إشارتان جميلتان تردان علينا في نفس اليوم تبعثان في الوطن الأمل بقدرته على مواجهة أتون الاستئصال الهوياتي: الأولى أتتنا من دبي بتتويج الطفلة المغربية مريم أمجون بالجائزة الأولى لتحدي القراءة العربي لسنة 2018 في رسالة واضحة من المغرب العميق حول رسوخ انتمائه للعربية لغة وفصاحة وهوية، والثاني صدور منشور لرئيس الحكومة سعد الدين العثماني يلزم الإدارات والمؤسسات العمومية بضرورة اعتماد اللغة الرسمية فقط في المعاملات والوثائق الإدارية. لكن بعد يوم واحد من هذا الأمل تأتينا الصدمة من جامعة الحسن الأول بسطات لتذكرنا بحالة النخبة الأكاديمية والتعليمية في الوطن التي تريد القفز على النص الدستوري وتذكيرنا بالنكسة الهوياتية التي نعيشها، في افتتاح النسخة الثانية لمنتدى التعليم العالي ما بين الصينوفرنسا وأفريقيا الفرنكوفونية، الذي استضافته جامعة الحسن الأول سطات، خلال الفترة 29/30 أكتوبر 2018 بالدارالبيضاء بشراكة مع المجلس الجهوي الدارالبيضاءسطات حول موضوع" مواءمة التعليم العالي ودوره في تشجيع التنمية الاقتصادية والاجتماعية"، حيث أصر المسؤولون المغاربة على استعمال لغة موليير، في الوقت الذي تحدثت فيه ممثلة الصين بالمغرب بلغة عربية فصيحة. أليس هذا ضربا للسيادة اللغوية للمغاربة في جمع رسمي؟ نقتبس من الدكتور عبد السلام المسدي مصطلح "الانتحار اللغوي" للدلة على الحالة الهيستيرية التي تعيشها النخبة المتسيدة للقرار السياسي والتربوي والاقتصادي، في علاقتها باللغة الرسمية. ومناسبة الحديث السباق المحموم بين مديري الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين والمديرين الإقليميين لوزارة التربية الوطنية من أجل الالتحاق بالركب، ليس ركب إصلاح التعليم ولا تنفيذ إجراءات الرؤية الاستراتيجية أو النهوض بالواقع المزري للمدرسة المغربية، بل سباق من أجل فرنسة التعليم وإلحاق المدرسة المغربية بوزارة التعليم في باريس. فمن خلال قراءة هذه المذكرات التي صيغت من طرف نفس "المهندس" وبنفس اللغة، وإن اختلفت التوقيعات، ستجدها تمتح من نص الرؤية الاستراتيجية مصطلحاتها ومفاهيمها بحثا عن شرعية وجودها. فمفاهيم من نحو التناوب اللغوي والمسالك الدولية وتدريس اللغات ولغات التدريس والانسجام اللغوي بين الأسلاك هي دعامات لتأكيد الخيار الفرنسي في التدريس، وفي نفس الوقت فخاخ ضُمنت في الرؤية والقانون الإطار من أجل شرعنة الفرنسة. وبما أن الواقع العملي هو الفيصل، خاصة بعد فشل المحاولات العملية الجارية في مختلف الأسلاك، فالاستناد إلى دراسات ميدانية "وهمية" سيكون مفيدا في تعزيز المسار والتأكيد عليه. لذا فالإشكالات التي يجب طرحها أمام هؤلاء متعددة وضرورية في مسار الفرنسة المفروض ضد إرادة الشعب وممثليه: في ماذا ينفع الدستور ونصه الخامس الذي انشغل الناس بتأويله وانشغلت وزارة التعليم ومن يقودها بكيفية الخروج عليه؟ وفي ماذا نحتاج إلى مجلس أعلى للتربية والتكوين مكلِف ماليا وإعلاميا إذا كان هناك من يخطط لمستقبل المغاربة بالارتماء في أحضان فرنسا بكل هذه السرعة والجرأة ودون انتظار لمخرجات النقاش الدائرة في المجلس؟ أم تحولت اختصاصاته إلى جمعية ثقافية تعقد الندوات واللقاءات الإشعاعية؟ وفيما تنفع وزارة التربية الوطنية أصلا إن كانت الميزانيات المرصودة هي من أجل التعليم بلغة دولة أجنبية؟ ولم اللغط والجدل حول القانون الإطار مادام الواقع يرسم بعيدا عن قبة التشريع؟. إنه المشي بخطى حثيثة نحو "الانتحار اللغوي" الذي حدد المسدي سماته في كونه: مشفوعا بالغفلة وبطيئا، فضلا عن أنه انتحار جماعي. فالبادي أن الغاية الثاوية وراء هذا المسار هي محاولة رسم واقع لغوي للمدرسة المغربية بعيد عن نصوص الدستور وصيغ القوانين والمنشورات، بعيد عن اختيارات الشعب الذي أثبتت انتفاضته ضد التلهيج موقفه الحقيقي من الفرنسة، بعيد عن نقاشات البرلمان وممثلي الأمة والتغييرات الشكلية على رأس وزارة باب الرواح، بل هو واقع تفرضه النخبة المتسيدة للقرار الثقافي والسياسي والاقتصادي وفق قانون التحكم السائد في علاقتها بالمجتمع، ليس من أجل إصلاح المدرسة أو غير ذلك من العناوين التسويقية، بل من أجل إتمام صفقة الارتماء التام والمطلق في حضن المستعمر القديم الجديد وربط المغرب به اقتصاديا وتربويا. ولن يتأتى هذا الأمر إلا بالانقلاب التام على حالة التوافق الوطني التي جسدتها اللحظة الدستورية بكل قيمها، وعلى الفكر الاستقلالي الذي رهن بناء الوطن بالاستقلال اللغوي والمزايلة عن المستعمر وفكره وثقافته. لذا سبق لمجلس عزيمان أن افتتح عمله أن كلف مؤسسة فرنسية للتعليم لتقييم جودة التعليم المغربي، كما اعتاد الوزراء المتعاقبون على تسليم التعليم المغربي لفرنسا على مراحل بدءا بالتوقيع على اتفاقيات عامة لتعزيز التعاون المغربي الفرنسي في مجال التربية والتكوين، مرورا باتفاقيات تهم دعم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا ونظام التبريز واعتماد الباكالوريا الدولية الشعبة الفرنسية وتعزيز التعاون في مجال التكوين المهني، وصولا إلى الاتفاق حول برنامج التميز الفرنسي-المغربي للمنح الخاصة بالمدارس الفرنسية الكبرى. ليظل السؤال الجوهري: هل من المعقول الاستنجاد بدولة يعاني تعليمها من أزمات جوهرية حتى تراجعت إلى المركز 27 في تقرير “بيزا” العالمي لجودة التعليم؟ هل من المنطقي فرض نمط تعليمي خارج الأطر الديمقراطية والاختيارات الشعبية؟ هل سيظل المغاربة ميدان تجارب لنخبة اختارت الانسلاخ عن منظومتهم القيمية والحضارية؟ إن ما يقع الآن في المدرسة المغربية هو انقلاب حقيقي على كل مقومات الدولة من ثوابت المشترك الجمعي إلى الاختيار الديمقراطي إلى النص الدستوري. وككل انقلاب تبقى المقاومة حقا مشروعا للمغاربة حتى لا نصل إلى انتحار لغوي جماعي.