تعد العناية النفسية الاجتماعية السبيل المتجدد والسليم لانتقال الكائن الإنساني من خانة الفرد إلى دائرة الشخص، المفكر بالواجب والمبدع والفاعل الأقوى على صناعة علاقات إنتاج جديدة، يقيم مؤسسات جديدة أقوى على الحضور القيادي للحضارة الإنسانية. لذا نعتقد جازمين أن الاستقرار الأمني والسياسي والتماسك في المجتمع، لا يمكن إدراكه إلا بالتركيز على الإنسان وإدراكه وتيسير سبل أداء رسالة الخلافة التي ارتبطت به والمتمثلة في بناء دولة الإنسان واقتصاد الإنسان، وأمن الإنسان وحضارة الإنسان المتحررة من كافة العلاقات الإنتاجية الجائرة. وهذا ما يتيح الفرصة الى الذين يتطلعون إلى تطويع الواقع وقيادته بنزاهة القيام بذلك. لكن سجناء الأمر الواقع الممول عبر اقتصاد الريع الذي أصبح يشكل خطرا وعائقا أمام كل جهد اعتنائي ينشد بالانتقال من المساعدات الاجتماعية إلى العناية النفسية الاجتماعية التي تيسر سبل نسج العلاقات الاعتنائية بين الناس وبغض النظر عن اختلافاتها وتباعد وجهات نظرهم ومنحدراتهم الإثنية والثقافية ومراكزهم الاجتماعية، أكثر تقبلا وصدقا وتضامنا وفعالية وثقة في بعضهم البعض. غير أن واقع الحال الراهن كثيرا ما ينم على أن هناك توجه نحو تمويت الإنسان نفسيا، وهو أمر صعب لأن التمويت النفسي يشكل خطرا مهددا للقاتل والمقتول وللمجتمع برمته، وإذا كان هو تعميق حدة الأمية والجهل ومعاصرة تفكير الفرد الإنساني في حدود احتياجات البيولوجية، فإن عدم تحديث وتطوير معايير ومناهج وبرامج الدولة والجماعات الترابية والحركة الجمعوية والقطاع الخاص على قواعد البحث العلمي التكاملي والتفكير المركب غالبا ما يسهم في تعسير مهام قيادة الحياة الشخصية والجماعية. فما يستنتج عبر العديد من المعاينات الميدانية لواقع المجتمع هو ضعف قدرات هذه الأجهزة بكل أصنافها على الإدراك العلمي السليم لهم، وعليه تقصر وظائفهما الضبط والردع والإخضاع والتبعية بدل التأهيل والتحرير والتمكين، فغالبية القيمين على هذه الأجهزة يعتبرون القانون بمعناه التقليدي المفتقر لكل الأبعاد الحقوقية والإنسانية والحضارية هو الملاذ المخلص من كل صوت أو تصرف يعبر عن معاناة أو عوائق تحول دون استمتاعه بالعناية النفسية الاجتماعية لاستكمال وارتقاء نموه الشخصي بشكل متوازن . فبدل الإدراك العلمي للأفراد والجماعات وفق دراسات علمية يستحضر فيها النفسي والاجتماعي والبيئي والتاريخي والجغرافي والزمني، كمدخلات أساسية لتنظيم الحوارات وصياغة التشارك في التعامل مع الأزمات وتحويلها إلى فرص وأفاق واعدة لتأمين الاطمئنان والأمن والتماسك الشخصي والجماعي والمجتمعي كثيرا ما تنزلق إلى كيل التهم بالخيانة والقول بالمؤامرات الخارجية وهي ادعاءات قد تكون صحيحة لكن دوافعها غالبا ما تعود إلى غياب إدراكنا للواقع بشكل يحتكم للعلم والإنصات والتواصل التي قد تيسر السبيل إلى صياغة نموذج فعال للتمكين الإنساني المتحرر من الاستبداد وإنما له ولأحفاده وفي مقدمتهم الفساد. الأمر الذي يتطلب التخلص من الارتجال في مواجهة الصعاب والابتعاد عن الحلول الفردية أو القرارات المطبوعة في الغرف المغلقة والقول محليا وإقليميا بالحلول الجماعية المؤسسة على الإنصات والحوارات الجماعية القوية على إشراك الجميع بحرية ونزاهة واستقلالية التفكير وإبداء الرأي المختلف، المختلف وهي أمور مبعدة داخل الأسر وفي المدارس والنوادي والملاعب والمساجد وفي المنابر ...الخ وفي علاقة الحكام بالمحكومين والإدارة بالمرتفقين. فعندما تشتد الأزمات يتم علاجها باستباحة المحرم وتحويل العيوب إلى فضائل إلى أن أصبح من العسير التمييز بين الفساد والإصلاح وتحويل الغدر إلى فن والخداع مفهوما مرادفا لعلم السياسة والاختلاس وتهريب الأموال في الأعمال، واعتبار النفاق والرياء فضيلة والكذب آلية لتلطيف وتطبيب الخواطر وعندما يطفح يحال الآمر على القضاء ويحال دعاة المناعة الرافضة لتشيء الإنسان إلى أصحاب تصرفات إجرامية يحالون على السجون تقصد تليين موافقتهم وإعدادهم لمصالحات قد يتم الإعداد لها على المدى البعيد، وقد لا يقبلون هؤلاء بذلك فيعيشون الحياة العقابية ليس كوسيلة تفتح إمكانيات التصالح مع الذات وصيانة دستور شخصي جديد وامتلاك اقتدارات ومهارات وممارسته التمكين الإنساني بعد انقضاء فترة السجن ولكن بغرض إبعادهم وتقديمهم كمثال لكل من سولت له نفسه الخروج إلى الشارع والمطالبة بالحقوق والحريات واستعراض الرأي المخالف مع الأزمات السوسيو اقتصادية قد تحقق ردعا، ولكنها لا تؤمن أمنا واستقرار متطور بشكل متكافئ. وعليه فالمطلوب العودة العلم والبحث العلمي، والتركيز على معطياته في صياغة المعالجات السلمية بعيدا عن المؤسسة القضائية والأجهزة الأمنية التي يجب المحافظة على سمعتهما وتقوية احترامهما وتقوية جهود الدفاع عن استقلاليتهما ونزاهتهما والحرص على ارتقاء أحكام القضاء التي لا تعني في عمقها مؤاخذة شخص على فعل أو امتناع مخالف للقانون أو انتزاع حق من سالبه وإعادته إلى صاحبه الشرعي، بل هي بما تملكه من فوق الإلزام إسهاما متميزا في تصنيع الحضارة كما يتبن من انعكاسات محتوياتها على الواقع التشريعي والسياسي والاقتصادي والتربوي والاجتماعي والبيئي . وفي هذا السياق نتساءل هل من الممكن اعتماد التواصل الفعال في علاقة الإدارة كقيم إذا تم على الفعل العمومي والأطراف المعنية به في استعراض الصعوبات والخلافات والتداول بشأنها على قواعد الندية والاحترام والإنصاف المفكر بالأسلوب العلاجي الأنجع والمحدد في المكان والزمان والأهداف والمستهدفين الشركاء؟ . هل يجوز ترسيم هذا النهج كأداة لتدبير الفعل العمومي وبرمجته إقليميا وجهويا حسب كل قطاع وبناء على الحقوق والاحتياجات الجغرافية والفئوية من أجل تعميل الأفكار وإبداع الحلول وإنجاز الأعمال وتقسيم الأداء؟ . إن الأمر هنا يحتاج إلى عناية نفسية اجتماعية مستدامة تؤمن للجميع التمكين الإنساني القوي على صيانة الإنصات للأفراد والجماعات والمجتمع ، الإنصاف المتخلص من كل مفاهيم وبرامج ومناهج ما يسمى بالمساعدة الاجتماعية التي لا يمكن القول بها في غياب الحرمان من التمكين كشرط أساسي للتواجد الإنساني. وبالمغرب، يستشف من خلال أنماط التفكير المهيمن كمفهوم من مقومات علاقات الانتاج السائدة عبر تشويه المعرفة واحتقار العلم وتحريف الفكر وتنميط الإبداع وتسطيح العلاقات الإنسانية، وهي معطيات تجعلنا أمام أناس يرزحون بكيفية لا تبعث على الاطمئنان لحاضر ومستقبل المجتمع جراء الحصار الذي يحول دون الانتقال من خانة الفرد الإنساني إلى رحاب الشخص الإنساني, فالمتتبع لحالة نزلاء الشوارع من مختلف الأعمار ومن الجنسين ونزلاء السجون والإصلاحيات والباعة المتجولون والأطر المعطلة كثيرا ما يلامس استتباب الاتجاهات السوداوية وأحاسيس الاحتقار والنبذ والسلبية وتعمق الرغبة في الهجرة والرحيل إلى بلد يسمح بتنفس الكرامة والحريات والحقوق الطبيعية للإنسان . في ظل واقع كهذا، لم تعد تنفع ضوابط القمع والمنع والعقاب السجنى ولا حتى الإعانات والتفضلات المناسباتية، إننا داخل مناخ استطاعت هذه الإفرازات النفسية وللاجتماعية السلبية والمنفرة إلى تضخم الصعوبات والكشف عن ما بقي مستورا من عورات علاقات الانتاج السائدة بكل أبعادها ونطاقاتها التي تقابل برفض مطلق وبمقاومة شرسة لا تتمثل في الحركات الاجتماعية المؤطرة. *أستاذ باحث في علم التربية والقانون