تمتح روايات الروائي المغربي أحمد الكبيري من الواقع المغربي المعاش، خاصة واقعَ الفئات الاجتماعية الساكنة في "قاع" المجتمع، فهو يرى أن دَوْر الأديب والكاتب هو أن يكون "بوقا" يعبّر من خلاله العامّة عن آلامهم ومعاناتهم. يتحدث أحمد الكبيري في هذا الحوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية عن الوضع الثقافي في المغرب، وعن وضعية المثقف المغربي اليوم. وضعية يلخصها في عبارة واحدة: "المثقف المغربي معزول، ويُستعمل كمزهرية لتزيين صالون البيت". اخترْتَ لأعمالك الأدبية الأولى عناوينَ غارقةً في السوداوية، لماذا؟ مصابيحُ مُطفأة ومقابرُ مُشتعلة وأرصفة دائفة، هي ثلاثية رُمْت من خلال نصوصها الاشتغال على تيمات الواقع المعيش في مدينة وزان، سواء على المستوى الإنساني أو المجالي، وما تعرَّضتْ إليه تلك المدينة من تهميش على مدى سنوات طويلة، والتهميش الذي لاقاه مجموعة من شبابها، خاصة العاطلين منهم، وأصدقاء الطفولة الذين انتهت مصائرهم أحيانا بشكل درامي، سواء بالموت أو السجن أو الهجرة أو بالانتحار أو بالإعدام أو بالنفي. هذه الأمور شغَلتني كثيرا فاشتغلتُ عليها في نصوصي. أنا لستُ من الناس الذين يقرؤون ليكتبوا، إنما من الذين يعيشون ليكتبوا، سواء في علاقةٍ بتجاربهم الخاصة أو بتجارب الآخر، الذي يؤثر بشكل قوي على ما أفكر فيه أو ما أودّ الكتابة حوله. بالنسبة إليَّ الكتابة حول واقع مُعيَّن هي تأريخ لفترة معينة في زمن معين عشت مراحله أو سمعت عنها كي أعطي للناس الذين ظُلموا في حياتهم ميكروفونا ليعبروا بأنفسهم عن معاناتهم. برأيي هذا هو دور الكاتب. مدينةُ وزان هي مدينة كبيرة من حيث تاريخها وامتداداتها الثقافية وعطاءات أبنائها وبناتها؛ هذا شيء معروف يمكن أن تتحدث عنه وسائل الإعلام. أما دوري أنا ككاتب، فهو الحديث في نصوصي الأدبية عن الأشياء التي تظل في الخفاء بعيدة عن أعين الناس. هل ما زلْت تكتُب بالنفَس ذاته الذي بدأتَ به مشوارك في درْب الكتابة الأدبية؟ بصراحة أنا لست من الكتَّاب الذين يراهنون على الإنتاج فقط، على تراكم كمّي، إنما أنا من الكتّاب الذين يستمعون إلى أصواتهم الداخلية، وإلى تلك الشخوص التي تصر إصرارا مزعجا على أن نكتب عنها، ولذلك كما تلاحظ، هناك مسافة زمنية بن عمل أدبي وآخر. أراكم نصوصا كثيرة على مستوى الكتابات الشعرية، والكتابات في مجال النقد، وبإمكاني أن أصدر في كل سنة كتابا أو مجموعة قصصية كما يفعل البعض، لكني لا أنشر إلا ما أحسُّ بأنه يمثلني أو يريد أن يقول شيئا أو يضيفَ شيئا إلى الكتابة الروائية بصفة عامة. لا أدعي شيئا، ولكنّي أنصت وأصغي إلى هذه الأصوات التي تحدثتُ عنها، وكما يقول حنّا مينا "إنني أذهب في الطرقات وشخوصي تلاحقني أن أكتب عنها". قبل أسابيع أعلنت وزارة الثقافة عن بداية "السنة الثقافية الجديدة". ككاتب هل تشعر بأن هناك "دخولا ثقافيا" في المغرب؟ (ساخرا) "واش مْن نيتك أسي محمد تطرح هذا السؤال؟". أعتقد أنه لا يمكننا أن نتحدث عن الدخول الثقافي في المغرب. يمكن أن نتحدث عن معرض الكتاب والنشر الدولي بالدار البيضاء، تلك هي المناسبة الوحيدة التي يمكن أن نقول إنها تشكل حدثا في المشهد الثقافي ببلدنا، في مجال النشر والكتاب، عدا ذلك لا يمكن أن نتحدث عن أي شيء آخر، لأن الدخول الثقافي كما هو متعارف عليه في دول أخرى يتطلب شروطا كثيرة. ما هي هذه الشروط؟ لنأخذ، على سبيل المثال، الميزانية المخصصة لقطاع الثقافة في المغرب، ونقارنها بنظيرتها في البلدان المتقدمة، سنجد بَوْنا شاسعا جدا. في فرنسا، مثلا، ميزانية وزارة الثقافة تصل إلى عشرة ملايير يورو، بينما في المغرب لا تتجاوز ميزانية وزارة الثقافة مليار درهم. أيضا على مستوى الإصدارات، كيف يمكن أن نتحدث عن الدخول الثقافي ونحن لا نعرف من هم الكتاب الذين تمّ الاحتفاء بهم في هذا الدخول الثقافي، وما هي العناوين الجديدة التي صدرت، وما هي الأنشطة التي أقيمت بهذه المناسبة.. هل أفهم من كلامك أنّ مشكل الثقافة في المغرب مادّي بالأساس؟ لا يمكن أن أحصر الإشكالية الثقافية في الجانب المادي فقط، ولكنّ هذا الجانب أساسي؛ بمعنى أنك إذا أردت أن تنجز شيئا مهما وذا قيمة ويكون له إشعاع، فلا بد من إمكانيات مادية. مهرجان "موازين" للموسيقى، مثلا، تُرصد له ميزانيات ضخمة؛ لماذا لا تُرصد اعتمادات مالية مماثلة للقطاع الثقافي ليكون له هذا الإشعاع الكبير، وفق منطق رَابِح رابح؟ الشركات التي تعطي لموازين أموالا تستفيد من دعاية، وهذا يمكن أن يتحقق لها أيضا إذا دعَمت الثقافة. ينبغي أن تكون الثقافة أولوية، لأنها لَبنة مهمة في التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية والمجالية، وهي كذلك وجْهُنا المشرق الذي يمكن أن نواجه به العالم. هنا أستحضر كتاب الأستاذ حسن أوريد "من أجل ثورة ثقافية بالمغرب"، حيث طرح سؤالا مهما عندما نجيب عنه سنكون قد خطونا خطوات مهمة إلى الأمام، والسؤال هو ماذا نريد فعلا من الثقافة المغربية؟ هناك من يقول إنّ تهميش الثقافة في المغرب متعمّد، هل تتفق مع هذا الرأي؟ لا يمكن أن نحاكم النوايا. عموما إذا أردْنا أن نعرّف الثقافة فليس هناك تعريف موحد لها، ولكنها الكل الذي يعتمل داخل المجتمع ويميزه عن باقي الثقافات الأخرى من عادات وتقاليدَ وفنون وكتابة ودين... بهذا المفهوم، فإن الثقافة التي نتحدث عنها في هذا الحوار هي جزء من الثقافة بمفهومها الشامل، وهو ثقافة القراءة والكتابة والمسرح والتشكيل وغيره من صنوف الإبداع. هذا النوع من الإبداع، وخاصة القراءة والكتابة والمسرح والسينما، له القدرة على التأثير في الآخر إذا ما أعطيناه الاهتمام اللازم، ولكنْ ينبغي أن نتساءل من سيقوم بهذه الأشياء؟ غالبية الثورات الثقافية تقوم بها مجموعات أو أفراد، بخلاف الثورات السياسية التي تقوم بها الشعوب، وتكون في الغالبية العظمى قائمة على العنف والمواجهة بهدف الاستيلاء على السلطة، بينما الثورة الثقافية تتم على مستوى الذهنية الجمعية للمجتمع، حيث يعمل المثقف على نشر فكْر يخلخل عقول الناس لتتخلّص من الأشياء الزائدة التي لم تعُد مواكبة للعصر، وهنا نسير بالمجتمع إلى تغيير ننشده. في الحالة المغربية، هذا التغيير يصطدم ربما برغبة بعض الجهات المستفيدة من الوضع الحالي الساكن أو الراكد Stagnant، وتسعى إلى أن يظلّ هذا الوضع على ما هو عليه، والثقافة لا تقبل بهذا الثبات والركود، بل يلزم أن تُخلخل شيئا، وتجعل الإنسان واعيا بحقوقه، وواجباته، متحضرا في سلوكاته، وهنا لا بد أن تقع اصطدامات مع هذه الفئة الراغبة في استدامة ركود العقول. ليست لدي معطيات لكنَّ وجود صراع من هذا النوع مُحتمل. خلخلة الوعي الجمعي تتطلب نخبة ثقافية قوية، هل المثقف المغربي اليوم قادر على رفع هذا التحدي؟ لكيْ تَقدر النخبة الثقافية على إحداث هذه الخلخلة في الوعي الجمعي، فلا بد أن يكون لها تأثير، ولكن عندما نتأمَّل الوضع نجدُ أنّ المثقف المغربي معزول عن ما هو سياسي واجتماعي، غير مؤثر؛ هنا من الصعب عليه أن يؤدّي دوره، ف"لا رأي لم لا يُطاع" كما قال علي ابن أبي طالب. في المغرب تُصدرُ كتابا وتُنشر منه ألف نسخة أو ألفيْن، يقرأها عشرة آلاف شخص، إذن أنت غير مؤثر، ربما قد تؤثر على المدى الطويل، لكنّ تأثيرك في الوقت الراهن محدود، ثمّ لا ننسى أنّ هناك ثقافة مضادة؛ ففي الوقت الذي تجتهد فيه أنت لتوعية الناس، هناك من يعمل في الاتجاه المعاكس. قلتَ إنّ المثقف المغربي معزول، هل تمّ عزلُه أم هو الذي عزل نفسه بنفسه؟ في الماضي كانت هناك معسكرات، وكان هناك صراع كبير بين معسكريْ الاتحاد السوفييتي سابقا من جهة، والغرب من جهة أخرى، وكانت هنالك ضرورة لحضور المثقف، لأنه كان إطارا مهما داخل منظومة سياسية يلعب فيها دور المعارض وكان مدعوما ومسنودا. مع انهيار المعسكر الشرقي وحائط برلين، وتواري الإيديولوجيات وسقوط مجموعة من الأحزاب التي كانت تحتضن المثقف وتدعمه وتستعمله في تعبئة جماهيرها، انحسر دور المثقف. الأحزاب السياسية صارت تشتغل بمنطقها الخاص، والمثقف لم يعد يجد نفسه في هذا الحزب أو ذاك، فصارت العُزلة أمرا واقعا، لا يملك معها المثقف سوى أن يُبدع أو يقاوم إذا استطاع إلى ذلك سبيلا. دعْنا نعود إلى مسألة النشر والكتاب، هل الميزانية المخصصة لدعم النشر والكتاب لها أثر على الكاتب المغربي؟ فكرة الدعم جيدة، لأن الناشر في نهاية المطاف هو تاجر ولا بد أن يكون له منطق الربح، لكن ما ينقص هذه العملية هو آليات المتابعة، فعندما نتحدث عن دعم الناشرين فلا بد أن تُراعى مجموعة من الشروط المهمة؛ أوَّلا طبْعة الكتاب يجب أن تكون جيدة، لأنه مدعوم، ثانيا أن يكون ثمنه مقبولا وفي المستوى الذي يُسهم في إنعاش فعل القراءة، لا أقصد أن تُباع الكتب بثمن رمزي، ولكن بثمن معقول. لا يُعقل أن تجد ديوانا شعريّا مدعوما لا يتعدّى عدد صفحاته مئة وعشرين صفحة يُباع في المكتبات بأربعين درهما، هنا نتحدث عن استغلال للدعم الممنوح من طرف وزارة الثقافة لأهداف تجارية صِرْفة، وغيرُ خفي للأسف أن بعض دُور النشر تتعيَّش من الدعم الذي تقدمه وزارة الثقافة. سيادة المنطق التجاري في عملية الاستفادة من دعم الكتاب والنشر يجعل الكاتب أضعف حلقة في هذه العملية، إذْ تضيع حقوقه ومجهوداته سُدى، فلا هو استفاد من نشر الكتاب وتوزيعه بشكل كبير من طرف الناشر ليُقرأ، ولا هو استفاد ماديا، بحيث إنَّ أقصى ما يمكن أن يحصل عليه الكاتب هو بضع نُسَخ قد تتعدّى في أحسن الأحوال مئة نُسخة من العمل الذي أنجزه، يوزّعها في الغالب مجانا على أصدقائه ومعارفه. تحدثتَ عن غلاء أسعار الكتب في المغرب، هل أفهم من كلامك أنّ غلاء سعر الكتاب يساهم في ضعف المقروئية؟ يمكن أن نميز بين مستويين في المجتمع المغربي. هناك طبقة ميسورة لها من الإمكانيات والثقافة ما يجعلها على اتصال دائم بالكتاب، ولها طموحات وتعرف قيمة القراءة، وغالبا ما تقرأ بلغات أجنبية، نظرا لتكوين أبنائها أو تكوينها هي في بعثات أجنبية أو في مدارس خاصة، بينما نجد أن غالبية الشعب المغربي الذين يدرسون في القطاع العمومي منهم فئة قليلة ربما هي التي تقرأ وربما تعوزها الإمكانات؛ هنا يمكن أن يكون العامل المادي مشكلا. عموما يمكن القول إنه ليست هناك ثقافة القراءة في المجتمع المغربي، لأن مسألة الإمكانيات المادية مسألة ثانوية. إذا ما ربَّينا أبناءنا منذ الصغر على القراءة، فإنهم سيقرؤون. هنا أعود إلى سؤال "أي مواطن نريد" الذي طرحه الأستاذ حسن أوريد. حينما نفكر في هذا السؤال وفي الإجابة عنه، فلا بد أن نقتنع بأنّ الإجابة عن سؤال "أي مواطن نريد" تقتضي توفير شيئين لا بد منهما، الأوّل أن تكون هنالك أسرة تعيش حياة كريمة تسمح لها بتربية أبنائها في ظروف ملائمة جدا، من حيث الصحة والسكن والتعليم وغيرها من الأمور الأساسية. أما الشيء الثاني، فهو التعليم الجيد. إذن، لا بد أن تكون هناك استراتيجية من طرف الدولة لأن نربي جيلا بمواصفات معينة نصبو إليه نحن المغاربة، كما فعلت دول أخرى أقامت ثورات ثقافية كالصين وفرنسا واليابان وغيرها. هناك دول أخذت المبادرة أحيانا بديكتاتورية في التنزيل، من أجل بلوغ أهداف محددة. في المقابل هناك تقلص للإنتاج الثقافي، ما سبب ذلك في رأيك؟ ماذا تقصد بالإنتاج الثقافي؟ إذا كنتَ تقصد إنتاج الكتاب، أقول لك إنّ ما أنتج على المستوى الكمي في العشرين سنة الأخيرة لم يُنتِجه الأدباء المغاربة منذ الأربعينيات من القرن الماضي إلى نهايته، وحضورُ المغاربة حاليا على المستوى الثقافي على مستوى العالم العربي والعالم مشرف جدا. لكن للأسف ربما لا نولي لهذه الكفاءات الثقافية الاهتمام والدعم اللازمين لكي تنتشر وتكُون حاضرة دائما في الساحة. للأسف نضع المثقف كمزهرية ورد في الصالون من أجل إرضاء عيون الضيوف، وهذا للأسف يؤثر على حضور هذه الأسماء اللامعة في الساحة الثقافية.