" قد تخدع كلَّ الناس بعض الوقت، ويمكنك حتى أن تخدع بعْضَ الناس كلَّ الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كلَّ النّاس كُلَّ الوقت".(1) قررت أن أبدأ موضوعي بهذه القولة المعبِّرة، وأنا على يقين، كذلك، أنني سأنهيه بها أو على أصح تقدير ستكون هي خلاصته. فالرأي العام ،كما هو متعارف عليه، من وسائل التعبير ، وهو من العناصر المؤثرة في العديد من مجالات الحياة البشرية: السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية وغيرها؛ فهو مرتبط بالتعبير العلني والواضح عن رأي ما؛ مع وجود تأييد شعبي له. والرأي العام، اليوم، يدخل ضمن العناصر المؤسِّسة للديموقراطية، فهو القياس الذي بواسطته يمكن الحكم على أن دولة من الدول الحديثة نظامها ديموقراطي أو عكس ذلك. وكمتتبع وملاحظ للمشهد السياسي المغربي، خصوصا بعد دستور 2011، أرى أن الرأي العام بدأ يتبلور، وإن كان لم يصل بعد إلى فرض وجوده كعنصر أساسي في بناء الديموقراطية. نعم هناك إرادة لدى الشعب في التعبير عن رأيه في كيفية تدبير الشأن العام، وما يطبق من السياسات العامة، في جميع المجالات، غير أن هذا الرأي يأتي إما بطريقة عفوية تعبيرا عن موقف انفعالي اتجاه قرارات معينة، و يأتي مؤقتا أحيانا أخرى، مرتبطا بحدث ما، وقليلا ما يأتي بطريقة مؤطَّرة تضمن استمراريته وفعاليته وتأثيره. كما يُلاحَظ أيضا، أن صانعي القرار بالمغرب، بكل فئاتهم، لم يستوعبوا بعد حدود مسؤولياتهم، ومازالوا لا يؤمنون بالديموقرطية التشاركية في تدبير الشأن العام. إنهم ينظرون إلى الرأي العام على أنه عنصر سلبي ومشوش يعرقل منظورهم في تنفيذ السياسات العامة. بكل بساطة مازال تفكيرهم تقليديا يمنعهم من تقبُّل الرأي الآخر.. الرأي العام، ويدفعهم إلى فرض الوصاية على الشعب، ناظرين إليه على أنه قاصر ولا يحسن تحديد أهدافه، لذلك لا يقبلون الرأي العام كعنصر بنّاء ومشارك في التدبير اليومي لشؤونه. لذلك تراهم عند ظهور الرأي على الساحة يسارعون إلى مواجهته وتَتْفيهِه، وعدم أخذه مأخذ الجدّ، وفي أقصى الحدود يتهمونه بالمس بأمن الوطن كحجة تبرّر قمعه بقوة العنف، حفاظا على أمن الدولة ومراعاة للتقاليد المرعية. من هنا أرى أن موضوع "الرأي العام" بالمغرب جدير بالقراءة والتحليل في ظل المخاض الذي تعيشه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى الدينية والعقائدية بالمغرب. وسأتناوله من خلال أربعة محاور: تساؤلات مشروعة: هل لدينا رأي عام بالمغرب؟ كيف يتم التعبير عن الرأي العام بالمغرب؟ هل للرأي العام بالمغرب تأثير على السياسات العامة؟ ما مدى تجاوب الفاعلين السياسيين وصناع القرار مع الرأي العام؟ ما هي آفاق صناعة الرأي العام بالمغرب؟ هل للرأي العام حدود وخطوط حمراء؟ ومن يحددها؟ هل أحداث الريف الأخيرة، وأحداث جرادة تدخل ضمن ما يسمى بالرأي العام؟ هل قضية "طبيب الفقراء" بتزنيت قضية رأي عام؟ هذه الحزمة من الأسئلة المشروعة، لا أقصد أن أجيب عليها سؤالا سؤالا، لكني أعتبرها تساؤلات يطرحها المهتمون بالتحليل السياسي بالمغرب كمواضيع أكاديمية يمكن أن تسيل مدادا كثيرا. كما أنه آن الأوان لطرحها للنقاش العمومي؛ هذا النقاش الذي يمكن اعتباره العنصر الأساسي في صناعة الرأي العام، بحيث هو الجدير بأن يؤسس لسياسة حديثة تتبنى الديموقراطية مذهبا ومنهجا في تدبير الشأن العام. وليس الديموقراطية كأطروحات نظرية، كما نعيشه اليوم. الشعب ليس في حاجة إلى التنظير بل هو في أمس الحاجة إلى التدبير الديموقراطي بالملموس، والذي، وحده، يمكن أن يضمن الأمن والأمان ويبث الطمأنينة في نفوس المواطنات والمواطنين. لقد تبث، اليوم، فشل سياسة الأحزاب والنقابات في الوصول إلى التدبير الديموقراطي للشأن العام. وهذه قناعات وصل إليها جميع المتتبعين للتدبير السياسي بالمغرب، بل وحتى أطر الأحزاب والنقابات المتنورين. لم يعد للأحزاب والنقابات تأثير في تأطير المواطنات والمواطنين، بل إنها تخلت عن هذه المسؤولية، والتي نعتبرها، لو كانت، هي التي ستعمل على صناعة الرأي العام؛ لكن بتنازلها، بكل تلقائية، عن هذه المهمة الأساسية التي تدخل ضمن واجباتها، تركت الشعب في حيرة من أمره تتقاذفه الأهواء، وفريسة للإعلام اللامحدود والمتنوع، فلم يعد الناس يميزون ما بين اليسار واليمين والوسط، وما بين الاشتراكي والليبرالي والتعادلي، ولا بين الائتلاف والمعارضة وما بين الصحيح والخطأ، بل تشابه على الناس الحلال والحرام من انعدام التأطير. هذه الحيرة وعدم الثقة وفقدان المصداقية في كل شيء، هي نتيجة عدم التأطير السياسي والايديولوجي، والديني للمواطنات والمواطنين من طرف المؤسسات، التي يفرض عليها وجودها، هذه المهمة، في كل دولة حديثة؛ فهل المغرب تتوفر فيه شروط ومقومات الدولة الحديثة؟ بديهيات: لأني لا أعتبر موضوعي، هذا، درسا لذلك لن أقف عند الجزئيات بل اُذكِّر فقط بما يعرفه الجميع. ففي المغرب، لحد اليوم، لا يمكن الحديث عن دولة حديثة، بالمعايير الدولية التي بها نقيس درجة دمقرطة الدولة، كيف؟ المؤشرات البديهية تبرهن على ذلك، فالذي يسير ويدبر الشأن العام بالمغرب، كما في الدولة الديموقراطية، ليس المنتخبون من طرف الشعب. فصناعة القرار بالمغرب تصدر عن مؤسسات غير منتخبة، هي ما نسميه بالسلطة المركزية، ولا أحد استطاع أن يحدد ملامحها، في يوم من الأيام، فهي موجودة فعليا ولكنها غير ملموسة واقعيا. والمؤسسات المنتخبة تعتبر، فقط، جوقة لترديد ما يصدر عن السلطة المركزية؛ بمعنى أن هذه المؤسسات لا تصنع القرار. وهذا مربط الفرس، كما يقال، لأن المفروض أن المؤسسات المنتخبة وصلت إلى أعلى هرم السلطة بناء على برامج انتخابية متكاملة بمثابة تعاقد بينها وبين المواطنات والمواطنين. لكن بمجرد ترسيمها يتم تجميد هذه البرامج ويشرع في تنفيذ سياسات ومشاريع لم تكن معلنة إبَّان الحملة الانتخابية، هي قرارات وسياسات السلطة المركزية التي تمثل سلطة الوصاية على المؤسسات المنتخبة، وبالتالي على المواطن. لذلك يأتي تعبير الرأي العام كاستغراب لما يُمارَس عليه بدون اتفاق مسبق وبدون إرادته. هكذا يتولَّد الرأي العام عندما يشعر المواطن أن إرادته سُلبت منه فعليا. كل الظواهر السلبية التي تولّدت عن سوء الممارسة الديموقراطية بالمغرب، سببها إحساس الشعب بكون آرائه واختياراته وتوجهاته مجرد أوهام، بل أكثر من ذلك، فهو يحس بالغبن وبأنه تم تمويهُه وتتْفيهُه. وعلى رأسها العزوف عن المشاركة في الاستحقاقات السياسية. الطبقة المنتخبة تقبل اللعبة، رغم وعيها بعدم جدواها، لأنها تستفيد ماديا ومعنويا من جميع أنواع الريع المشتهاة. والناخبات والناخبون يعيشون الحيرة ويحسون بما يسميه المغاربة "الحكرة" قمة الازدراء والتبخيس، فيبادرون إلى التعبير عن رأيهم بكل اساليب التعبير عن الرأي العام: احتجاجات، إضرابات، وقفات، اعتصامات.. انتفاضات... وعندما تذهب جهودهم ومواقفهم سدى يزداد فقدانهم للثقة في المنتخب والانتخابات وفي كل المؤسسات، في الوقت الذي تعتبر فيه المؤسسات المنتخبة في الدول الديموقراطية هي الضامنة للحقوق والعاملة على أداء الواجبات، بل هي الضامنة لاستمرار الدولة ورُقِيّها. العزوف السياسي، خصوصا من لدن الشباب، وظهور جمعيات المجتمع المدني، والترافع الفئوي حول قضايا تهم المواطنات والمواطنين، والمحسوبية و الزبونية، كلها مظاهر فشل النموذج السياسي المتبع بالمغرب. فلا يعقل أن تكون لدينا، في النظام الديموقراطي، الدائرة الانتخابية كأصغر وحدة ديموقراطية في نظام الجماعات المحلية، ونجد داخل هذه الدائرة أكثر من عشر جمعيات للمجتمع المدني، بعناوين وأهداف تتقارب وتتشابه، ومنها ما هو موسمي وظرفي، ومنها ما هو شخصي وفئوي.. فيفرض السؤال نفسه: ما دور الدائرة الانتخابية والمنتخب فيها؟ وهكذا كلما أغلقت أبواب التعبير عن الرأي أمام المواطنين إلا ويبحثون عن أساليب أخرى للتعبير عن حاجياتهم والخصاص الذي يحسون به في جميع المجالات، واليوم بدأ يتبلور لدينا الرأي العام الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية التي تتيح حرية أكبر للتعبير، وتوفّر على المستعملين المواجهة المباشرة مع السلطات في الشارع. فهل هذه الوسائل وهذه الطرق يمكن أن يكون لها تأثير كرأي عام على السياسات العمومية؟ وهل صانعوا القرار وواضعوا السياسات العمومية يبالون بهذا الرأي؟ تفاعلات: الديموقراطية تتطلب وجود رأي عام ، وفي الدول الديموقراطية هناك دائما، وفي كل مرحلة ،ما يسمى بقضية رأي عام. ويمكن اعتبار الرأي العام كاستفتاء حول قضية أو سياسة ما تريد الدولة أن تنهجها. في هذا المحور سأتحدث فقط ، ومن باب البديهيات ، عن الحكومة؛ لأن الحكومة حسب الدستور الجديد لها كل الصلاحيات لتسيير وتدبير الشأن العام، وليست لديها أي حجة للحديث عن سلطة أخرى تنافسها قراراتها واقتراحاتها وسياساتها. الحكومة، اليوم، من خلال تتبعنا وملاحظاتنا لتفاعلها مع الرأي العام، نستنتج أنها تمادت في التقليدانية، وبدأت تمارس الوصاية على الشعب. ومن خلال خطابها تبرهن على أنها لا تعترف بالرأي العام ولا تعيره أي اهتمام. هذا ليس حكما جزافيا بل كل الوقائع تثبت ذلك. حتى رأي المعارضة في إطار المؤسسات المنتخبة لا تعيرها الحكومة اهتماما وتعتبرها ،فقط، عنصرا مشوشا يسعى لعرقلة سياستها وتدبيرها لقضايا الشعب. النقابات كمؤسسات دستورية ديموقراطية وحاملة لملفات مطالب الشغيلة، بجميع أنواعها، لم يعد لوجودها جدوى، والنتيجة شلل الحوار الاجتماعي. الحكومة تنظر إلى الرأي العام كحركات احتجاجية خارجة عن القانون. بل إن الحكومة، اليوم، أصبحت تلتجئ إلى ما سماه "شومسكي" بسياسة الإلهاء؛ بحيث تختلق معضلات سياسية ذات أبعاد اجتماعية تجعل الرأي العام يتخلى عن حقوق في مقابل تحقيق بعض المطامح. وآخر نموذج هو التوظيف بالعقدة الذي قبل به أبناء الوطن في مقابل الحصول على راتب للعيش وليس العمل من أجل الكرامة. في الجامعات هناك إذكاء للحروب الطائفية بين الطلبة، وهي حروب غير ذات معنى، في كثير من الأحيان، وهمية، لكنها تلهي الطلبة عن مناقشة المواضيع الأساسية والمهمة في حياتهم ومستقبلهم. باعتبار الجامعة هي مختبر بلورة الأفكار وفضاء لممارسة الحياة وتنمية الوعي بقضايا المجتمع والوطن بصفة عامة. في السنوات الأخيرة بدأ تمرير خطاب القدرية والإيمان بالقدر كمُثبِّط للعزائم، يتم استغلال الجانب العقائدي في الناس لكي يخضعوا للقدرية ويتركوا التعبير عن رأيهم في ما يستحقونه كمواطنين من حقوق المواطنة وعلى رأسها الكرامة. هذا النوع من السياسة والتفاعل مع الرأي العام يحيلنا على مظاهر التخلف التي يظهر بجلاء أنها تسيطر على صانعي القرار:".. ويبرز التخلف كهدر لقيمة الإنسان؛ إنه الإنسان الذي فقدت إنسانيته قيمتها، قدسيتها، والاحترام الجديرة به. العالم المتخلف هو عالم فقدان الكرامة والانسانية بمختلف صورها.." (2 ) إن تفاعل الحكومة مع الرأي العام هي تفاعل القاهِر مع المقهور. لم نسمع منذ 2011 ،إلى اليوم، بحوار بنّاء بين الحكومة والفرقاء والشركاء في التدبير اليومي للشأن العام. ولا أي حوار مع أي حركة احتجاجية تطالب بتحقيق بعض حقوقها الضامنة لكرامتها. بالعكس الحوار المؤسساتي توقّف بفعل الاستئساد بالأغلبية، وتٌمرَّر جميع القوانين والقرارات والسياسات بالأغلبية اعتمادا على الفهم الخاطئ للديموقراطية؛ إنه تعبير عن عدم الاعتراف بالأقلية في منطق حكومة الائتلاف. الشعب يضع ثقته، رغم كل ما يشوب الانتخابات من تعثرات وتجاوزات، في نخبة من السياسيين لكي تحقق طموحاته، لكن هذه النخبة عندما تتحكم في دواليب التسيير تنظر إلى هذا الشعب على أنه عدوّ وعلى أنه قاصر وعلى أنه يطالب بما لا يستحق؛ وكثير من التعبيرات العفوية واللاّمسؤولة التي تصدر، هنا وهناك، عن بعض المسؤولين تدينهم وتفضح نواياهم. كل هذا يبرهن على أننا ما زلنا بعيدين عن ممارسة الديموقراطية بكل شروطها. لأن الأسلوب المتبع ، اليوم، هو أسلوب الغالب والمغلوب، مازالت عقلية التحكم هي السائدة. الذي يصنع القرار يتحكم في الرقاب فيصبح الإنسان المقهور عاجزا عن المجابهة، وبالتالي فهو معظم الأحيان يجد نفسه في وضعية المغلوب على أمره. وأدوات القهر والإخضاع كلها بيد صانعي القرار.. وأكثرها تعذيبا وتشييئا للمواطن هي المماطلة والتسويف، بحيث تجعلان المواطن ييأس من الوصول إلى مبتغاه، في ظل عدم وجود رأي عام مؤطَّر ومسنَد من طرف وسائل الإعلام. الآفاق والطموح: لست بصدد التنظير لصناعة الرأي العام، ولكن الهدف من المحور هو التأكيد على أن الرأي العام ركن من أركان الديموقراطية الحديثة، وهو بذلك المرآة التي تعكس للسياسي سياسته. المرآة التي يرى فيها السياسيون عيوبهم وتعثراتهم فيبادرون إلى تصحيحها ومعالجتها بكل ديموقراطية وبدون تأفّف. بدون الرأي العام فالأمر يتعلق بالاستبداد والديكتاتورية المغلفة بالتعددية، لأن التعددية الصورية لا تعني الديموقراطية، خصوصا عندما لا تأخذ الرأي العام محمل الجدّ وتتفاعل معه بإيجابية. كل حكومة، وإن كانت منبثقة عن انتخابات عامة، لا يمكنها أن تصم آذانها أمام صوت الرأي العام؛ لأنه هو الذي يساير تدبيرها وتسييرها للشأن العام، فإن أصابت فهناك رضى وإن سنّت سياسة تمس بمصالح المواطن وبقدرته الاقتصادية أو حتى تمس منظومته الأخلاقية والوجدانية فبطبيعة الحال سيصدع الرأي العام بالاحتجاج ضد هذه السياسات. المنطق الديموقراطي يفرض التفاعل مع هذا الرأي بكل إيجابية وبأساليب ديموقراطية، وعلى رأسها الحوار والتواصل، من أجل الإقناع والاقتناع. وكما أشار إلى ذلك هابرماس حيث يرى أن الفعل التواصلي يأتي لتجاوز العلاقات الاجتماعية القائمة على الإكراه والهيمنة لبلورة علاقات اجتماعية سليمة قائمة على الحوار والنقاش في أفق تحقيق إجماع. مما يلاحظ على مستوى المشهد السياسي بالمغرب، أن صانعي القرار من السياسيين لا يتصرفون ولا يتخذون مواقفهم وفق منظومة محددة أو منطق محدد، بل يغلب على سياستهم الارتجال وعمل الإطفائي الذي يتعامل مع المشاكل كأحداث معزولة، لذلك يعالج مظاهر الدّاء ولا يبحث عن علاج مسبِّبات هذا الدّاء. ويمكن أن يكون أحد أسباب هذا النوع من التفاعل عدم اعتماد سياسيينا على علم السياسة وعلى العلوم الأخرى الموازية التي يمكن لأي سياسي متمكن أن يتسلح بها في تدبيره للشأن العام. بل إن الأمر يتعلق حتى بعدم التفكير، لأن كل ما يقوم به سياسيونا هو تنفيذ ما يصدر عن مراكز القرار غير المرئية، أو ما يحلو لهم تسميته بالسلطات العليا. وكثيرا ما يفضحون ذلك بانفعالاتهم حسب بعض الظروف، حيث يصرحون بأنهم لا يحكمون أو بأنهم إنما ينفذون، أو يلومون ما يسمونه بالدولة العميقة، أو تتم الإشارة إليهم بالمجهول وبمسميات يوهمون بها المواطنين أنهم عاجزون عن تنفيذ البرامج الانتخابية المتعاقد حولها. لكن، رغم ذلك، فهذه المواقف وهذه التصريحات غير مقنِعة، لأن الرأي العام ينظر إلى الأمور نظرته الخاصة، والمؤسَّسة أساسا على التمتع بحقوقه والتمتع بالتنمية الموعودة وبالكرامة الإنسانية التي تعتبر قيمة كونية تُثري قيم المواطنة الحقة. هذه المفارقات بين منظور الحكومة ومنظور الرأي العام هي التي تخلق ما يسميه السياسيون بالتوتر وبالمساس بالتقاليد المرعية وتجاوز الخطوط الحمراء، وتحدّي السلطات وما إلى ذلك من التعابير الجاهزة والتي تستهدف تكميم الأفواه وقهر المقهورين. وغالبا ما تنتهي الأمور بقمع الحركات التي تعتبر نفسها تعبيرا عن الرأي العام. كما أن مسألة صراع الأجيال، هي الأخرى، بدأت تأخذ أبعادا ملموسة في التدبير السياسي بالمغرب. فالشباب، اليوم، يتميز بعقليات حديثة متعلمة ومتنورة، وكله مُفْعم بالحيوية والنشاط، توّاق إلى الحرية وتحقيق طموحاته ولا يُطيق أن يكون تحت وصاية اي أحد، خصوصا شيوخ السياسة. والدليل على أن شيوخ السياسة لا يعترفون بأن المغرب تغيَّر وبأن الشباب يجب أن يأخذ المشعل هو تحايُلهم على القوانين السياسية وإخراجهم لوصفة لائحة الشباب في الانتخابات البرلمانية وكذا لائحة النساء، بنفس الدّهاء، وهذا موضوع قائم بذاته. لماذا؟ لأنهم يريدون ترك الشباب والنساء تحت وصايتهم، نعم نقْبَل بتمثيليتهم ولكن لا نأخذ برأيهم، فهم عبارة عن ديكور نزيّن به سياستنا لنبيّن للرأي العام، الوطني والدولي، أن لدينا مشاركة للشباب والنساء، وهذا نوع من الديكتاتورية المقنّعة. الشباب والنساء يجب أن يكونوا متواجدين على المستوى الانتخابي كمنتمين لأحزاب سياسية بكامل العضوية وبكامل حقوقهم السياسية وليس عن طريق لائحة محددة ومحدودة، أصبحت بالنسبة للكبار مَنّاً على الشباب والنساء. هذا الأسلوب ضرب للديموقراطية وعدم اعتراف بالشباب والنساء كمكونات أساسية للمجتمع وقادرة على حمل المشعل ونابضة بالحب والإخلاص للوطن، ويجب أن تُعطاها الفرصة للإبداع والابتكار ومسايرة العصر الكوني. الشباب المغربي، رجالا ونساء، هم الذين يجب أن يراهن عليهم للقطع مع الماضي بكل سلبياته لاستشراف مستقبل المغرب الزاهر والمنشود. المغرب، اليوم، في أمس الحاجة إلى أبنائه من الشباب الذين يعيشون الزمن الحديث، والذين يتناسب تفكيرهم وطموحهم مع زمنهم وعهدهم، لم يعد مقبولا أن تفرض عليهم الوصاية من طرف الشيوخ، فأينهم من الشعار: "كل صعب على الشباب يهون"..الشباب لا يريدون لائحة للشباب وكوطا في البرلمان لأن هذا الأسلوب يقزمهم ويجعلهم في موقف ضعف، ولا يترك لهم مجالا للفعل الحقيقي المبني على القوة الاقتراحية والإبداعية التي تجعل الوطن والمواطن فوق كل اعتبار. واستيحاء لأفكار هابرماس حول ما سماه بالديموقرطية التشاورية " لأنه في التشاور يُعْطى للآخرين الحق في الكلام والنقد ورفع ادعاءات الصلاحية وتقديم اقتراحات جديدة بخصوص القضايا المطروحة في الفضاء العمومي، وفي ظل هذه الصيرورة الخطابية المؤسسة على النقاش يتشكَّل الرأي العام والإرادة السياسية للمواطنين في المجتمع الديموقراطي".(3) يجب على سياسيينا أن يعلموا أنهم لن يستطيعوا أن يخدعوا كلَّ الناس كلَّ الوقت. المراجع: 1- ابراهام لنكولن 2- التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور- د مصطفى حجازي – معهد الإنماء العربي ط 4 بيروت 1986 ص 30/31 3- محمد الأشهب- الفلسفة والسياسة عند هابرماس ص 195/196