توقعات أحوال الطقس لليوم الخميس    أصيلة: الشرطة تطلق الرصاص لتحييد شقيقين مسلحين هاجما المواطنين بسلاح أبيض    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    إسرائيل تقتل 5 صحافيين في غزة في قصف لسيارتهم التي تحمل رمز الصحافة    استشهاد 5 صحافيين بقصف نفذه العدوان الصهيوني في غزة    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    "الجديدي" ينتصر على الرجاء بثنائية    التوجه نحو ابتكار "الروبوتات البشرية".. عندما تتجاوز الآلة حدود التكنولوجيا    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    أخبار الساحة    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض "مستجدات" المشهد الحزبي...أو بعض ملامح الثورة المضادة..
نشر في هسبريس يوم 02 - 11 - 2011

وسط استغراب واندهاش وسط الرأي العام الوطني ، أعلن بحر الأسبوع الفارط عن تحالف لثمانية أحزاب ، اجتمعت فيه أحزاب يمينية، وأخرى محسوبة على اليسار، وعلى التيار "الإسلامي".. وبينها أحزاب تنتمي للأغلبية الحكومية، وأخرى ل "المعارضة"..؟؟. هذا على بعد أيام معدودة من موعد انتخابات مجلس النواب ، وقبيل المصادقة على القانون التنظيمي للأحزاب السياسية الذي يترجم مقتضيات لدستور برد الاعتبار للأحزاب ، وترقيتها إلى مستوى مؤسسات دستورية ، وجعلها عماد الحياة السياسية ، مع ما يصاحب ذلك من متطلبات تخليق الحياة السياسية وعقلنة المشهد الحزبي.. طبعا من حق كل حزب اختيار تحالفاته.. لكن الأحزاب تؤسس مبدئيا على أساس توجهات سياسية وبرامج لعرضها أمام اختيارات المواطنين ، وهذا مبرر وأصل وجودها ...واختيارات المواطنين تنبني على هذا الأساس..
فماذا سيكون اختيار المواطنين أمام "تحالف" هو خليط من المتناقضات ؟ إنه زرع للحيرة ، وطمس لكل قواعد العمل السياسي ، نتيجته المباشرة فقدان العمل الحزبي والسياسي لأي مصداقية ، وفقدان المواطنين للثقة في العمل الحزبي وفي اللعبة السياسية ككل.
وعندما يحدث هذا بعد المشاركة السياسية الواسعة للمواطنين في استفتاء فاتح يوليوز ، وتصويتهم الإيجابي المكثف على الدستور الجديد ، اقتناعا منهم بأن مرحلة سياسية تاريخية جديدة قد بدأت بآفاق رحبة لبناء دولة القانون والمؤسسات ، وإرساء الديمقراطية الحقة ، التي توفر الشروط الأساس للاستجابة للانتظارات الشعبية الكبرى في التنمية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وهو في ذات الوقت تعبير واضح عن عودة ثقة المواطنين في السياسة ، واستعدادهم للإ نخراط في أوراش الإصلاح الكبرى التي يؤسس لها ويفتحها الدستور الجديد.
عندما يحدث هذا ، وسط أجواء المد الشعبي نحو المشاركة السياسية ، عبر التنظيم ، والإسهام في العمليات الانتخابية.. فإن ذلك يعتبر- موضوعيا- عمل إجهاض لهذا المد الشعبي ، وتجليا من تجليات الثورة المضادة للثورة البيضاء التي أحدثها التقاء الإرادة الملكية والإرادة الشعبية حول القواعد الجديدة لبناء المغرب الجديد من جهة ، مؤكدة الدور الريادي للمغرب في العالم العربي والإسلامي في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان..
في الأخير ، مجرى الإصلاح والتغيير يشق طريقه ، أراد من أراد ، أو كره من كره ،لأن مصلحة البلاد ومصلحة الأمة تستلزمان ذلك.. وروح العصر تفرض ذلك..لكن هدر الوقت والجهد غير مقبول ، وتوضيح الرؤى أمام المواطنين ، مسؤولية كل ديمقراطي.
• "أسطورة سيزيف"..؟
يعيش المغرب لحظة سياسية دقيقة ومفصلية في تاريخه المعاصر ، ضمن دينامية وطنية للتحول في اتجاه بناء الديمقراطية الحقة ، غير منفصلة عن سيرورات الثورات الشعبية العربية التي انطلقت مع بداية هذا العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
وإذا كانت هذه الثورات الشعبية العربية ، عاملا من العوامل الأساس في الدفع إلى التعجيل بالشروع في إنجاز الإصلاحات العميقة التي كافح الشعب المغربي وقواه الحية التقدمية والديمقراطية من أجلها لعقود ، وتوظيف تراكمات المكاسب الديمقراطية في تحقيق قفزة نوعية تاريخية نحو بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات ، ومجتمع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ، فإن للمغرب مساره الخاص المتميز والمبكر ، عبر مد وجزر ، في إرساء الأطر العامة للبناء الديمقراطي .
فالمغرب منذ فجر الاستقلال ، مع نهاية الخمسينات من القرن الماضي ، اختار بشكل حاسم التعددية السياسية والحزبية ورفض بشكل قاطع نظام الحزب الواحد . ومنذ بداية الستينات من القرن الماضي تبنى الحياة الدستورية ، وتطورت الحياة السياسية الوطنية في اتجاه إرساء الديمقراطية بشكل تدريجي عبر تراكم مكاسب ديمقراطية هامة ، تحققت على الخصوص ، من خلال عقد توافقات وطنية كبرى إيجابية ، مع منتصف السبعينات بارتباط مع المسيرة الخضراء لاسترجاع الأقاليم الصحراوية الجنوبية ، ثم مع منتصف التسعينات بالإجماع شبه التام حول دستور 1996 الذي أفضى إلى أول تجربة في التداول على السلطة سنة 1998. وتأتي المحطة التاريخية الأهم في تاريخ المغرب المعاصر مع التبني الشعبي الواسع لدستور فاتح يوليوز ، هذا التبني الشعبي الواسع الذي لم يحصل قط تجاه الدساتير السابقة . الدستور الذي يضع المغرب ، بروحه ومضامينه المتقدمة ، في مصاف البلدان العريقة في الديمقراطية.
ولا شك أن أي متتبع للحياة السياسية الوطنية منذ الاستقلال ، يلاحظ أن محطات تحقيق تقدم في مجال الديمقراطية والحريات ، تأتي تتويجا لكفاحات شعبية مريرة ، بتأطير من القوى التقدمية والديمقراطية ، وعبر تضحيات وثمن كان أحيانا ثمنا باهظا.
كما يلاحظ أيضا ، أنه بعد كل لحظة من لحظات تحقيق طفرة نوعية في مجال الديمقراطية والحريات ، تنبري قوى سياسية معادية للتقدم ، تتجدد مع كل لحظة ، وتنوع لبوساتها كل مرة ، لإجهاض مسار التقدم ونسفه .
فبعد دستور 1962 ، كان اقتحام" الفديك" للساحة السياسية ، وما جرته على البلاد من فوضى ولا استقرار ، وتناسل للتيارات المغامرة ، يسارا ويمينا ، تجسد أخطرها في محاولتي الانقلاب العسكري مع بداية السبعينات .
وبعد المسيرة الخضراء ، وانطلاق ما اصطلح على تسميته ب " المسلسل الديمقراطي " والعودة إلى تنظيم انتخابات جماعية سنة 1976 ثم برلمانية سنة 1977 ، تكرر نفس سيناريو بداية الستينات بصيغ جديدة .
ومن رحم الوزارة الأولى تم تفريخ حزب التجمع الوطني للأحرار ، الذي أصبح "أكبر" حزب بالبلاد في رمشة عين ؟ وبنفس الشكل الميكانيكي تم تفريخ حزب الاتحاد الدستوري ودائما من رحم الوزارة الأولى ، ليصبح بدوره وب "النوبة" أكبر حزب بالبلاد؟ ويتذكر الجميع دون شك ما تلا ذلك من أحداث دامية سنة 1980 وسنة1984 وسنة ، 1990 وبدا وكأن الكفاح من أجل الديمقراطية بالمغرب أشبه ما يكون بأسطورة سيزيف؟ ! إلا أن ذلك أفضى في نهاية المطاف إلى الانفراج السياسي مع بداية التسعينات ، وتبني دستور 1996الذي صوتت لصالحه ، لأول مرة قوى المعارضة التقدمية والديمقراطية ، ليمهد الطريق أمام تجربة التناوب سنة 1998.
إلا أن الارتكاس لم يتأخر بعد ذلك ، حين تم إقبار تجربة التناوب سنة 2002 ، وما تلاها من تشكيل حكومات تقنوقراطية بالفعل وليس فيها من الأحزاب إلا الاسم . أكثر من ذلك جاءت محاولة خلق حزب إداري جديد مع تأسيس "البام" ، وبتحدي أكبر من ذي قبل . وكان من نتائج ذلك تمييع الحياة السياسية إلى أقصى الحدود ، ومسخ المؤسسة التشريعية بتفشي ظاهرة الترحال البرلماني التي مست أكثر من ثلث البرلمانيين. فلم يعد أحد يعرف الحدود بين الفرق البرلمانية، ولا الحدود بين الأغلبية والمعارضة .. أما الحكومة فتائهة بدون بوصلة ، لا يعرف رئيسها من معه ، ومن ليس معه . فأصبح المشهد السياسي مشهدا كاريكاتوريا عبثيا يدعو للتقزز. والخاسر الأكبر في هذا هي الصورة السياسية للمغرب ، والأضرار الجانبية لذلك هي فقدان الأحزاب السياسية عموما ، غثها وسمينها ، لمصداقيتها أمام المواطنين . المواطنين الذين عبروا عن استنكارهم لهذا الوضع ، بإحجامهم الواسع عن المشاركة في انتخابات 2007 ، وانتخابات 2009 وهذا هو الخطر الأكبر الذي يهدد مسار البناء الديمقراطي ، ومعه الأمن والاستقرار على مدى ..
* استئناف مسار البناء الديمقراطي على الأسس السليمة ..
شكل تبخيس العمل الحزبي والعمل السياسي النبيل، مع تشكيل حكومة 2002 وما بعدها ، الأداة الرئيسة للانقضاض على المكاسب الديمقراطية ، باعتبار أن الأحزاب هي الأدوات الرئيسة لبناء الديمقراطية وترسيخها ، كما شكل الوسيلة الأنجع لإبعاد القوى الديمقراطية والحداثية في المجتمع عن صناديق الاقتراع ، وبالتالي تحكم القوى المعادية للديمقراطية في تدبير الشأن العام الوطني والمحلي .
فكان واضحا منذ 2002 ، أن هناك أوساطا سياسية لها امتدادات أخطبوطية في عدد من وسائل الإعلام ، بما فيها الإعلام العمومي ، تعمل بشكل منهجي على تبخيس الأحزاب السياسية جملة وتفصيلا ، توخيا لنسف المبدأ نفسه ، مبدأ أن الأحزاب السياسية هي الأدوات الرئيسة لبناء الديمقراطية ، والحال أنه لا ديمقراطية بدون أحزاب سياسية .
ومما سهل النجاح النسبي لهذه الأوساط في بلوغ مراميها ، أن العديد من الأحزاب ، إما لحسابات حزبوية ضيقة ظرفية ، أو لقصور في الرؤى السياسية ، ساهمت في هذه اللعبة ، بشكل أو بآخر ، ولنا في الموقف من ظاهرة الترحال البرلماني ، ومن استوزار تقنوقراطيين باسمها في آخر لحظة ، ومن مسألة التحالفات ، علامات دالة على ذلك .
فوصلنا إلى ما وصلنا إليه قبل "الربيع العربي"، وقبل خطاب صاحب الجلالة يوم 9 مارس من السنة الجارية . وصلنا إلى وضع حكومة منقطعة عن مهام المرحلة وعن انشغالات وهموم أوسع فئات الشعب ، وتائهة بين قطاعات وزارية لا تعرف ما يجمعها . وبرلمان لا يشرف صورة المغرب ، ولا يحظى بأي احترام من طرف المواطنين ، وألعاب بهلوانية في المشهد الحزبي. ونفور واسع للمواطنين من العمليات الانتخابية ، والحال أنها الآليات الديمقراطية الأوحد للإصلاح والتغيير وتحقيق التنمية المنشودة..
يحق للمرء أن يتساءل ، وهو تساؤل مشروع : إلى أين كانت تسير الحياة السياسية بهذه المواصفات للمشهد السياسي؟ بلا شك أنها كانت تسير نحو الأسوأ .. أكيد أن الأمة المغربية وقواها الحية ، بما لها من رصيد ديمقراطي وبما بلغته من نضج سياسي كانت ستهتدي إلى أساليب ووسائل رد الأمور إلى نصابها ووضع المغرب على السكة الصحيحة لمواصلة البناء الديمقراطي .. وإن بعد جهد وبعد وقت ليس بالقصير ..
لحسن الحظ ، ومن محاسن الصدف التاريخية أن اندلعت الثورات الشعبية العربية ، وخاصة في تونس ومصر ، اللتان كان البعض عندنا يحلم ، بل يخطط لنسخ تجربتهما في "الديمقراطية " و" التعددية الحزبية ". ولكن أيضا ، وبحكم خاصية النظام السياسي المغربي ، ومؤسسته الملكية المتجذرة في هوية الشعب المغربي ووجدانه . أن المؤسسة الملكية ، في اللحظات الدقيقة والحرجة من تاريخ الأمة ، تنزل بكل ثقلها ، وبرؤية شمولية بعيدة النظر ، للحسم وإرساء خارطة طريق الخروج من النفق ، ورسم معالم إستراتيجية العمل ، لاستئناف مسار البناء الديمقراطي بثبات وعلى الأسس السليمة ، ليحتفظ المغرب بتفرده في معالجة قضاياه في أمن واستقرار، بل ورياديته في ارتياد آفاق جديدة للديمقراطية ولبناء دولة القانون والمؤسسات ، وتأهيل البنيات السياسية والمجتمعية لاحتلال المغرب موقعه المتقدم المستحق بين الأمم الراقية . وذاك ماكان عبر خطاب صاحب الجلالة يوم تاسع مارس من السنة الجارية ، الخطاب الذي سيؤرخ له على أنه نهاية مرحلة ، وبداية مرحلة جديدة في الحياة السياسية الوطنية . ولعل كل المكونات السياسية والمجتمعية تكون في مستوى متطلبات المرحلة الجديدة.
• رهان المشاركة.. أو اكتمال منظومة شروط الانتقال الديمقراطي ..
الخطاب الملكي لتاسع مارس ، وتفعيل مضامينه بما تلا من نقاش وطني واسع على كل المستويات حول الإصلاح الدستوري ، وحول مشروع الدستور الجديد ، ثم الشروع في تنزيل أحكام الدستور على المستوى القانوني . هذا الخطاب الملكي وما تلاه ، أحدث رجة سياسية كبرى في مجموع مكونات الجسم الوطني ، وخلخل المشهد السياسي الآسن ، في اتجاه انبلاج مشهد سياسي ناصع ، وبناء مؤسسي ديمقراطي ذي مصداقية . وأصبح الورش الكبير للإصلاح والتغيير متجسدا في تنزيل مقتضيات الدستور بتأويله الديمقراطي في مختلف مجالات الحياة الوطنية.
شكلت الإصلاحات التي تضمنها الدستور الجديد قفزة نوعية تاريخية ، من توسيع لصلاحيات البرلمان في التشريع ، وفي المراقبة ، مع حقوق جديدة للأقلية والمعارضة ، وشطب نهائي قاطع لآفة ترحال البرلمانيين ، وضمان ما يلزم من جدية ومسؤولية في اشتغال هيئات المؤسسة البرلمانية . إلى توسيع كبير لصلاحيات الحكومة ورئيسها ، في رسم السياسة العامة ووسائل تنفيذها ، مع ما سيتتبع ذلك من حق الشعب في المحاسبة.. إلى دسترة استقلالية القضاء ، والفصل بين السلط ، بما يضمن تحمل كل سلطة لمسؤوليتها في إطار من التوازن الذي يضمن النجاعة في الأداء.
وفوق ذلك كله ، رد الاعتبار للأحزاب السياسية ، بما يجعلها فعلا عماد الحياة السياسية ، وأدوات اشتغالها الرئيسة ، كما هو شأن كل الديمقراطيات الحقة في العالم .
هذه بعض مقتضيات الدستور ذات الصلة بتحضير الانتخابات التشريعية المقبلة ، والتي أشرف البرلمان على الانتهاء من المصادقة على قوانينها التنظيمية ، التي من المفروض أن تؤطر انتخابات حرة نزيهة ، كفيلة بإفراز مؤسسة تمثيلية ذات مصداقية ، ومعبرة عن اختيارات وإرادة المواطنين ، تكون في مستوى متطلبات المرحلة ، وفي أولها تشكيل حكومة قوية منسجمة ، وتضم الكفاءات السياسية القادرة على الاضطلاع بالمهام السياسية المطروحة ، والاستجابة للانتظارات الواسعة للمواطنين ، خاصة في الميدان الاجتماعي .
لكن ،من الضروري أيضا اكتمال منظومة شروط ضمان القطيعة مع الفساد السياسي والانتخابي ، وإرساء مؤسسات تمثيلية حقة . وهذا لن يتأتى إلا من خلال ربح رهان المشاركة الواسعة للمواطنين في الانتخابات المقبلة والمسلسل الذي يليه . وهذا يفرض استعادة ثقة المواطنين في العمليات الانتخابية ، باعتبارها الآليات الديمقراطية الأوحد للإصلاح والتغيير . وفي الأحزاب السياسية ، باعتبارها الأدوات الرئيسة في أي بناء ديمقراطي .
وهذا رهين إلى حد كبير بمدى قدرة الأحزاب على تقديم عروض سياسية تستوفي شروط الجدية والوضوح ، وتبني اصطفافها وتحالفاتها على أساس توجهات سياسية وبرامج طموحة واقعية وقابلة للتطبيق .
عروض سياسية منسجمة واضحة المعالم ، تستجيب لمتطلبات المرحلة ، وتطرح اقتراحات أجوبة للأسئلة الكبرى التي تشغل بال أوسع فئات المواطنين .
عروض سياسية تجعل الرؤية واضحة أمام المواطنين، وتسمح لهم بالمقارنة والاختيار. فهل تساهم كل مكونات المشهد الحزبي في توضيح هذه الرؤية ؟.
• الاختيار بين الانخراط الملتزم في إنجاح الانتقال الديمقراطي .. وبين إجهاضه..
هل هو اختيار ؟ !
طبيعي أن أوساطا مصلحية استفادت من أوضاع الفساد السياسي ومن تقلص تواجد القوى التقدمية الديمقراطية على المستوى الجماهيري ، وأخرى عدمية رغم صغر حجم تنظيماتها ، وثالثة مغرقة في الظلامية والرجعية .. لا تنظر بعين الرضا إلى اتضاح ملامح المشروع المجتمعي الذي يبشر به الدستور الجديد ، المبني على إرساء دولة القانون و المؤسسات ، وتثبيت الاختيار الديمقراطي بقواعده السليمة، والذي جعل إرادة المواطنين هي مصدر سن السياسات العامة وتدبير الشأن العام عبر الآليات الانتخابية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع ، بما يفسح المجال للاستجابة للانتظارات الواسعة للمواطنين للعيش الحر الكريم.
وطبيعي أن تتجند هذه الأوساط للعمل على إجهاض مسار البناء الديمقراطي بخطاب ديماغوجي موغل في الشعبوية والشعاراتية السطحية .
وهي التي تدعو إلى مقاطعة الانتخابات تحت يافطة هذا الخطاب ، ومستغلة تراكمات المشاكل الاجتماعية ، والفساد الذي استشرى في الحياة السياسية والعامة . راكبة بانتهازية وقحة الحركات الاحتجاجية الاجتماعية المشروعة لفئات الشباب ، ولفئات اجتماعية أخرى عانت من الإقصاء والتهميش.
وفي هذه اللحظة الدقيقة من حياتنا الوطنية ، أضحى ضروريا الاختيار بين الانخراط الملتزم في إنجاح هذه المحطة التاريخية من مسلسل البناء الديمقراطي بما يستلزم ذلك من وضوح في الخطاب والممارسة ، وإسهام في توضيح الرؤى أمام المواطنين قصد ضمان المشاركة الواعية الواسعة في الاستحقاقات المقبلة . وبين السقوط في خندق من يحمل المعاول لإجهاض الانطلاقة الجديدة في مسار بناء الديمقراطية.
ويلتقي، موضوعيا، مع أهل هذا الخندق الأخير، المشككون مسبقا في نزاهة الانتخابات المقبلة، والممارسون لابتزاز سياسي رخيص ومكشوف بالتهديد بين الفينة والأخرى بمقاطعة الانتخابات المقبلة أو الالتحاق بحركة 20 فبراير ! وكل من يحاول العودة بالمشهد الحزبي ، بدلا من ترشيده ، وتوضيحه ، إلى وضع أكثر عبثية وأكثر غموضا وميوعة من السابق. والقول هنا يتعلق بالأحزاب السياسية .
العقدان الأخيران ، يمكن اعتبارهما فترة مخاضات انتقال في بنيات المجتمع المختلفة ، وضمنها المنظومة الحزبية . والفترات الانتقالية يطبعها دائما الكثير من التعقيدات السياسية وهوامش واسعة من الغموض حول الاتجاه الذي ياخده مجرى الحياة السياسية ، ولا تكون فيها الصراعات السياسية واضحة الوضوح الكامل . بل إن الكثير من تجلياتها تكون خادعة .
فهذان العقدان الأخيران، شهدا أول تجربة للتداول على السلطة ووصول قوى تقدمية إلى موقع تدبير الشأن العام . لكنهما شهدا أيضا محاولة عنيدة لتبخيس العمل الحزبي والسياسي النبيل ، قبل أن يحسم دستور فاتح يوليوز بشكل قاطع في دور الأحزاب السياسية المركزي في عملية البناء الديمقراطي .
وبالتالي أصبح مفروضا تأهل الأحزاب السياسية لتحمل مسؤولياتها السياسية كما ينص عليها الدستور : أحزاب جادة واعية بمسؤولياتها التاريخية، ديمقراطية في آليات اشتغالها واتخاذ قراراتها ، مسلحة ببرامج سياسية واضحة تتيح الاختيار أمام المواطنين ، انسجام بين الخطاب والممارسة ، تحالفات مبنية على توجهات سياسية متقاربة وعلى برنامج حد أدنى مشترك للاختيارات الأساسية والجوهرية . حتى تكون هذه التوجهات وهذه الاختيارات تعبيرا صادقا عن مصالح وفئات اجتماعية بعينها.
فهل كل ما تعرفه الحياة السياسية بعد فاتح يوليوز من "مستجدات "يسير في هذا الاتجاه؟
• مسألة التحالفات.. محك الوضوح وتعقلن المشهد الحزبي ..
تكتسي التحالفات الحزبية أهمية خاصة بالنسبة لمسلسل البناء الديمقراطي المغربي، نظرا لطبيعة التعددية الحزبية المغربية وتقارب وزن تشكيلاتها السياسية الرئيسة . وفي البدء، لابد من التأكيد على أن العمل في إطار التعددية السياسية الحزبية، هو جوهر أي نظام ديمقراطي. وفي هذا بالضبط تفردت التجربة المغربية منذ فجر الاستقلال بالنسبة لباقي البلدان العربية والإسلامية، بإقرار التعددية الحزبية ورفض نظام الحزب الوحيد. وسيظل الحفاظ على حق كل الحساسيات السياسية المعبرة عن اتجاهات داخل المجتمع، مهما كان حجمها ووزنها، في الممارسة السياسية الديمقراطية والتعبير عن ذاتها، كنه الديمقراطية. وتظل صناديق الاقتراع في إطار انتخابات حرة نزيهة، الحكم في حجم تمثيلية هذا التنظيم السياسي أو ذاك.
وبناء عليه تظل التحالفات الحزبية، ضرورية للوصول إلى مواقع تدبير الشأن العام، من خلال حكومة سياسية منسجمة ذات برنامج حكومي مشترك، مستند إلى تقارب في التوجهات السياسية الحزبية.
ونظرا لأن التعددية الحزبية أصابها الكثير من التشوه خلال العقود الماضية، بسبب اصطناع العديد من الأحزاب من فوق، وتمكينها من وسائل ومواقع لا تنبثق عن إرادة المواطنين، لمحاصرة ومواجهة الأحزاب التقدمية والوطنية الديمقراطية. وتناسل حزيبات تظهر مع كل انتخابات لتوزيع التزكيات، والاختفاء مباشرة بعدها. حتى أصبحت الساحة السياسية تعج بالعديد من أشباه أحزاب، تائهة في المشهد السياسي، بوصلتها الوحيدة الهرولة وراء مقاعد برلمانية، ومناصب لزعمائها كيفما كانت، وفي أي موقع كان. بعبارة أخرى الهرولة وراء غنائم شخصية.
وهكذا شهدنا، وفي هذا المسعى، أحزابا جربت، ومازالت تجرب كل أنواع "الاندماجات" و التحالفات" يمينا ويسارا.. وهذه الحالات لا تعني، عند الحديث عن التحالفات الحزبية، أي شيء غير السعي وراء غنائم شخصية.
لذا يظل الاتجاه نحو تحالفات حزبية معينة، مؤشرا أساسا على مدى جدية الأحزاب، واستيفائها لمقومات حزب سياسي فعلا، وعلى مدى الوضوح السياسي وإسهامها في عقلنة المشهد الحزبي. ومؤشرا على مدى انسجام الأحزاب مع توجهاتها السياسية المعلنة. ونحن الآن، على أبواب انتخابات تشريعية هي الأولى في ظل دستور فاتح يوليوز، بمقتضياته الديمقراطية المتقدمة، يفرض الوضوح نفسه في مسألة التحالفات أكثر من أي وقت مضى. بل أضحى شرطا أوليا لربح رهان المشاركة الواسعة للمواطنين في العمليات الانتخابية المقبلة، من أجل إفراز مؤسسات تمثيلية ذات مصداقية، تنبثق عنها حكومة سياسية قوية قادرة على تحمل مسؤولية ممارسة الصلاحيات الواسعة التي يخولها لها الدستور، وترسي وتطبق سياسة كفيلة برفع تحديات التنمية والاستجابة للانتظارات الواسعة للشعب.
أكيد، أن نمط الاقتراع الحالي لا يسهل بلورة تحالفات تعتمد لوائح الترشيح المشترك. لكن ذلك لا يمنع، بل يلزم الإعلان المسبق عن التحالفات البعدية ، لتشكيل الأغلبية والحكومة. ما دام تشكيل الأغلبية والحكومة المقبلتين، يجب أن يتم مبدئيا ومنطقيا، خاصة في ظل الدستور الجديد، على أساس توجهات سياسية تترجم إلى برنامج سياسي حكومي منسجم ومتكامل، مرتب في أولوياته، محدد في وسائل تنفيذه، منطلق من تصور موحد واضح.
وذاك سيكون الفيصل بين الأحزاب الجادة المعبرة فعلا عن توجهات فعلية داخل المجتمع، وبين المتطفلين على العمل السياسي والخائضين في سوق الريع السياسي.
• تصحيح الاختلالات وإعادة بناء المشهد السياسي ..
مجمل الاختلالات السياسية والمؤسسية التي أربكت مسار البناء الديمقراطي خلال السنوات الماضية، تجد إطارات علاجاتها في مقتضيات الدستور الجديد. سواء على مستوى صلاحيات وأداء السلط والعلائق في ما بينها. أو على مستوى وظائف الأحزاب وموقعها في الحياة السياسية .
لكن، من البديهي أن اكتمال العلاج، يقتضي حسن استعماله، من خلال جودة تشكيل المؤسسات وجودة أدائها لمهامها ووظائفها. فتشكيل مجلس النواب المقبل يجب أن يحدث قطيعة مع صورته الحالية أمام المواطنين وأمام الخارج، ليكون أهلا للثقة داخليا وخارجيا. فبقدر جسامة المسؤوليات المطروحة على المؤسسة التشريعية في الشأن الداخلي، بقدر جسامتها في إرساء العلاقات الخارجية المستجيبة لمصالح الوطن العليا. وعلى التركيبة النوعية لمجلس النواب، وانبثاقها عن انتخابات حرة نزيهة وشفافة، يتوقف انبثاق حكومة سياسية قوية ومنسجمة، في مستوى المسؤوليات الملقاة على عاتقها في ممارسة صلاحياتها الواسعة بجرأة وطموح، من جهة، والانكباب على معالجة الأولويات الوطنية والشعبية في الولاية المقبلة ، من جهة ثانية . حكومة سياسية منسجمة في مكوناتها الحزبية، وأعضاؤها من سياسيين أكفاء قادرين على الاضطلاع بمسؤولية إنجاز البرنامج الحكومي بشكل خلاق وناجع. والنبذ النهائي لتبطيق التقنوقراطيين ببطائق حزبية لحظة الاستوزار.
وهذا كله رهين بمدى مشاركة المواطنين المكثفة في العملية الانتخابية يوم 25 نونبر.وبمدى احترام كل الفاعلين السياسيين في هذه العملية لقواعد المنافسة الديمقراطية الشريفة.
والقوى السياسية الديمقراطية الحقة، مطالبة بلعب دورها كاملا للإسهام في استعادة ثقة المواطنين في الآليات الانتخابية، وهو أمر في المتناول. ولنا درس في المشاركة المكثفة الواسعة للمواطنين في الاستفتاء الدستوري لفاتح يوليوز، حين اقتناع المواطنين بجدية الإصلاح الدستوري، وباستجابته لتطلعاتهم وطموحاتهم.
والمهمة ملقاة بالدرجة الأولى على الأحزاب السياسية الجادة، يكملها دور الإعلام العمومي. وهي مهمة توضيح الرؤى السياسية أمام المواطنين. والتصدي بجرأة لكل محاولات نسف انجاز مشروع العهد الدستوري الجديد، بالتشكيك المسبق في نزاهة الانتخابات توخيا لإبعاد المواطنين عن صناديق الاقتراع.. وفضح كل أشكال الشعبوية الطفولية والديماغوجية الوضيعة والابتزاز السياسي الرخيص.. مهمة إعطاء مطالب محاربة الفساد، وتخليق الحياة العامة مضامينها السياسية الحقيقية، والتأكيد أن المدخل الأساس والوحيد هو عبر المشاركة الواسعة للمواطنين في عملية التصويت لإفراز المؤسسات التمثيلية والتنفيذية القادرة وحدها على سن سياسة محاربة الفساد وتخليق الحياة العامة وتطبيقها.
واللحظة فرصة تاريخية لاستخلاص الأحزاب الجادة الدروس من التجربة الماضية، وما لحقها من أضرار، من جراء مراهنة بعضها على غير الارتباط بالمواطنين. واللحظة ستكون بلا شك لحظة فرز في المشهد الحزبي، بين من منها مؤهل أو يؤهل ذاته للانخراط في العهد الدستوري الجديد ولعب دوره في المقبل من السنين، ومن تربطه" مواثيق" مع الانتهازية والفساد السياسي واللامسؤولية، وهي لا محالة إلى زوال، لأن معطيات اللحظة وإلزاماتها تشتغل موضوعيا في هذا الاتجاه .
• عندما تكون مجرد أيام حاسمة في الانتقال الديمقراطي..
يتهيأ المغرب لتنظيم أول انتخابات في ظل الدستور الجديد ، انتخابات مجلس النواب التي لا تفصلنا عنها إلا أيام .. وكون هذه الانتخابات انتخابات سابقة لأوانها ، في حد ذاته تعبير عن إرادة في طي صفحة ، وفتح صفحة جديدة في أسرع الآجال وتفعيل مقتضيات الدستور بمضامينه الديمقراطية المتقدمة . وبسبب ذلك فالأيام التي نعيشها أيام حاسمة لوضع الإصلاحات العميقة التي يؤسس لها الدستور على السكة الصحيحة .. وعليه فإن أي سلوك سياسي يؤشر أمام المواطنين على نزوع لإبقاء الحال على ما كان عليه ، هو ضمنيا ، فعل لإجهاض انطلاق الإصلاحات الكبرى التي يبشر بها الدستور ، وبمثابة ثورة مضادة لما عبر عنه الشعب المغربي من إرادة قوية في الإصلاح والتغيير بمشاركته المكثفة والواسعة في التصويت لصالح الدستور يوم فاتح يوليوز .
كل ما سنته القوانين التنظيمية المتفرعة عن الدستور ، والتي تؤطر الانتخابات المقبلة ، تدعو إلى التفاؤل ، لكونها توفر الآليات والضمانات القانونية لإجراء انتخابات حرة وشفافة ، آليات وضمانات لم تتوفر قط من قبل بهذا الزخم وبهذا الكيف. وليس هناك ما يدعو إلى حد الآن إلى الشك في التزام السلطات العمومية بالحياد الإيجابي في مختلف مراحل العملية الانتخابية , وهو الالتزام الذي نود أن تتكثف الإشارات الدالة عليه أمام المواطنين .
يبقى بعد ذاك، دور الأحزاب السياسية، باعتبارها الأدوات الرئيسة التي تتمحور حولها العملية الانتخابية. وهذا يستدعي، منطقيا، أن تلائم كل الأحزاب سلوكاتها مع الدور المخول لها في الدستور .
وهذا يقتضي أول ما يقتضيه القطع مع ازدواجية الخطاب ، القطع مع تناقض السلوك مع الخطاب ،القطع مع المنطق الانتخابوي المستهتر بكل أخلاقيات العمل السياسي ، القطع مع إستراتيجية القفز على الحبال ، القطع مع الشعبوية والديماغوجية.. ومع كل ما شاب المشهد الحزبي خلال السنوات الماضية ، وأبعد المواطنين عن صناديق الاقتراع .
إن النزوع إلى تكرير نفس هذه السلوكات ما زال يحكم العديد من الأحزاب التي ولدت وفي يدها ملاعق من ذهب ، وحزيبات تهرول شمالا ويمينا بحثا عن مكاسب شخصية نفعية ل " زعمائها ".. وما ينعقد من تحالفات وشبه تحالفات فجة وهجينة ، هنا وهناك ، خير برهان على ذلك .. وهذا لا يغيب عن فطنة المواطنين ..
لكن المواطنين يعلمون أيضا أن هناك أحزابا تحملت العبء الأساس في النضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، وكانت في حجم تواجدها بالمؤسسات التمثيلية والتنفيذية ضحية ما شهدته الحياة السياسية الوطنية خلال السنوات الماضية من تبخيس للعمل السياسي الجاد النبيل ، مما أثر سلبا حتى على أدائها .. وهي الأحزاب التي ينصفها الدستور الجديد ، ويعيد لها الاعتبار ، وهي المؤهلة لتفعيل مقتضيات الدستور ، نصا وروحا ، وفي مقدمتها أحزاب اليسار الديمقراطي الذي اختار العمل من داخل المؤسسات ومع المواطنين معا ، والقوى الوطنية الديمقراطية الحقة .
ليس بالأمر الهين ، إعادة بناء المشهد الحزبي على أسس الوضوح والجدية خلال بضعة شهور قبل انتخابات 25 نونبر ، وإحداث تغير جذري فوري في نظرة المواطنين إلى دور الأحزاب . لكن بالرغم من ذلك ، فإن عددا من ملامح الفرز بين الأحزاب الجادة والأحزاب العابثة بمسؤوليات المرحلة ، بدأت تتضح ، والمنتظر أن تزداد وضوحا خلال الأسابيع والشهور المقبلة ..
يبقى بعد ذلك أن يستخلص المواطنون ما يجب استخلاصه من دروس من هذه المخاضات ، ويندفعوا إلى مواصلة المد الشعبي الذي أحدثوه خلال الاستفتاء على الدستور .. نحو المشاركة الواسعة في انتخابات 25 نونبر ، لإفراز مؤسسة نيابية ذات مصداقية تعبر فعلا عن تطلعات أوسع فئات الشعب ، تنبثق عنها حكومة سياسية شعبية فعلا قادرة على سن وتطبيق سياسة تستجيب لمتطلبات المرحلة ، وتستجيب لانتظارات أوسع فئات الشعب ..
إنه الموعد التاريخي لبناء المغرب الجديد .. وإخلاف هذا الموعد سيكون ثمنه باهضا ، بالنسبة لمصلحة البلاد ومصلحة العباد.
*رئيس تحرير يومية المنعطف
نشرت بجريدة "المنعطف" على حلقات شهر أكتوبر 2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.