أتيحت لي فرصة مشاهدة الفيلم الوثائقي "جهة الشرق، وجهة الاختيار الأول"، Région de l'Oriental, une destination du 1er choix La، من إنجاز السينمائي المبدع سي خالد سلي من مديمة وجدة(1)، وهو فيلم يسبر غور الزخم الثقافي الذي تزخر به جهة الشرق، أي ذلك التراث المادي واللامادي الذي يشكل إرثا ثقافيا حقيقيا للجهة، وفق التقسيم الإداري الحالي الذي يجعل من جهة الشرق مساحة جغرافية يمتد مجالها لجرسيف وتاوريرت وجرادة والناظور والدريوش وبركان ووجدة، وبالتالي، الجهة الأكثر تميزا بفضل موقعها وتاريخها الحضاري، الذي لا يمكن فصله عن تاريخ المغرب الأقصى، على مستوى البناء الحضاري والموقع الحدودي والنضال ضد الاحتلال الأجنبي، وكذا الأطر التي جاد بها شرق المغرب في مختلف المجالات. يستعرض الفيلم، في قالب فني رفيع، الوجه الجميل لجهة الشرق، وإن كانت جهة وجدة تعاني نقصا على مستويات عدة، وقد تراجعت عجلة التنمية بها، بسبب طبيعة اقتصاد المجال الحدودي، وهذا شأن جميع المدن الحدودية في مختلف أنحاء العالم، والتي تبحث عن بديل اقتصادي للتنمية، علاوة على الإهمال الذي طالها منذ عقود على يد الاستعمار والمسولين الإداريين والمنتخبين على حد سواء، من خلال انتهاج سياسة التهميش وفق خلفية المغرب غير النافع، رغم ما تزخر به جهة الشرق من مميزات ومن موارد بشرية وطبيعية، إذا لا يجب تناسي ما تضخه هذه الجهة من صبيب مالية من خلال الودائع البنكية، هذه الودائع لا تستفيد منها جهة شرق، بل يتم توجيهها لإقامة مشاريع في جهات أخرى، منها الدارالبيضاء، الشيء الذي يكرس التهميش، فتتسع خانة الفقر والبطالة ... من هنا، أعتقد أن إنجاز هذا الشريط تم بناؤه على خلفية تنموية تجعل من السياحة والثقافة دعامتين للتنمية، والفيلم يستعرض الوجه المشرق لجهة الشرق، ويمكن اعتباره رسالة مشفرة لكل مسؤول لينتبه لخيرات الجهة وبعدها التنموي. إن الأمر يتعلق بعمل فني راقي يشكل قطيعة مع فمر الرفض من اجل الرفض، بل هناك ووضع يجب التعامل معه بعقلية تصحيحية اقتراحية، تحاول تقديم مشروع عمل بكل تفاصيله للنهوض بالجهة، لن البعد الثقافي ظل بعيدا عن تصور المسؤولين، إداريين أو منتخبين، وعن الميزانيات المبرمجة، إذ بالنظر للحصية الثقافية السنوية سوف يتضح أن جل ما يتم إنجازه هو من فعل جمعيات المجتمع المدني بمجهود ذاتي، وهي قليلة، إذا صنفناها في خانة الجمعيات الجادة، ذات البرامج الهادفة. أعتقد أن مخرج الفيلم أبدع، لأنه تفاعل مع واقع جهة الشرق، ولأنه ينتمي لهذا الفضاء وتربطه به حميمية المكان، وبالتالي، فالتعامل مع المادة السينمائية لم يكن محض صدفة، بقدر ما كان نتيجة تفاعل مع جماليات المكان الذي يرتبط به المخرج، وكذا ثلة من أبناء هذه الجهة، التي تعاني النسيان رغم مجالها الرائع البهي، وإرثها الحضاري، باعتبارها مدينة الألفية .. ثم نعتقد أن المخرج تعامل مع المادة الإعلامية التي جمعها بخلفية من يبحث عن بدائل اقتصادية تنموية، فوظف الصورة بكل ما تزخر به من جمالية، بعيدا عن النمطية، فهو يتجاوز تزكيه الخطاب، خطاب الصورة، للسمع والبصر، إلى المشاعر، إذ يربط بين جماليتي الزمان والمكان من خلال بسط تأثيرهما في الإنسان الذي ينتمي لهذه الجهة، ليمتد إلى ما وراء حدود المجال الجغرافي. وقد سخر لذلك الطبيعة والحيوانات والمناظر والمشاهد والماء والمآثر العمرانية، وهو بذلك يعيدنا لطرح سؤال إشكالي، حول الكيفية التي تناولت بها السينما الواقع؟؟ من خلال الوصف، وبالتالي تجسيده حيا قريبا من المتلقي، فحقق المخرج ذلك التوافق الوثيق بين الصورة السينمائية والواقع، حسب رأي الناقد الفرنسي أندريه بازان، معتمدا تقنية "الزمن المقلوب" أي الرجوع إلى الوراء وربط الماضي بالحاضر، وربط التراث بالجمال المعاصر، فتبدو المشاهد كثيفة من غير أدنى شعور بالملل، حيث تزدهي الألوان فتحقق تلك المتعة واللذة لدى المتفرج .. إنها القيمة الجمالية للفيلم .. تلك هي البصمة الفنية للمخرج .. لقد قام بإعادة بناء المكان وفق تصور راهن يستمد قوته من المادة السينمائية وأدواتها، فتمكن من تفجير تفاصيل المكان بكل ما يزخر به من منابع الجمال. يمكن اعتبار فيلم الفيلم الوثائقي .. La Région de l'Oriental، الأول من نوعه، كشريط وثائقي، بهذه القيمة الجمالية الكبيرة، باعتبار أن السينما هي فن الصورة المتحركة بامتياز .. ليس العمل السينمائي بهين، فالأمر يتعلق بآلاف اللقطات التي تتطلب عمل وجهدا لزمن غير قصير للمونتاج والتوضيب، قبل إخراج الفيلم للوجود في شكله النهائي، فالمر يتطلب صنعة ودراية وخبرة علمية وفنية، وجهدا فكريا، وهذا ما توفق فيه مخرج الفيلم، فتنطلق الصورة من اللقطات البانورامية إلى لقطات عامة وأخرى مقربة وفق علاقتها بالحقل"champ"، أو "contre champ"، ثم يتم الربط بين اللقطات في علاقتها بمشاهد الفيلم ككل، حيث تخضع لتطور زمني، وكأننا أمام عمل سردي، حيث يتحقق الثراء البصري للصورة. تشكل الصورة في فيلم La Région de l'Oriental، جاذبية قوية مغرية لدى المتلقي، بحسب تعبير الناقد عقيل مهدي يوسف، في كتابه "جاذبية الصورة السينمائية"، حيث تصبح الصورة مصدا للمعلومة، ويصبح الفيلم الوثائقي مرجعا للبحث والاستكشاف، باعتبار كونه يتعامل مع الواقع لينقله، عكس الأفلام التي تهتم بالدراما والخيال، إذ يكون همه هو جمع أكبر عدد من المعطيات التي تشكل زادا معرفيا، خاصة إذا توفق المخرج في اختيار موضوع الفيلم، وهذا ما أضفى أهمية بالغة في فيلم La Région de l'Oriental، حيث الموضوع يقف عند كشف الغطاء عن منطقة تعاني التهميش والإقصاء، وبالتالي جاءت بلاغة الصورة المتحركة، والصوت الصادق والانسياب الكبير على مستوى جرد المشاهد، لجعل جهة الشرق محط اهتمام، ولفت الأنظار إليها، والسفر في تفاصيل محالها الترابي، وتقريبها من كل بعيد، وطرق أبواب القاصي والداني، مسؤولا كان أو مواطنا عاديا ينتمي لرحم الجهة وللمغرب الجميل .. فكانت فتنة الصورة ومتعة السفر في رحاب شرق المغرب .. 1) خلد سلي، مخرج ومدير المهرجان المغاربي للفيلم وجدة