كان هناك، ربما في الحاضر، وربما في الماضي عالَمٌ، أصاب الصدأُ كلَّ كلماته. يُمضي الناسُ حياتهم أمام الشاشاتِ الكبرى، أو ينظرون إلى شاشات هواتفهم؛ في صمتٍ تام. لا أحد يتكلَّم ولو مع نفسِه. لا أحد يُكلم غيره . ولا أحدَ يتحرك إلا مضطرا. كل الناس جالسون، جامدون، صامتون. وحدها الشاشات هي التي تتحرك؛ صاعدةً هابطة، بصُور تعقُب صورا؛ حتى ما هو مُرفقٌ بالصور، من كتابات، يكادُ لا يهتم به أحدٌ. أمَّا أن يُحدّث الواحد منهم الآخرَ، عما شاهده في شاشته، أو ما قرأه، فهذا لا يحصُل إلا نادرا. لا لغةَ غيرَ لغةِ الصمت. هكذا يعيشُ الناس في هذا العالم. هل في الماضي أم في الحاضر؟ الله أعلمُ، كل واحد يفهم ما يشاء. حتى ما يشاهده الناسُ في شاشاتهم الكبرى والصغرى، لم يختاروه بأنفُسهم، ليهتمُّوا به ويفهموه؛ بل هو مفروضٌ عليهم ؛ ولا خيار لهم؛ حتى وان توهَّموا أنهم يختارون بأنفسهم ما يشاهدون ويقرؤون. لم يعد هناك وقتٌ للقراءة في هذا العالم، ولا للكتابة . ولم يعد هناك وقتٌ حتى للحلم. ولم يعد هناك من يحكي أحلامه لغيره؛ لأنًّ لا أحد يحلم. حتى الذكاء لم يعد وصفا إلا للهواتف . قلَّ أن تسمع من يقول، في هذا العالم الصامت: فلانٌ ذكي. لقد أصبح الذكاءُ من أوصاف الهواتف فقط. شيئا فشيئا بدأ الناس، في هذا العالم الصامت، ينسَون الكلمات؛ بل ونَسوا حتى ألسنتهم؛ ولم يعودوا يعرفون، لماذا هي في أفواههم؟ ولماذا تصلح؟ أما الكتب فهُجرت حيثُ هي، في رفوف المكتبات العامَّة والخاصة. لم يعد أحد يقترب منها؛ ولو لمُجرد نفضِ الغبار عنها. أما قراءتها فقد ولَّت وأصبحت مِن التاريخ فقط. أو كأنها كانت شغلَ الأجيال القدِيمة المتخلفة. أما معاجمُ اللغة، فلم يعد الناس يعرفون حتى سبب تأليفها؛ وحتى كيفية البحث فيها. هي بدورها في الرفوف يعلوها الغبارُ . يمضي الزمن في هذا العالم، فارِغا، بلا معنى. يمضي وكأن رياحه لم يسخرها الله إلا لتذهب بالكلمات بعيدا؛ حيث تلقيها في عوالمَ مجهولة. من حُسن حظ هذا العالم أن الطبيعة لا تزال موجودة، ولو بكيفية مدمَّرة، ومهجورةٍ؛ لأن اللغةَ الدالة عليها، والتي تُحبب الناس فيها، لم تعد مُستعملة، كما ذكرت . وحتى صور الطبيعة، التي تعرضُها الشاشات الكبرى والصغرى، لا يلتفت اليها أحد ؛ لأنها لم يعد يُفهم لها معنًى. بدون كلماتٍ دالة، وشارحة، لا أحد يفهم أيَّ شيء. ها هي امرأة وحيدةٌ تمشي بين حقول البادية؛ إنها بحاجةٍ إلى التفكير، وهو لا يُسعفها في عالم المدينةِ الصامت، المشغولِ بشاشاته. ظلت لساعات تمشي وحيدة، وها هي الآن تلتفتُ خلفها، لأنها سمعت وقع أقدام. هناك رجلٌ؛ انه يقترب منها الآن ويُحييها، بالكلام: صباحُ الخير سيدتي. ردت هي على التحية بأفضلَ منها، سعيدة بسَماع كلمات نسيتها منذ زمن؛ لأن لا أحد يرفع عينيْه عن شاشته ليُحيي الآخر، المارَّ قربه. ها هي فرصةُ الكلام تواتيها، في البادية، لأن رمَق الحياة لا يزالُ موجودا بها. بعد مدة قصيرة التحق بهما أشخاص آخرون، ألحَّت عليهم الرغبةُ في الكلام، وها هي الفرصة الآن مواتيةٌ، ليستعيدوا بعضا من نِعمة الكلام، وليُحركوا ألسنتهم. سارت المجموعة، تحذوها أنشودة اللغة الرائعة، المحمولةِ على أجنحة ألحان موسيقية قادمة من عوالم أخرى. تمضي المجموعة وهي تأخذ بأطراف الحديث؛ لا لشيء إلا لتستعيد بعض الكلمات العذبة، التي ابتكرها الإنسان عبر آلاف السنين، وظل يستعملها، إلى أن قتلتها الشاشات الكبرى والصغرى. ما أن استعاد أحدهم كلمة "الشاعِرية" حتى توالت أخواتُها على ألسن المجموعة: الشعر، الشعراء، يشعر، الدواوين، المُعلقات؛ ثم توالت أسماء الشعراء، ومقطوعاتٌ من قصائدهم. عاشت الجماعة لحظاتٍ ممتعةً، وهي تتذكر كل هذه الكلمات التي نسيها الجميعُ ؛ والتي لم تعد تُذكر إلا للاستخفاف بها وبقبيلها. بل انهمرت الدموع من عيني المرأة، وسرَت العدوى بين جماعة مُحبي الكلمات. ثم عمَّ الفرح المجموعة من جديدٍ؛ حينما وقف أحدُهم يتأمل الزهور ويستعيد أسماءها، ويُسمِّي ألوانها: أقحوانٌ، شقائقُ النعمان، بنفسج، ورد، آس، أوركيد، سوسن، عصفور النار؛ أحمر، أصفر أخضر، عِطر، ندى.. وتوالت الكلمات، منبعثةً من جزر الذاكرة التي كادت تحرِقها الشاشات. ثم ربط أحدُهم بين قواميس الشعر والزهور؛ إيذانا بدخول المجموعة في استظهار بعضٍ من شعر الطبيعة؛ بعض ما صمد لجبروت الشاشات الكبرى والصغرى. ثم تحدث أحدُهم لغة الطفولة، كما أنجبتها لغةُ الأمهات، والجدات؛ فكانت مناسبة لتتوالى كلماتٌ تضْحكُ كالأطفال، سعدت لها المجموعةُ كلها. تواصل الجماعة السيرَ بين الحقولِ، تحذوها الكلمات القادمة من بعيد؛ من جزر النِّسيان. استعادت المجموعة كلماتِ: الحرية، النبوغ، السلم، الإبداع، التساكن، التعايش، الاختلاف. كلما زادوا في ممارسة غِواية الكلمات، كلما شعروا بأن المَعنى أصبح يستعيدُ مواقعه في أذهانهم؛ بعد سنين من الفراغ، وجبروتِ الشاشات. وفي النهاية، قررت الجماعة، ومن انضاف إليها، من كل أرجاء المعمور، البقاءَ في البادية، لإعادة تذكر كل الكلمات، وبناء صرحِ المعاني الجميلة، و... وإعادة تشكيل عالمٍ مُتكلم، لا تستبد به الشاشات فقط.