تبعا للقناعة المتجددة على مستوى الصلاحية العلمية بشأن التربية بوصفها عملية إنسانية تستثمر في المعارف والعلوم والتقنيات من أجل إدراك الكائن الإنساني بغرض تمكينه من اقتدارات ومهارات الولوج إلى الحياة وتصنيعها والإسهام في قيادتها. هذا يعني أن التربية من هذا المنطلق هي عملية إدراك الذهن الإنساني بكل مقوماته وفق جهود تتكامل من أجله المعارف والعلوم، بالتركيز على المربي من حيث الهوية والمكانة والمعرفة المتنوعة والتكوين العلمي المتجدد والميسر للإدراك والموسع لفرص وآفاق التدخل التربوي. إن التفكير بالتربية وتأهيل القيمين عليها مسؤولية أخطر وأشد حدة من الدفاع الوطني. وعليه، لا يمكن اختزالها في تعلمات تنتج شغالين يحتاج إليهم المتحكمون في أسواق الشغل الآنية، ولا يجوز أن توظف في إنتاج التابعين الممتثلين للقيم السائدة، بل الأمر يتجلى في إعداد ذوات فاعلة وأشخاص وجماعات متحررة من كافة ضروب القلق والحاجة والجشع والتسلط والنزوع نحو الاستحواذ والتملك. مهمة التربية تيسير كل الفرص والآفاق نحو المرء ليدرك كينونته ويعمق بشكل صحيح تمثلاته للحرية والتعبير العملي عنها فكرا وإبداعا وإنتاجا متجددا على درب بناء الحضارة الإنسانية بالحرص على توظيف قدراته ومواهبه ومهاراته في التفكير بسعادة الكون والكائنات، والعمل المتواصل من أجل صيانتها وارتقائها على نهج المحبة التي لا تتحقق إلا بإدراك الآخر، لا بالمعنى الانتهازي أو الاستغلالي أو التحكمي، وإنما بالتواصل الفعال معه وفهم مجاله الحيوي وتدعيم كل الجهود المبذولة من أجل تمكينه. فمن الصعب القول بتربية لا تركز على الإدراك الجيد لشخصية المستهدف منها بكل الأبعاد النمائية والأحوال المضمورة في الداخل والوقوف العلمي على جذورها ومستوى عملها ومدى تأثيراتها، عبر فتح مساحات التعبير عبر الإيجاز اللامتناهي في الأقوال والأعمال التي يستطيع المستهدف التعبير عنها دون اكتراث بما يسمى الانضباط، وخاصة عند عمليات بناء إدراكات القيم على العلمية التربوية له، فتعبيراته اللفظية والعملية كثيرا ما تسهم في إدراك التفككات والحوافز التي يتميز بها، وهذا يتطلب قيمين أقوياء ومفكرين بشكل مركز بالتربية علميا وعمليا للتمكن من الإجابات عن كافة الأسئلة بعيدا عن كل غموض أو اختزال، لأن الغرض هو بناء علاقة إنسانية تحتاج إلى العمل التربوي من المهد إلى اللحد، لا تختزل فيها مسارات الفرد في التعلمات المتعلقة بفك الرموز ولكن بمسار بناء الشخصية وتمكينها من اقتدارات الولوج إلى الحياة. فالتربية اعتقاد بالحياة والإدراك الجيد للحاضر والإيمان بالمستقبل، فهي الحرث بعلم والتدبير بعلم والحصاد بعلم. ولا قدرة على القرابة منها إلا لدى الجاهدين من أجل الاستمتاع بكنوز القلوب. ففي ظل الأزمة الإنسانية التي تتعدد مظاهرها وتتنوع خلفياتها وإن اختلفت حدة آثارها جراء هيمنة الهو الأعلى المتمثل في السوق الذي يكافح في الإنسانية تحت شعار الكل قابل للتبضيع والتسليع والبيع والاستئجار، بما في ذلك الإنسان عبر مراهنته على لهايات التسلية ومناهج وبرامج التشكيل بدل التربية والتكوين والتمكين، تأتي لتستجيب لاحتياجات السوق وليس لمتطلبات انتقال الإنسان من خانة الفرد المستهلك إلى رحاب الشخص الفاعل، فالتنكيل والتنميط لا يسمحان بتاتا بتربية الانفعالات والتمكن من توازنها، كما يحولان دون اكتشاف الذكاءات والحرص على تطويرها مما يسهم في إعاقة امتلاك المرء لبوصلة الإدراك وملكة التروي والتدبير والتفكير المركب من قبل التعرف المحدود والمتخصص وتقبل الاختلاف الفكري والعقائدي والتنوع الثقافي وتوسيع أفق الإبداع والاختراع والإنجاز. إنها أزمة التربية والتكوين والشأن العام، والمستهدفون من ذلك يعرفون ما يطالهم وما يواجههم على المستويات الترابية والقطاعية والوطنية والعالمية، ولا يدركون إلا القليل عن معاناة وصعوبات عوالمهم الداخلية الشخصية. إن الأزمة أزمة غربة يعانيها الكائن الإنساني بمرارة داخل ما يمكن تسميته بالحميمية الأسرية جراء التربية على التشييئ المتخفية وراء شعارات مفروغة من أي محتوى ولا علاقة لها بالاحتياجات الحقيقية والملحة التي يحتاج إليها المرء، والتي لا تقبل بالتدرج في إشباعها، مازال الاعتقاد لدى العديد من الجاثمين على هذا الفعل الإنساني يختزلونه في تلك الجهود الرامية إلى تنمية ملكات الفرد ومساعدته على التكيف الإيجابي مع البيئة، أو أنها في غالب الأحوال تفيد النمو والتغير الذي يحدث في مختلف الجوانب الجسدية والذهنية والنفسية والاجتماعية للفرد جراء تأثيرات البيئة وما تفرزه من خبرات لديه وذلك يتطلب التخطيط لهذه العملية. إن التفكير المحدود بالتربية والعبث بها عبر ما يسمى بالسياسات العمومية، والذي يعدم حضورها وأهميتها في حياة المرء والجماعة والمجتمع لتكون الأفضلية في معالجة قضاياهم الخاصة والعامة عبر مخافر الشرطة ومنابر القضاء وبالإحالة على السجون والإصلاحيات وعلى مراكز الطب النفسي والعقلي في أحسن الأحوال، والذي كثيرا ما ييسر ترخيص استعمال المهدئات والمنشطات التي يراد لها أن تصبح من أكثر السلع المستهلكة في العالم، والتي لا تؤمن علاجا أو تأهيلا أو تمكينا، بل توسع نطاقات العنف والإحباط والانسحاب وتيسر سبل التطبيع معها وتكوين مشاعر وهمية للسعادة من خلال تناولها. فالكثير من الموارد الإنسانية التي تهدر في واقعنا المعيش سجينة الإدمان على الاستهلاك بكل صنوفه لتأمين شعور وهمي باللذة والسعادة ولو مؤقتا عبر تلك المهدئات أو من خلال الموارد المخدرة أو المسكرة والتخلص من وقع التوتر الذي أصبح قارا ومتفاقما لدى العديد من الناس ومن مختلف الأجيال والشرائح العمرية، فالغالبية تشكو من الآلام والضعف الجسدي والعجز عن القيام بالأعمال جراء اضطراب التوازن الانفعالي الذي ينعدم في أجندة القيمين على صياغة العملية التربوية كفعل إنساني عمومي يسمع ويقرأ المتتبع لأحواله عبر حقب متعددة بأن تحتاج إلى التخلص من الارتجال وإقصاء البحث العلمي في التشخيص الموضوعي والميسر لإدراك الإنسان المستهدف من العملية التربوية على المستويات الذهنية والانفعالية. إن معالجة قضايا التربية والتكوين لا يمكن أن تتم من خلال خطابات حميمية أو قوانين صادق عليها المشرع أو حتى تأمين بنايات وتجسيرات واحتياجات مادية، بل لا يمكن الاطمئنان لمردوديته بإعداد مواثيق دولية أو وطنية أو من خلال نصوص دستورية تنهل من تجارب إنسانية أخرى، ما دام اختزال هذا الفعل في محور من أهم محاوره وهو التعليم داخل الصف الدراسي الذي لا يكفي لتحقيق غايات الإدراك والتمكين التي ينشدها الفعل التربوي، والذي تضيق أنفاسه وتتلاشى طموحاته عندما يحاصر داخل العمل المدرسي الذي لا يصل إلى تغطية عشرين بالمائة من هذه الثورة معرضا للهدر والتبديد في غياب فعل تربوي يغطي كافة مرافق الحياة اليومية ويرتقي بالمرء من خانة الفرد إلى رحاب الشخص الفاعل. ولنقول بصدق تمليه قيم التفكير والعمل بالواجب نحو الإنسان وسعادته شخصيا ومجتمعيا بأن غالبية المشاريع التي تهم ما يسمى بالتربية والتكوين تتسم بهيمنة هاجس سوق الشغل، وهي هيمنة كثيرا ما تعكس التوتر والقلق والضغط الذي يعانيه القيمون على صياغة تلك المشاريع الذين غالبا ما تدفع بهم أحوالهم إلى التفكير بعواطف قد تستجيب للمتحكم في سوق الشغل الذي لا يتسم بالاستقرار وقد ينتج شغالين يوظفون للوفاء باحتياجات مؤقتة، ولكن لا تسمح بإعداد مفكرين أقوياء على الإسهام في خلق وتوسيع آفاق الحياة السعيدة، بما في ذلك إبداع أسواق عمل أكثر إنتاجية وفعالية في رفع تحديات الحاضر والمستقبل. وإذا كان من غير المفيد التفكير بالتربية عبر الوازع العاطفي أو المصالحي والسياسوي أو الربحي تحت يافطة تعليم نافع من أجل شغل منتج، وهو شعار براق يحفز على الإقبال والتعاطف في ظل واقع توظف فيه العطالة كأداة من أدوات الإدارة بالأزمات، وهو ما يبدو واضحا من محتويات المادة الثامنة عشر من مشروع قانون الإطار رقم 17-51 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي التي تختزل الهدف من الإصلاح في انفتاح التعليم على المحيط الخارجي بالتركيز على ملاءمة المهن التعليمية والتكوينات مع حاجات سوق الشغل، وهو رغبة في توظيف جهود المدارس ومراكز التكوين المهني بمختلف مستوياتها، إلى مجرد منشآت لإنتاج القوى الخدمية حسب احتياجات السوق الذي يرفض التفكير والإبداع، فالتعلم حق من حقوق الإنسان لكن بالمواصفات والأهداف والغايات التي تحددها الجهات المتحكمة في السوق، والتي تتطلب خداما يتقنون لغات السوق على المستوى العملي وليس لغات التواصل الحضاري والبحث العلمي ولغات فك العزلة عن الأشخاص أصحاب القدرات المختلفة الذين يتطلب إدراكهم الإتقان الجيد والمتجدد للغاتهم الخاصة، ومنها مثلا لغة الإشارة للتعامل مع فاقدي القدرة على السمع أو الكلام أو هما معا، أو لغة برايل للتعامل مع فاقدي أو فاقدي البصر. إن السعي إلى تشكيل الإنسان بالتركيز على تعميق صيغة الفرد لديه هي إسهام في توسع الاضطرابات الانفعالية لديه، وإعاقة توازنها وعرقلة كبيرة نحو كل تطور لاقتداراته الفكرية والإبداعية والعملية والعلائقية. وهي صعوبات لا تتحدث عنها المشاريع القانونية والسياسات العمومية القطاعية والتكاملية التي يختصر كل همها في صياغة متنفسات للتخفيف عن عاتق الميزانية العامة من كلفة الإنفاق المخصص للتعليم، ولم تلب ذلك التخلي عن المجانية في تقديم هذا الحق الطبيعي لكل إنسان وحصره في المراحل الأولى من التعليم الأولي إلى حين الإعدادي. فليس هناك قلق بشأن عوامل الاضطرابات التي تطال الواقع الفردي والجماعي والمجتمعي، ولا يأبه بالتفكير والبحث عن تشخيصها ومعالجتها عبر النظام الذي لا يمكن التحكم فيه جراء الصلة الوثيقة التي ترطبه بالطبيعة الإنسانية والطبيعة البيئية التي تحتاج باستمرار إلى إدراك متجدد يصعب محاصرته لأن في ذلك محاصرة للمرء والحيلولة دون انتقاله من خانة الفرد إلى دائرة الشخص ثم إلى رحاب وفضاءات أعلى تتطور وتتوسع بتوسع ونمو إرادة الإنسان. وهذا يتطلب معالجات جديدة لا تقبل الاستحواذ، معالجات تؤمن العمل التربوي المنتج للمفكرين والمبدعين الذين يستطيعون الإسهام المتكافئ في قيادة الواقع بدل الاقتصار على الحرفيين ومشغلي الآلات. معالجات تؤمن الاستقلالية في التفكير والعمل لصالح الحضارة الإنسانية وليس لأجل هيمنة السوق. فالتربية كعملية إنسانية تعتني بالمرء منذ المرحلة الجنينية وإلى غاية مغادرته للحياة الدنيا بالتركيز على تمكينه من التميز والإبداع اللذين يصعب على أي مجتمع التقدم من دونها مهما كانت ثرواته المادية. وهذا التمكين يتطلب تفكيرا مركبا يعتمد على البحث العلمي التكاملي لتيسير الإدراك العميق لشخصية المستهدف من العملية التربوية. وهذا يصعب تحقيقه من قبل ذوات تحظى بالمساعدات الاجتماعية وتحولها من موقع ليس من النافلة إلى مكانة الفرض. فالأمر يستدعي ذواتا فاعلة طبيعية واعتبارية قوية على إعطاء التربية عمقها الإنساني المتحضر، والذات الفاعلة التي نحتاج إليها في العمل التربوي ليس بالإنسان الكامل أو الاستثنائي ولكنها الشخصية التي يقوم أداؤها الفكري والعملي والتقييمي على قواعد العناية بكل أبعادها الفلسفية والأخلاقية والدينية والعلمية والتقنية. إنها الذات القوية على تحليل شخصيتها يوميا والتحليل الذاتي كما يقول إريك فروم، لكي يدرك بشكل دائم وفعال نفسه طوال حياته. فهو الفاعل المتعمق على درب البحث العلمي المتجدد لشخصيته بكل بواعثها ودوافعها اللاشعورية، قوي على رصد مقومات قوته ومكامن ضعفه ولأهدافه وطموحاته وتناقضاته واختلافاته. فهو الذي يحلل نفسه بين فعل ممارسة التركيز والتبصر، يكلفه من ثروته الزمنية تسعين دقيقة في اليوم، يجمع فيها بين مزاولة التركيز والتأمل إلى درجة يصعب الاستمرار والحضور الفعال من دونها، لأن الأمر لديه يتعلق بتكوين ذوات فاعلة قوية على العناية فكرا وعلما وعملا بسعادة الإنسان وليس قطيعا من الكائنات الحية المحرومة من أي رصيد سيكولوجي يفسر لها معنى الحياة، ولا تنهج التهافت على الريع مهما كانت التكلفة المعنوية والتضحية بحقوق المجتمع بكل أجياله. وعليه، لا تنحصر مسؤولية هذا الصنف من المربيين في الحرص على الوفاء بمتطلبات مستهدفيهم فحسب، بل يكرسون العناية بارتقاء مقومات شخصياتهم وتحصينهم من الوقوع في التشييئ واستباحة الآخرين وتبخيس الإنسان وتحديد سعر للاتجار به عبر تشديد الكيس عليه في غياهب سجون الاستهلاك وجبروت القروض ذات الفوائد الفاحشة وبراثن الذعر والحرمان وسعير الاضطرابات والتشنجات النفسية، وفقدان مستلزمات الإدراك والتفكير والانهزام التام للأمراض الانتهازية النفسية والجسدية جراء الحرمان من الحق في التمنيع النفسي والاجتماعي والمعرفي. إن المربي القوي على انتشال الإنسان المعاصر في هذه الأوحال المقاومة للتحضر ليس مدرسا أو قيما على عمل تربوي في منشأة أو مركز للأطفال أو الناشئين أو الشباب، بل هو الذات الفاعلة التي يحتاجها المجتمع لقيادة كل مكوناته الثقافية والسوسيواقتصادية والسياسية القوية على استتباب ثقافة التحرر من كافة مواطن الاحتجاز والسجن النفسي والسوسيواقتصادي بالتركيز على النهوض بالذهن وتيسير سبل الإدراك والاقتناع بضرورة الانتقال من خانة الفرد البيولوجي إلى رحاب الذات الفاعلة المتصالحة مع كافة مكوناتها والقوية على الحضور المنتج فكرا وعملا في كل معارك الارتقاء بسعادة الإنسانية. فغاية المربي هنا تحرير الإنسانية من كافة العوائق المسماة بالنخب والنظم والقوانين والمناهج والبرامج المثبطة للتفكير والإبداع والابتكار المعرفي والتقني وجعله حكرا على قلة توظفه في بسط هيمنتها واستبدادها والتحكم في حاضر ومستقبل الأجيال وافتقادها للمتاعات الجسدية والنفسية والاجتماعية والحضارية وإغراقها في الفردية المؤطرة بالنرجسية والمدبرة بالعنف والمخدرات والسطو والإدمان على سوق سموم الاستهلاك مهما كانت تكلفتها، والتي تستفزهم عبر الإشهار والمهرجانات المشوهة للقن واللقاءات العصبية المسيئة للرياضة والمقررات الدراسية الخالية من العلم والمكرسة للتخلف والحركات الداعية للانقسامية والتمييز العنصري بين مكونات المجتمع بناء على وقائع وحسابات لا مسؤولية للأجيال الإنسانية الجديدة عن مخلفاتها. إن غاية المربي العمل على علاج وتأهيل وتمكين ضحايا النظام التربوي السائد ومقاومة كافة التدخلات المكافحة من أجل تعميق تخلفه متخفية تحت يافطات مشبوهة لا علاقة لها لا بالإصلاح ولا بالتقدم لأن في ذلك ضررا حقيقيا بمصالحها المختصرة في حساباتها البنكية داخل البلاد وخارجها، وفي كيفية الاستحواذ على القروض والمساعدات وتحويلها إلى فرص يتم اقتناصها عبر الشركات المهيمنة على كل الصفقات العمومية الوطنية والترابية. إنها مقاومة حضارية لتحصين الذات الإنسانية ضد كل السموم التي تستهدفها وتعيق نموها بكل أبعاده وتحولها إلى مجرد كائن عدواني مضطرب لا مكان في اهتماماته للمروءة والمعرفة والحب والعمل والفكر والإبداع والمكان والزمان فكريا وعمليا. وهو سبيل قد يرضي المستبد والنخب المتخصصة في تدبير الاستبداد...، لكنه يضع المجتمع برمته في خطر التمويت النفسي والاجتماعي الذي كان وسيلة من وسائل الهيمنة السياسية في جهود سابقة حسب إريك فروم، سينتقل إلى زلزال إنساني وفي أعلى الدرجات على سلم الخطر يصعب مجابهته بأي زلزال آخر سياسي أو اقتصادي أو أمني أو إداري. فهل بالإمكان فتح الحوار الحر والطليق والملزم لكافة أطرافه على المستويات المحلية والإقليمية الوطنية والقطاعية بإشراف علمي مستقل عن كل ما هو سياسي أو إداري أو اقتصادي أو إثني يمنح للمرء في مختلف مراحل حياته معارف علمية وتقنية متجددة يرفع من وعيه بأن التربية عملية إنسانية توظف المعارف والعلوم والتقنيات من أجل إدراك الإنسان وتمكينه من اقتدارات ومهارات الولوج السليم والجيد والمتجدد للحياة وتصنيعها والإسهام في قيادتها؟ هل بالإمكان الإقدام على قيام الحياة العامة بكل أبعادها ومؤسساتها وأجهزتها على قاعدة التربية وفق المنظور السالف ذكره؟ هل بالاستطاعة وضع حد للعبث بالتربية والتكوين وتحريرها من الاحتلال وعملائه في الداخل؟ إن تحديات الواقع لا يمكن رفعها وفق تصورات الوهم، أو أطماع السوق، أو بالاعتماد على ما يسمى بالنخب المنفعلة أو الممتثلة، ولكن بالتربية والتكوين القوية على تدشين البلاد لمرحلة حضارية جديدة قوامها المعرفة والفكر والإبداع والاختراع بذوات فاعلة بالفكر والمعرفة العلمية والتقنية. الذوات الفاعلة كمنتوج خالص لتربية وتكوين تستطيع باختراعاتها وابتكاراتها ومعايير أنجع الارتقاء بديناميات المجتمع وتواجده الفعال داخل مسارات الحضارة الإنسانية. هذه الذوات الفاعلة هي الأقوى على إبداع منظورات جديدة للمجتمع والمشاريع المجتمعية وللمؤسسات والأجهزة والثقافة والتدين والعدالة والإنصاف والأمن، بالإضافة إلى الاقتصاد والسياسة والتقدم الحضاري، لأنها ذوات قوية على إنتاج المعرفة وتقاسمها مع الآخرين وتحرير القدرات لديهم وعدم محاصرتهم في حدود استعمال المعرفة أو استهلاكها فقط، بل بتوسيع السبل لإبداعهم لمعارف علمية وتقنية وإبداعات أرقى نجاعة وإنتاجية. إن الذات الفاعلة التي يجب توخيها من التربية والتكوين لا تقبل المجتمع العمالتي التابع الخاضع لمتحكمات المجتمع المفكر والمخترع والمنظر والقائد الملهم، المتبوع الذي يقوده من يسميهم أحد الوزراء الأمريكيين السابقين "إريك A.REICH" "المتلاعبون بالرموز". فالذوات الفاعلة لا تقبل بمجتمع التلاعب بالرموز من لدن ما يسمى بالنخب الأوليغارشية المحتكرة لمقومات الفكر والإبداع والابتكار والجثم على المقدرات والمعلومات المتعلقة بمصير المجتمع ونسميها أوراقا واستراتيجيات ومفاهيم وخبرات وصناديق سوداء، فليس هناك تقدم لأي مجتمع معاصر يقوم على نخب متخصصة ولكن على الذوات الفاعلة ذات التخصصات المتكاملة التي ترفض التمييز وتنشد تأمين التمكين كحق من حقوق الإنسان المتمثل في امتلاك القدرات والمهارات وكافة شروط إنجاز الفعل الحضاري بثقة وأمانة وعلمية متجددة لا تقبل بتحكم السوق المنتج للأحقاد الاجتماعية والظلم الاقتصادي أو الترف المنتج للتخلف الفكري والتبلد الحضاري كما هو حال البلاد المترفة طبيعيا والفقيرة فكريا وعلميا. إن الإرادة المتطلعة إلى تشييد مجتمع الذوات الفاعلة القوية على تصنيع المعرفة وإنتاج الفكر والعلم لا تقبل التمييز في التربية والتكوين بين أبناء المجتمع الإنساني لأنها تصبو إلى التكامل مع المجتمعات الإنسانية الأخرى، وليس السيطرة عليها أو الخضوع لها. فهل هذه الإرادة متوفرة في التوجهات الحالية؟ بكل تأكيد لا، بدليل أن القيم على السياسة خاضع للمتحكمين في السوق الذين أفرغوا ما يسمى بالنخب عامة، والتكنوقراطية خاصة، من كل محتوى قيمي نبيل وحولوها إلى عصابات للنهب والاستحواذ والهيمنة واستتباب الإدمان على الاستهلاك وامتهان القدرات واحتقار الذكاءات والعجز عن القيام بأبسط الأعمال جراء التربية على الاستلاب والانسحاب والعنف والتحايل على العيش. كما يتجلى في المقررات (الإصلاحية) الجديدة التي فرضت لتدريس أطفال اليوم لتأمين تبعيتهم للقيمين على السوق وخدامهم من السياسيين والإعلاميين والجمعويين والنقابيين، ويعطى المحسوبين على البحث العلمي وعلى الفن وعلى الرياضة والثقافة وحقوق الإنسان الكثير من المفسدين المتسترين وراء الحداثة المتبرئة منهم براءة الذئب من غيض يوسف. إن الدعوة إلى التركيز العلمي والعملي الرسمي والطوعي على بناء وتأهيل الذوات الفاعلة كشرط للانتقال الحضاري تستدعي كافة القوى الغيورة على الإنسانية إلى الانخراط في ميادين حضارية من أجل إسهامات إيجابية في صياغة عمل تربوي قادر على بناء ذوات فاعلة قوية على تخليص الإنسانية من التسلط والاحتكار والحرمان واستغلال المعرفة والعلم والتقنية في إعدام التمكين الإنساني وهيمنة نخب الاحتيال التاريخي التي تشكل العائق الحقيقي أمام نمو شخصي أو جماعي أو مجتمعي متحضر.