أظهرت نتائج الدراسة على المستوى الاجتماعي معاناة المترددين على السجن من انخفاض عدد الزيارات الاجتماعية لهم إبان الإقامة في السجن، وعدم التقبل الاجتماعي المفعم بالتحقير والحذر والحيطة والتهميش. وهذا يسهم لدى المترددين على السجن بنسبة 75 في المائة في انعدام الاستعداد والرغبة لديهم في الاستفادة من برامج محو الأمية والتعليم المدرسي والتكوين المهني والمشاركة في الأنشطة التي تقام داخل المؤسسة السجنية. وهناك خصومات نفسية مع العمل والتعلم والتواصل تتستر وراء عدم الرغبة وعدم القدرة، أو يتم تصريفها عبر الرفض أو العنف والتمرد الذي يطفو على علاقاتهم ببعضهم البعض أو بإدارة المؤسسة. ويعاني هؤلاء من شدة الخوف المبطن بعلامات الغضب واضطرابات النوم والأكل واستمرار القلق واضطراب التركيز؛ فقد أظهرت هذه الدراسة أن هناك علاقة دالة بين التردد على السجن وانخفاض استجابات نوعية الحياة لدى المترددين على السجن، يتجلى في ضعف أو انعدام مستوى الطموح، والنزوع نحو الانسحاب من الحياة عبر تناول المخدرات وعدم الاهتمام بالصحة، وممارسة التعذيب على الجسد من خلال الوشم والجرح بالأدوات الحادة. كما أنهم لا يأبهون للوقت والمال ولا يكترثون لضحاياهم، ولا يدركون معاني الأسرة والقيم والدين والأخلاق، لكنهم يدركون عقوبات الأفعال أو الامتناعات ويميزون بين الجنحة والجناية، ويخبرون بشكل جيد الأوقات التي يمكن العيش فيها في الوسط العادي والأوقات التي تتطلب الإقامة في السجن، وهو ما يتأكد من خلال استجابات المترددين على السجن لنوعية الحياة الغارقة في السلبية، في تمثلاتها واتجاهاتها واهتماماتها الشخصية والعامة. وهذا يطغى بشكل كبير في الأوساط المتراوحة أعمارها ما بين 32 و54 سنة، فالمنتمون إلى هذه الأوساط يعانون من صعوبات التكيف بشكل حاد، وكل هؤلاء من العزاب أو المطلقين، مما يحرمهم من الدعم النفسي والاجتماعي والعاطفي الذي افتقدوه، أو لم يتم إشباعه لديهم خلال مراحل الطفولة التي اتسمت لدى أغلبهم بالضغط والقسوة. فنوعية الحياة لا تكون إلا أفضل عندما يعيش الفرد في أحضان الآخرين، لكن هذه الفئة من الناس محرومة من هذا الحق الذي يعتبر مصدرا من أهم مصادر الدعم لنوعية الحياة والصحة النفسية والسعادة، بسبب الاستبعاد الاجتماعي الذي يطالها داخل المجتمع العام؛ فغالبية السجناء من هذه العينة لا يدركون معنى لنوعية الحياة وحقوق الإنسان والخدمة الصحية إلا داخل السجن الذي يعتبر بالنسبة إليهم ملاذا من جحيم غطرسة الحياة داخل المجتمع العام، نتيجة غياب السند والمأوى وفرص العمل والافتقار إلى المؤهلات النفسية والمعرفية والتواصلية، مما يحول دون التمكن من إشباع الحاجيات السيكولوجية. وعليه، فالسلوك الإجرامي هو عنوان لعجز طال هؤلاء منذ مراحل الانتقال من الرحم البيولوجي إلى الرحم الاجتماعي المؤطر بالإهمال والعنف والعقاب والضياع. من الواضح، حسب هذه الدراسة، أننا جميعا في حاجة إلى إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي، كما أننا في حاجة إلى مراجعة سياساتنا التربوية والاجتماعية والجنائية بما يتلاءم وقيم التنمية البشرية، كمدخل أساسي لمجتمع المعارف والتضامن والعدالة؛ فمنتوجنا التربوي والاجتماعي والقانوني والعقابي، بالإضافة إلى منتوجنا السياسي، هو المسؤول أساسا عن ارتباط السلوك الإجرامي بانخفاض مستوى نوعية الحياة واضطراب الصحة النفسية لدينا جميعا، ولدى الأشخاص في سياقات صعبة بالخصوص. نعم، إننا في حاجة إلى التشبع بالقيم النبيلة، ولكننا في حاجة أيضا إلى الحريات الحقيقية في التفكير والاختيار والعدالة في التعلم والتكوين والمشاركة في تدبير الوطن والانتفاع العادل بخيراته.. إننا في حاجة إلى التنمية بدلا من أساليب الإيلام والعتاب والتشدد والتضييق على العيش. ونظرا إلى اتساع دائرة ارتباط السلوك الإجرامي لدى المتردد على السجن حسب هذا العمل وتمثله لنوعية الحياة، وهو تمثل ينبني على صحة نفسية معتلة، يبدو أنه من الواجب التفكير في القوانين والأجهزة الأمنية والقضائية والسجنية لكونها أجهزة استثنائية مختصة في علاج وتأهيل وإدماج المحالين عليها وفق مقاربات تنشئوية وتربوية قادرة على استيعاب الأعطاب وكل صنوف الخلل التي يعانيها واقع التربية والتنشئة الاجتماعية داخل الأوساط العادية. وإذا كان التفكير في الأمن والسلام والتنمية لا يمكن حصره في الضبط والزجر والإكثار من أجهزة القمع أو وضع أموال عامة رهن إشارة أشخاص لا قدرة لهم على توظيفها في تحقيق تنمية ذات فاعلية، فإن رسالة السياسة الجنائية عامة ورسالة السجون والإصلاحيات لا يمكن إنجازها إلا من خلال الفرق العلمية المتخصصة في الاستقبال والتلقين العلمي والتوجيه المحكم والمرافقة اليومية التي لا تترك فراغا لدى النزيل على المستوى الفكري والنفسي والروحي والاجتماعي والمهني والإبداعي.. فرق تركز على شخصية النزيل في الوصول إلى رصد قدراته واستعداداته وتمكينها من التحرر وتحفيز قابليتها للتواصل والتفاعل والتعلم والعطاء. نعم، إن المغرب يتوفر الآن على سجون وإصلاحيات تسمح لنا بإنجاز رسالة العقاب والإصلاح بشكل جيد، لكن القدرات التنظيمية والتأطيرية التي تستطيع تحقيق هذه الرسالة تحتاج إلى جرأة وطنية تستطيع تحقيق مساواة، على الأقل، بين فرق التدخل الأمني الخاضعة لتكوين خاص والتي توضع رهن إشارة مدير السجن من أجل التدخل في حال وقوع اضطرابات داخل المؤسسة وبين فرق التشخيص والتصنيف والتوجيه والعلاج والتأهيل والإدماج والتي ينبني عملها على التحليل العلمي لشخصية صاحب السلوك الإجرامي، نزيل السجن، والتركيز على شخصيته في صياغة المقاربات والبرامج الاستنباطية لمعالجة اضطراباته الشخصية. فحسب الخلاصات التي تم التوصل إليها في هذه الدراسة، يمكن القول إن الخروقات الماسة بحقوق نزلاء السجون والإصلاحيات، واتساع دائرة العديد من السلوكيات المخالفة للقانون، هي من الأمور التي تبعد هذه المؤسسات عن أداء رسالتها النبيلة، وتجعل العابثين بها يحولونها إلى محلات لاحتراف السلوكيات الإجرامية، خصوصا أمام منطق الزبونية والرشوة وغض الطرف عن الاختلاط غير القانوني بين الكبار والصغار والتطاول على المؤونة المخصصة للسجناء وغياب التطبيب... وهي أمور لم تنفع معها تقوية آليات التفتيش. هذه الكلمة يجب إعادة النظر فيها وتعويضها بالإنصات والتتبع والتوجيه، وإعطاؤها حق المبادرة في اقتراح تغيير تدبير محتوى العقوبة تحت إشراف المؤسسة القضائية المكلفة بتنفيذ العقوبة. كل هذه الأمور سببها، حسب هذا العمل، عدم الاكتراث والتساؤل الذي يحتاج إلى إجابات تحتاج بدورها إلى تقييم يطرح تساؤلات جديدة بشأن رسالة السجن. إننا لسنا أمام أناس مودعين بأقفاص خاصة، نروضهم حسب ارتساماتنا الخاصة، بل نحن أمام أشخاص يعانون من تمويت نفسي بشكل خطر عليهم وعلى المجتمع وأمنه وسلامته. ونحن هنا نتحمل مسؤولية الإحياء النفسي لهؤلاء وتمكينهم من امتلاك تمثل إيجابي لنوعية الحياة ينبني على صحة نفسية متوازنة. إن رسالة السجون والإصلاحيات هي رسالة إحياء النفوس التي أسهمت ظروف معينة في تمويتها، وكل تدبير أو تصرف أو قانون لا يأبه لهذه الحقيقة يعتبر إسهاما في التمويت السيكولوجي الذي يعانيه أغلب السجناء، فهل نستطيع إحياء النفوس داخل السجون والإصلاحيات، تلك الرئة المجتمعية التي تمتص الهواء الملوث وتضخه في كافة شرايين المجتمع دما. إنها القدرة على إحياء النفوس بدل قتلها، كما قال الله تعالى في سورة المائدة الآية 34: «من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا». نعم، هناك إكراهات مادية وقانونية وثقافية وبشرية تعانيها السجون والإصلاحيات، ومنها واقع الاكتظاظ الذي يعبر عن وجود أعطاب في السياسات السوسيوتنموية التي تحتاج إلى تشخيص ينشد تحريرها من مناهج وبرامج وأشخاص تنمية التخلف ويضعها في مقدمة المؤسسات القيادية نحو التأهيل والإدماج والمشاركة والانتقال بالحياة الإنسانية من واقع اللاتنظيم واللامعرفة إلى المجتمع المنظم والمهيكل، مجتمع المعرفة والإبداع والإنتاج. فكيف نتحدث عن إعادة إدماج شخص مضطرب لم يعرف الإدماج المفعم بالأمن النفسي والفيزيولوجي، وبالإحساس الإيجابي بالانتماء والتقدير داخل الوسط العادي الذي يعاني من خلل بليغ في مكوناته ومؤسساته. لا يمكن مكافحة السلوكيات والاضطرابات المرضية والإجرامية إلا من خلال القضاء على ذلك الخلل . لقد مكننا هذا العمل من رصد حقيقة الحياة السجنية وما يطالها من ظواهر وسلوكيات، وخاصة تلك المتعلقة بترويج الممنوعات داخل السجن ودور بعض الزوار وبعض العاملين في هذا الشأن، وما يستتبع هذا المنع من إنتاج لوسائل احتيالية تؤكد تشبع أصحابها بتمثلات سلبية عن نوعية الحياة واعتلالات بليغة في الصحة النفسية لديهم؛ فحسب هذا العمل هناك فئات من الناس يتناوبون على دخول السجن للتمكن من ترويج المخدرات بشكل مؤمن أكثر مما هو عليه الحال في الوسط العادي؛ كما أن من النزلاء من يعاني من الإدمان ويحتاج إلى علاج لا توجد مقوماته داخل السجون والإصلاحيات. وهذا الجانب وحده -المخدرات داخل السجون والإصلاحيات- في حاجة إلى المزيد من البحث العلمي المتخصص بغاية إيجاد النظم الوقائية والعلاجية الكفيلة بمحاصرته. وفي هذا السياق، قد نكون في حاجة إلى المزيد من التدقيق في نظمنا القانونية وأجهزتنا الأمنية والقضائية والسجنية، لكننا في أمس الحاجة أكثر إلى التدقيق في سياستنا السوسيوتنموية بالتركيز على شخصية الفرد الإنساني. وفي غياب ذلك يمكن الوقوع في المزيد من الانحلالات الإنسانية التي قد تتحول معها السجون إلى مجالات للحصول على العمل لحساب تجار الممنوعات الذين منهم من اكتشف أن السجن أداة للاغتناء عبر الاتجار في المخدرات والخمور، والكثير من السلوكيات الإجرامية. باحث في سيكولوجية الأشخاص في سياقات صعبة