نظرتهم للآخرين، ما يجعلهم يكنّون الحقد والكراهية للمجتمع، لأنهم غير مقبولين بداخل المنظومة الاجتماعية السليمة بين قوسين، إلى درجة أن ولد الخيرية صارت سبّة بين الناس". مؤسسات الرعاية الاجتماعية بين الماضي والحاضر دق المجلس الأعلى للحسابات، في تقريره بخصوص مؤسسات الرعاية الاجتماعية التي تعنى بالأشخاص في وضعية صعبة خلال ماي 2018، ناقوس الخطر حول الوضع الذي آلت إليه هذه المراكز؛ فقد أورد المجلس سالف الذكر أن تداخل الاختصاصات والافتقار إلى التنسيق بين الفاعلين المؤسساتيين من شأنهما أن يشكلا عائقا أمام إعداد سياسات واضحة، ومحدودية الموارد المالية. وأبرز التقرير ذاته أن أغلب المستخدمين بالمراكز لا يتوفرون على تكوينات أكاديمية، فضلا عن تجاوز الطاقة الاستيعابية لها وغياب لجنة التدبير وعدم تفعيل لجنة المراقبة. وحول تسمية "ولد الخيرية" التي صارت سبّة بين المجتمع، قال محسن بنزاكور، عالم نفس اجتماعي، إن "التسمية لم تأت من فراغ؛ لأن مؤسسات المغرب قبل أن تَعي بالجانب النفسي كانت تسميهم بالخيْريات؛ وهو ما تسبب في النظرة الدونية لهؤلاء الأطفال.. وبالتالي، فالتبعات النفسية لهذا المصطلح في المخيلة الشعبية تتحمل مسؤوليتها الحكومة على مستويات متعددة. أصبحت تسمى بدار الأطفال منذ نحو ثلاث سنوات، بعد تدخل هيئة الأممالمتحدة في مشروع حقوق الطفل". وأضاف بنزاكور أن "نظرة المشرّع فيما سبق كانت تناقض الثقافة المغربية، المتمثلة في التكفل باليتيم، لا سيما أنه عُرف جاء في سياق ديني محدد؛ فهذه الظاهرة لم تكن موجودة بالمجتمع إثر التكفل بمفهوم الرعاية الذي كان سائدا آنذاك، والذي كان له طابع الاحتواء والاحتضان، لكن حينما تغيرت العلاقة إلى بعد قانوني مدني لم تفطن الحكومات على تواليها إلى هذه المسألة، بل حتى تراجعها عن التسمية لم يكن وعيا ذاتيا، وإنما نتيجة تدخل الأممالمتحدة، ما أفرز تبعات نفسية لهذه الفئة". وأشار أستاذ التعليم العالي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إلى أن النزلاء "يُنعتون بأولاد الخيرية داخل المؤسسات التعليمية ويتم إقصاؤهم من الأندية الرياضية؛ ما أدى إلى عزلتهم الاجتماعية بسبب هذه التسمية، لأن الإنسان بطبيعته لا يمكن أن يستغني عن الآخر، خصوصا ما يسمى بالقَبول، أي الاعتراف من قبل الآخر، لكن هذه القيمة تُحذف بالنسبة لهذا الشخص". وختم تصريحه بالقول: "ينزوي مع حالات مشابهة حينما يدخل إلى بيته، إذ عوض أن تتآزر فيما بينها من أجل الخروج من هذا المأزق، تعيش مأساة للمرة الثانية، وهي الإحساس بالدونية بالمشتركة التي تترجم إلى سلوكات لا أخلاقية، من خلال الانتقام إما من الذات عبر تعاطي المخدرات والانحراف، أو تجاه المجتمع بواسطة تبني العنف".