استفاق المغاربة بحر هذا الشهر على فاجعة ذبح واغتصاب السائحتين الاسكندنافيتين بطريقة بشعة تنم عن نفس إجرامي مرضي لمرتكبيها. لكن الأخطر من ذلك كان هو ارتباط هؤلاء الوحوش بداعش وإعلان بيعتهما قبل الحادث لخليفتهم المزعوم أبو بكر البغدادي. لاريب أن كل المغاربة وبكل أطيافهم مجمعون على بشاعة هذا الفعل الإجرامي وعلى براءة الإسلام من هكذا ممارسات تنسب إليه بتأويلات وأفعال منحرفة لبعض الظلاميين والمتطرفين الذين حاولوا فرض وصايتهم على هذا الدين باستغلال وتمرير أيديولوجيتهم المنغلقة بدعم من بعض إمارات الخليج التي انخرطت منذ عقود في دعم هذه الأيديولوجيا التي تتبنى قراءة متزمتة للإسلام. هذه القراءة التي ارتبطت خلال القرون الأخيرة بالأيديولوجيا السلفية الوهابية التي استطاعت بسط نفوذها في كل دول العالم الإسلامي، خاصة بعد اكتشاف النفط في السعودية التي انخرطت أيضا خلال فترة الثمانينات فيما سمي آنذاك بمشروع الجهاد العالمي الذي وفرت له هذه الأيديولوجيا كل مايلزم من أدبيات لينمو ويتوحش، حيث انطلق من أفغانستان ليصل إلى أمريكا بمأساة 11 سبتمبر 2001 ثم يعود إلى العراقوسوريا عبر بوابة الإرهاب العالمي الذي يبدو أنه لم يتوقف هناك، بل بات يهدد أمن واستقرار كل المنطقة العربية والدول الإسلامية التي وفرت أغلب أنظمتها بوعي أو بدون وعي أرضية خصبة لانتشار هذا الفكر المتطرف بتحالفاتها الاستراتيجية مع بعض الدول الراعية لهذا التيار الذي يغرد خارج سرب التاريخ والحضارة الإنسانية. قبل سنوات لم يكن الكثير من المغاربة بمن فيهم بعض المثقفين يفرقون بين الإسلام وبين النسخة الوهابية للإسلام، خاص بعد الاكتساح الذي قامت به قنواتهم الفضائية ومواقعهم الإلكترونية لعقول المسلمين ومن بينهم المغاربة، بالإضافة إلى كتبهم التي هيمنت على عناوين دور النشر والمكتبات التي توهبنت بين عشية وضحاها بعد أن استطاب أصحابها هامش الأرباح التي يكفلها لهم أصحاب هذه الدعوة، ولتنخرط الدولة أيضا في عملية غض الطرف عن هذه الكتب والكتيبات التي كانت تهدى أيضا للمعاهد والمدارس والمراكز الثقافية دون حسيب أو رقيب، أو الأروقة التي كانت ومازالت تخصص كل عام داخل المعرض الدولي للكتاب للترويج لأيديولوجيتهم الإقصائية، وعن عدد من التلاميذ المغاربة الذين شدوا الرحال إلى معاهد وجامعات هذا التيار بالمملكة العربية السعودية1 ليعودوا إلينا مشحونين بفكر متزمت، وليشهروا فتاوى التبديع والتكفير والتشنيع على كل من خالفهم من باقي التيارات الدينية والأحزاب الوطنية بعنهجية وتعالي لا يضاهى، وقد سموا أنفسهم بالفرقة الناجية التي لا يخالفها أحد في أمر إلا ضل! هذا وقد اجتهدوا في تحريم وتبديع (من البدعة) معظم الوسائل والاختراعات التي تفتقت عنها الحضارة الإنسانية وجاء بها التقدم التكنولوجي كالتلفاز والإنترنت قبل أن يطبعوا معهما بعد أن جاءتهم الفتوى الإباحة من شيوخ المؤسسة الوهابية بالسعودية. وبعد أن كان المغرب بلد يضرب به المثل في التسامح بين الأديان والعقائد، أصبح الخطاب التكفيري يهدد هذه الوحدة بل يعمل بكل السبل على تكفير المغاربة من أتباع بعض المذاهب البشرية في الفكر أو السياسة كالاشتراكية والعلمانية واتهامهم بالزندقة والإلحاد والمروق عن الدين2! كما طال هجومهم أيضا كل من لم يرتدي لباسهم البدوي، وكل من حلق لحيته بدعوى مخالفة السنة والتشبه بالكفار! وكأن الرسول (ص) قد جاء برسالة في المظاهر والأزياء وليس لنشر العدل والرحمة وتتميم مكارم الأخلاق. وبعد أن كان المغرب بلد الأولياء، وكان لكل ولي صالح قصة وبصمة في تاريخ الساكنة التي ترعى ضريحه، أصبح هؤلاء بين عشية وضحاها مشركون في نظر أتباع هذا التيار. وعوض توعية وتنبيه الناس وأغلبهم من الأميين والبسطاء لآداب زيارة نزلاء هاته الأضرحة والعمل على تصحيح بعض الممارسات والأقوال التي تخل فعلا بهذه الآداب، اجتهدوا في الطعن بالأولياء وتشويه تاريخهم وسيرهم لدى العامة، ونعت زوارهم بالشرك والخروج عن الإسلام، بناء على نصوص وآثار ضعيفة لا ترقى إلى ما أجمعت عليه الأمة منذ عقود، والحال أن لا أحد من هؤلاء الزوار يقصد الموتى بالعبادة أو يعتقد يقينا بقدرتهم على المنع والعطاء. هذا وقد وصف ابن جبير في رحلته بين مختلف الأمصار الإسلامية الكثير من المقامات والأضرحة خاصة في مصر وسورياوالعراق وأرض الحجاز، والتي مازالت تساهم إلى جانب الأدوار الروحية التي تلعبها في تنشيط السياحة الدينية في كل هاته البلدان. وقد دمر الوهابيون خلال حملتهم الأولى على أرض الحجاز بعد تحالفهم مع آل سعود الكثير من هاته المقامات، ومنها أضرحة آل البيت (ع) والصحابة وأمهات المؤمنين (رض) في مكة والمدينة وقد كان بعضها يصنف ضمن معالم التراث الإنساني العالمي. ولولا التهديدات التي أطلقها الجيش العثماني آنذاك لسووا بقبر الرسول (ص) الأرض أيضا3 . كما دمرت الجماعات التكفيرية في كل من العراقوسوريا ومالي واليمن الكثير من هاته المقامات خلال السنوات الأخيرة، بل وصلت الوقاحة ببعضهم إلى نبش قبور الصحابة كما وقع في سوريا لقبر الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي4. وقد كان من أهدافهم تجفيف المنابع الروحية للأمة تمهيدا لفصلها عن تاريخها الغني برجالات أثروا هذا الدين على كل المستويات العلمية والروحية والسلوكية، مما لم يقف عليه آباءهم من فقهاء الجمود والتطرف الذين كان أغلبهم يقتات بفتاوى الدم والجنس التي كانوا يسخرونها لتبرير أفعال بعض الطغاة الذين حكموا باسم الدين خلال فترات طويلة من الإستبداد الذي خيم على الدولة الإسلامية منذ صعود الأمويين بتدبير من معاوية بن أبي سفيان الذي يستميتون في الدفاع عنه رغم خروجه على الإمام علي (ع) وتورطه في قتل عدد من كبار الصحابة كحجر بن عدي الكندي وأصحابه في مرج دابق، وتوريثه الحكم بعد ذلك لابنه الفاسق يزيد الذي أصدر أمره بقتل الإمام الحسين (ع) حفيد النبي (ص) في كربلاء. أما علاقتهم بالعلم والفلسفة، فهي لا تختلف كثيرا عن علاقتهم بالتربية الروحية والسلوك، حيث أحرق يوما أجدادهم كتب الفيلسوف والفقيه ابن رشد الحفيد واجتهدوا في طرده بعد تكفيره من قرطبة رغم أنه أفحم أئمتهم بكتاباته التي وضح فيها علاقة الدين بالفلسفة، وأحرقوا معها الكثير من الآثار الفكرية والعلمية لعدد من علماء الإسلام الذي تم اتهامهم بالإلحاد والزندقة كالشيخ الرئيس ابن سينا الذي ظل كتابه القانون في الطب يدرس لحوالي سبعة قرون في أوروبا والفارابي الذي لقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو وغيرهم ممن استفاد منهم علماء وفلاسفة عصر النهضة والأنوار في الوقت الذي اجتهد كهنة المعبد السلفي في طمس آثارهم الباقية بدعوى انحرافها عن العلوم الشرعية التي قيدوا بها أتباعهم وفق رؤية سطحية منغلقة لا تقبل بالتعدد ولا تعترف بتراث الآخر المختلف ولو كان من داخل دائرة الإسلام، حيث لم تتغير مواقفهم المتشنجة من هؤلاء العلماء والفلاسفة إلى اليوم. لقد حان الوقت لاتخاذ مواقف حازمة من تمدد هذا التيار على حين غفلة من المسؤولين والمغاربة. وقد أثبتت التجارب الدولية والمحلية ارتباطه بالعنف وتسويغه لكل أشكال التطرف والتعصب إلى حد تبرير الإجرام والقتل، وما أحداث 16 ماي 2003 ببعيدة عن أذهاننا. وقد اجتهدت الأجهزة الأمنية آنذاك لإيقاف نزيف التطرف بالقيام بحملة اعتقالات واسعة في صفوف المحرضين، كما تم إغلاق الكثير من دور القرآن التي يستغلها أتباع هذا التيار لتعبئة المنخرطين الجدد في هاته الأيديولوجيا الدموية، بعد أن ثبت بأنه لافرق بين السلفية العلمية أو السلفية الجهادية، حيث أن الأولى توفر الأرضية الفكرية لتبرير ممارسات ومشاريع الثانية. ورغم انخراط عدد من رموزهم في سياسة ما عُرف بالمرجعات الفكرية التي استهدفت نزلاء المؤسسات السجنية المدانين في قضايا الإرهاب والتطرف إلا أنه يبدو بأن ذلك لم يغير كثيرا من توجهاتهم العنيفة فقد أورد بوبكر سبيك، الناطق الرسمي باسم المديرية العامة للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني بأن شخصا واحدا من منفذي جريمة إمليل كانت له سابقة في قضية التطرف سنة 2013، وهو من قام بالتأثير على البقية بإذكاء الطابع التكفيري لديهم. وبنظرة بسيطة إلى كل الجماعات التكفيرية التي تعيث في الأرض فسادا باسم الدين وتحاول تنزيل شريعة دولة الخلافة المزعومة، نجد أنها وبدون استثناء تنهل من نفس المرجعية السلفية الوهابية التي لا تحتفظ من تراث المسلمين إلا بالاجتهادات السطحية والفتاوى المتزمتة التي يحاولون إسقاطها على العصر دون مراعاة للسياقات الزمنية والاجتماعية والسياسية التي تغيرت جميعها في الوقت الذي مازال دعاتهم وفقهاؤهم يجتهدون في دعوة الناس إلى العودة بالزمن إلى الوراء، والعمل على معاكسة وتعطيل كل أسباب التقدم وتطور الحضارة الإنسانية. إن الدعوة التي تعالت مؤخرا إلى تجفيف منابع الإرهاب لا يمكن أن تنجح إلا بفتح نقاش عمومي حول نفوذ التيار الذي يغذي ذلك في المغرب وروافده، وكذا مواجهة الفكر الذي يحتضن ويدافع عن المشاريع والتمثلات المنحرفة التي يعتنقها أتباعه. هذا بالإضافة إلى مراجعة نقدية للتراث الإسلامي الذي يتم الإستناد إلى بعض نصوصه الموضوعة أو المجتزأة من سياقاتها، والتأويلات الخاطئة أو الممارسات والفتاوى الشاذة لبعض الحكام وفقهاء السلف، والتي يحاولون بها تسويغ أفعالهم وممارساتهم. لقد باتت السلفية الوهابية منبوذة ومحاصرة في العديد من الدول التي ذاقت من ويلات أفكارها وممارسات أتباعها، بل وحتى داخل معقلها في العربية السعودية بعد تورط دعاتها وفقهاءها في التحريض على العنف والإقصاء وتبني خطابات طائفية ساهمت في نشر الكراهية والحقد بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد، وفي تدويل الإرهاب الذي لا يستهدف عادة إلا الأبرياء عبر تحوير مفهوم الجهاد بإخراج آياته عن سياقاتها الأصلية، وبالتالي تشويه صورة الإسلام والمسلمين في العالم. وبات على مغرب اليوم أن يختار بين الانخراط في مسلسل التنوير والحداثة والتصالح مع نموذج التدين المتسامح الذي كان سائدا قبل استيراد الوهابية وهيمنة أيديولوجيتها على المؤسسات الدينية في الدولة وعلى المجتمع أو التطبيع مع هذا التيار مرة أخرى بغض الطرف عن مشاريع دعاته ومواقف أتباعه وبالتالي تحمل النتائج التي يمكن أن تكون أسوأ مما حدث فعلا في إمليل. الهوامش: 1- يتم هذا الأمر عادة بتزكية وتسهيل من بعض شيوخ السلفية الوهابية في المغرب كالشيخ تقي الدين الهلالي الذي توفي سنة 1987 قبل أن تنتقل ريادة هذا التيار إلى الشيخ محمد بن عبد الرحمان المغراوي الذي اجتهد في تأسيس دور القرآن وتجنيد الأتباع بدعم من المؤسسة الوهابية في السعودية لنشر وتكريس هذه الأيديولوجيا خاصة في مراكش معقل هذا التيار، والدار البيضاء أكبر مدن المغرب. 2- نموذج من هذه المواقف: https://www.facebook.com/100011025853642/videos/749965948714260/ 3- أنظر مقالنا على نفس الجريدة: جذور التكفير عند المسلمين-3: http://www.hespress.com/writers/339547.html 4- أنظر الخبر: https://al-akhbar.com/Arab/50349 *باحث مغربي.