لا شك في أن إسرائيل باعتبارها كيانا استعماريا عنصريا مجرما تتحمل المسؤولية الأولى عن معاناة الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده. كما أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ودولا أخرى تتواطأ معها، إلا أن مسؤولية إسرائيل والأطراف الأخرى لا تُسقِط المسؤولية عن النظام السياسي الفلسطيني بقياداته ونخبه في حدود ما يترتب عليهم من مسؤوليات وما في يدهم من صلاحيات وإمكانات، وخصوصا ما يتعلق بتدبير الشأن العام داخل مناطق عمل السلطة الفلسطينية وكيفية إدارة الصراع مع إسرائيل. عندما يصل الوضع الفلسطيني إلى ما هو عليه مِن: منظمة تحرير غير جامعة، سلطة بدون سلطة، أحزاب مقاومة بدون مقاومة أو تمارس مقاومة عبثية، انقسام يتعزز كل يوم وصيرورة دويلة غزة قاب قوسين أو أدنى، استيطان متواصل في الضفة واستكمال ضم القدس للكيان كعاصمة له، حصار على غزة يكسر مقومات صمود الشعب، غياب إستراتيجية أو رؤية وطنية للتعامل مع التحديات سواء الاحتلال أو الانقسام أو صفقة القرن... كل ذلك يدل على وجود خلل بنيوي خطير في النظام السياسي، وخصوصا في الطبقة السياسية الحاكمة أو ما يمكن تسميتها تجاوزا (النخب السياسية). إن استمرت القيادات ومكونات النظام السياسي في الضفة وغزة في تحميل إسرائيل وإرهابها، واشنطن وانقلابها على الشرعية الدولية ومرجعيات التسوية، تقاعس أو تآمر بعض الأنظمة العربية والإسلامية...، تحميلهم المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع دون الاعتراف بوجود خلل داخل النظام السياسي الفلسطيني وفي الطبقة السياسية نفسها، فستستمر إسرائيل في توسعها الاستيطاني وتستمر حقوقنا السياسية في التآكل وتستمر عملية تفريغ القضية من مضمونها الوطني التحرري وتحويلها إلى مسألة إنسانية في قطاع غزة مما يمهد لصناعة دولة غزة، وسيتواصل مسلسل التراجعات من نكسة إلى أخرى ومع كل نكسة تُكيل الطبقة السياسية الشتائم والاتهامات إلى بعضها وتستمر في رفع شارة النصر وكوفية أبو عمار وكرسي الياسين والتأكيد على التمسك ب(الثوابت الوطنية) أو تنتظر طيرا أبابيل ترمي اليهود بحجارة من سجيل !!!. وهكذا، نلاحظ أنه في الوقت الذي يستمر فيه الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة وفي كل ربوع فلسطين والشتات صامدا ومقاوما بما هو مُتاح ويُقدم الشهداء والجرحى... فإن طبقة سياسية تتسيَّد عليه وتوظف كل ما يتلقاه الشعب من تعاطف ودعم خارجي لخدمة مصالحها الخاصة وبما يضمن استمرارها بالتمتع بمواقعها ومناصبها المريحة سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية. فبعد قيام السلطة 1994 بوعي أو بدون وعي تورطت غالبية مكونات النخب السياسية في تسوية سياسية في مراهنة منها أن تؤدي اتفاقية أوسلو إلى تحقيق ما عجزت عن تحقيقه بالثورة، وحتى يتم الوصول إلى هذا الهدف كان على النخب السياسية أن تتكيف مع استحقاقات التسوية ومتطلبات السلطة، فانفصلت عن حالة التحرر الوطني ووقعت في شِراك السلطة والوظيفة وأوقعت معها غالبية الشعب الفلسطيني. تحوّلَ الفدائيون والمجاهدون أو غالبيتهم إلى موظفين مدنيين وعسكريين براتب في سلطة مرتهنة بالجهات المانحة وبالاستحقاقات الثقيلة لاتفاقية أوسلو، كما تغلغلت عناصر من خارج فصائل العمل الوطني إلى مواقع قيادية ذات شأن داخل السلطة وفي بطانة الرئيس وأخيرا داخل منظمة التحرير وأخذت تتحكم بمقاليد الأمور بل وتمارس انقلابا داخليا بهدوء على كل ما يرمز إلى الوطنية أو يسعى إلى الوحدة الوطنية؛ وهو ما سبق أن حذرنا منه منذ ثلاث سنوات في مقال بعنوان (انقلاب هادئ وخطير في مناطق السلطة الفلسطينية)، وأصبحت السلطة والوظيفة بالنسبة إلى الجزء الأكبر من الطبقة السياسية هدفا بحد ذاته، فليس بعد الوصول إلى السلطة وإلى مواقعها الوظيفية إلا كيفية الحفاظ عليها، وخصوصا مع إحراق مراكب العودة لحالة التحرر الوطني واستحقاقاتها. وبسبب كل ذلك، تراجعت الدافعية النضالية عند عدد يتزايد كل يوم من مكونات الطبقة السياسية، وأصبح الهدف الأسمى لهذه الفئة ليس الإبداع في وسائل مقاومة الاحتلال وتعزيز صمود الشعب بل إطالة عمرهم الوظيفي وضمان دفع مصروفات علاجهم من أمراض الشيخوخة التي يعاني منها أغلبهم وتأمين عمل لأبنائهم وذويهم في مناصب رفيعة دبلوماسية واقتصادية، ومع سيطرة حركة حماس على قطاع غزة فإن نخبة حماس في غزة انزلقت نحو نفس مسار نخبة منظمة التحرير وبوتيرة أسرع. إن أخطر ما نتج عن هذا التحول في الطبقة السياسية أو ما تسمى النخب هو أن سلوك هذه الطبقة أدى إلى تدمير الحصانة الداخلية للمجتمع ومقومات صموده من خلال: غياب النموذج أو القدوة التي يستلهمها ويُجمع حولها الشعب، كسر حالة الكراهية والعداء لإسرائيل، التقليل من شأن ثقافة المقاومة والتحدي، أصبحت علاقة المواطن بالسلطة وبالسياسة علاقة راتب ووظيفة وحتى على هذا المستوى تتم مساومة المواطن على قوت يومه وراتبه، تدمير المنظومة القيمية، وخلال هيمنة هذه الطبقة السياسية على النظام السياسي في غزة والضفة واستمرار مراهنتها على أية تسوية تُطيل من عمرها ودورها الوظيفي منحت الفرصة لإسرائيل لمواصلة مشاريعها الاستيطانية والتهويدية وتكريس الانقسام. مع كامل الاحترام والتقدير للقيادات والمناضلين الذين استمروا في موقع الصمود والتحدي للاحتلال ولممارسات النخب الفاشلة، إلا أنه بشكل عام سقطت غالبية الطبقة السياسية في دوامة العجز والفشل وأصبح هدفهم الحفاظ على وظائفهم لضمان الحفاظ على مصالحهم وضمان عدم محاسبتهم. وحدث التحول نفسه عند حركة حماس، حيث حدثت إزاحة وخصوصا بعد حرب 2014 لقرار القوة والتأثير من يد النخبة العسكرية (القسام) إلى يد طبقة سياسية اقتصادية جديدة من أصحاب المصالح المتنوعة التي تشكلت وتعاظم شأنها خلال سني الانقسام وأصبحت تتلاعب بمصير القضية الفلسطينية وبمعاناة اهالي غزة، حتى المسيرات على حدود القطاع بدلا من أن تكون من أجل العودة ومقاومة الاحتلال تم توظيفها وتوظيف دماء أكثر من مائتي شهيد وأكثر من عشرين ألف جريح لتكريس الانقسام ولتثبيت سيطرة حركة حماس على القطاع وصناعة دويلة غزة المسخ على حساب المشروع الوطني. هذه الطبقة الجديدة في الجانبين وبعد أن هيمنت على كل مفاصل النظام السياسي فإنها عملت وما زالت على تهميش منظمة التحرير وحركة فتح وفصائل المقاومة ونهج المقاومة والشعب وقواه الحية بشكل عام. إن استمرت الطبقة السياسية الجديدة والمأزومة في غزة والضفة على نهجها، فلا يمكنها أن تحرر وطنا أو تقود انتفاضة أو مقاومة مسلحة ناجحة أو تنهي انقساما أو تحقق وحدة وطنية لا داخل منظمة التحرير ولا خارجها، أو توظف ما يصدر عن الأممالمتحدة من قرارات لصالح شعبنا أو مواجهة صفقة القرن، بل الخشية أن يكون صوتها المرتفع الرافض لصفقة القرن غطاء لإخفاء إما تواطؤها ومشاركتها في الصفقة أو عجزها عن مواجهتها. وللحديث بقية. [email protected]