عندما نسمع إمام الحرم يصف ولي عهد المملكة العربية السعودية بالشاب الطموح المحدث والملهم! وعندما نقف على تأييد عدد من علماء المملكة لتجاوزات هذا "الشاب الملهم" في الداخل والخارج، ومحاولاتهم اليائسة من أجل تبرئة ساحة "أولي أمرهم" من دم الصحفي المغدور جمال خشاقجي قبل أن يستكمل المحققون مهامهم، يتبادر إلى ذهننا كيف كان أجدادهم من السلف يدافعون عن أولي الأمر من الطواغيت الذين آل إليهم حكم المسلمين خاصة بعد اغتصاب الأمويين للسلطة وتوريث معاوية لولده يزيد مقاليد السلطة في حضور عدد من كبار التابعين وأبناء الصحابة(رض) وعلى رأسهم الإمام الشهيد الحسين بن علي(ع) الذي أمر يزيد بن معاوية بقتله وأهل بيته في واقعة كربلاء الشهيرة. وكما تشير أصابع الاتهام إلى تورط هذا الأخير في دم الإمام الحسين(ع)، فإن لأبيه معاوية بن أبي سفيان اليد الطولى في اغتيال أخيه الإمام الحسن السبط(ع)، والذي تطالعنا ذكرى استشهاده هذه الأيام، رغم دفاع فقهاء بني أمية عن الرجلين ومحاولاتهم المستميتة تبرئة ساحتهما من دماء أحفاد الرسول(ص). فالخليفة الأحمق كما سماه عبد الملك بن مروان لم يكتف بإصدار أوامره لقائده الدموي عبيد الله ابن زياد بقتل الحسين ورفاقه(ع)، بل أمر بأسر نساء بيت النبوة وحملهن من العراق إلى الشام منكسرات من أجل التشفي بهن، بل والاحتفال بانتصاره الواهم وإشاعة ذلك بين الناس حتى اتخذ بعض المسلمين من أيام عاشوراء التي وقعت خلالها هذه المأساة عيدا فيما بعد! وهو نفسه الذي أمر جيشه بانتهاك حرمة المدينة وسبي نساء الأنصار، وكانوا قد خلعوا بيعته بعد أن علموا بما أوقعه بالإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه(ع)، بل لم يتورع أحد قادته عن رمي الكعبة بالمنجنيق عند حصاره لابن الزبير في مكة مما سود صحف التاريخ الإسلامي. ومع كل هذا وغيره كان يعده بعض فقهاء السلف من بني أمية ومن ورث مواقفهم المنحرفة من دعاة السلفية (يتقدمهم اليوم الوهابية) أميرا للمؤمنين الذي كان من الواجب طاعته، بل ويحملون ما وقع في كربلاء للحسين(ع) الذي عدوه مارقا، حتى قال بعضهم (أبو بكر بن العربي في كتابه العواصم من القواصم) بأن الحسين قد قتل بسيف جده! في إشارة إلى حديث منسوب إلى الرسول(ص) يقول فيه: "مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ"، أما اليزيد فمغفور له كل ما فعل حسب منطق القوم، خاصة وأنه أول من سير جيشا للقسطنطينية حسب حديث آخر منسوب للرسول(ص) لا يقل غرابة عن سابقه! ولا يقل سجل أبيه معاوية عنه إجراما وتجاوزا في حق كبار الصحابة وآل بيت الرسول(ص). فمن عمار بن ياسر الذي تنبأ الرسول(ص) بمقتله قائلا: "عمار تقتلك الفئة الباغية"، حيث قتل مع علي في صفين في مواجهة جيش معاوية الذي بغى بعد أن رفض بيعة الإمام علي(ع) الجامعة، وآثر المضي في طريق المطالبة بدم الخليفة المقتول عثمان بن عفان، مع أنه كان يتحين فرصة انقضاض الثوار عليه للدعوة إلى نفسه. وقد تماطل في إنقاذه بعد أن وصلته الأنباء عن حصاره حتى عاد جيش الشام قبل أن يبلغ المدينة بخبره بعد أن وصلتهم أنباء اغتياله. وإذا كان عدد من المؤرخين يحمل مقتل علي(ع) للخوارج فإن هناك من يتهم معاوية نفسه في الضلوع في هذه المؤامرة، خاصة وأن له سوابق في التخطيط لمثل هاته الأعمال. فقد دفع قسا مسيحيا لسقي الصحابي الجليل مالك الأشتر النخعي بالسم، وقد كان من أبرز قادة الإمام علي(ع)، وذلك عندما كان في طريقه لولاية مصر بعهد من الإمام، حتى إذا وصله خبره قال لجلسائه: "إن لله جنودا من عسل". وهي نفس الحيلة سلكها مع الإمام الحسن(ع) رغم تنازل هذا الأخير عن الخلافة لصالحه حقنا لدماء المسلمين، لكن بشروط كان من أقواها على معاوية أن تؤول الخلافة بعد وفاته للحسن نفسه، حيث سعى في سمه عن طريق زوجته جعدة بنت الأشعث التي وعدها بالمال وبزواج ابنه يزيد الذي عمل مباشرة على أخذ البيعة له غصبا بعد تنحية الحسن من طريقه. أما حجر بن عدي الكندي فقد قتله وأصحابه بمرج دابق بعد أن كان يتصدى لأئمة وخطباء السوء الذين كان يدفعهم معاوية لسب الإمام علي بن أبي طالب وأهل بيته(ع) على المنابر في خطب الجمعة، وبعد أن رفض أمر معاوية بأن يتبرأ من دين علي! وأرسل رأس الصحابي الجليل عمر بن الحمق الخزاعي - وكان ممن حاربوه مع علي في صفين- إلى زوجته آمنة بنت الشريد في سجن دمشق، وكان قد حبسها لسنتين قبل القبض عليه، فكانت أول رأس تحمل في الإسلام. وكان قد وعد قبل ذلك الإمام الحسن(ع) بعدم متابعة شيعته و شيعة أبيه ممن قاتلوه في صفين وغيرها من الوقائع، حيث كان ذلك من بنود وثيقة الصلح بينهما قبل أن يتنصل من كل وعوده ليتتبعهم جميعا تحت كل حجر ومدر.. ومع كل هذا وغيره تجد من يدافع عنه من علماء السلف، بل ويعدونه خال المؤمنين -لأن أخته رملة بنت أبي سفيان كانت من زوجات النبي(ص)- ومن كبار الصحابة ممن كانوا يكتبون الوحي! وقد سئل الإمام النسائي يوما عما يرويه الناس في مناقب معاوية، فأجاب: "لاأجد له إلا دعوة رسول الله(ص) المشهورة فيه: "لا أشبع الله بطنه" وقد كان شرها! لقد ورثت المدارس السلفية عبر التاريخ، والتي تعبر الوهابية اليوم عن أيديولوجيتها السطحية والمتطرفة هذا التبرير والدفاع المستميت عن كل الخلفاء والحكام الذين تورطوا في دماء معارضيهم خاصة من بني أمية، وذلك إلى جانب حقد هذه الأسرة التاريخي على الأئمة من آل بيت الرسول(ص) وشيعتهم الذين كانوا يتقدمون صفوف هذه المعارضة عبر العصور، وعلى كل المستويات العسكرية والسياسية والأيديولوجية. إننا إذ نعرض لجوانب من سيرة أحد مؤسسي الاستبداد السياسي باسم الدين في إحدى أحلك فترات التاريخ الإسلامي، إنما نريد أن نشير بأن أكثر الجرائم التي كانت تتم لتصفية المعارضة السياسية بالخصوص كانت تتم بمباركة فقهاء السلاطين، حيث يتم تغليفها عادة بالإحالة إلى بعض المواقف المنحرفة والمزالق الدموية لبعض ممن سماهم هؤلاء "صحابة" فجعلوهم بذلك فوق مستوى الشبهات، بل في مرتبة القدوة! ليأتي دور الإنكار والتبرير الممنهج لتصحيف الحقائق وتعويم الوقائع بمغالطات محبوكة يكون الهدف منها عادة خلط الأوراق ببعضها والتشكيك فيما نقله المؤرخون وجاء منسجما مع تطور الأحداث، دون أن ننسى الدور الذي تلعبه ترسانة الأحاديث الموضوعة لتيسير تقبل كل أشكال الخلط والتناقض لدى المتتبع والقارئ. وفي النهاية يتم الختم على كل هذا بالتحذير والوعيد لكل من سولت له نفسه التشكيك في الروايات التي تتحدث عن عدالة الخلفاء والحكام وكأن ذلك مما يخالف أركان الدين. واليوم، وبالرغم من أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، مازال حكامنا وفقهاؤهم يخاطبوننا بنفس هذه الأسطوانة المشروخة. وهم لا يدركون بأن الشعوب قد شبت عن الطوق ولم تعد تنطلي عليها روايات كهنة المعبد وخرافاتهم التي يتم فيها تغييب العقل عادة للعب بأوتار العاطفة، وبأن نموذج الإسلام السلفي المحافظ والمتناقض قد بات متهافتا أمام منظومات العلوم الإنسانية والعقلانية. وإن لم يتدارك أولو النهى تراث هذا الدين بالنقد والمراجعة والتمحيص فلن يكون مصير الأجيال القادمة أفضل ممن سبقهم إلى التطرف و الضياع أو الإلحاد واللامبالاة. *باحث مغربي