لا يمكن فصل التعليم عن البنية العامة للمجتمع وللسلطة، خصوصا في بلد كالمغرب، حيث مازال الفضاء السياسي يهيمن بشكل لافت للنظر على باقي الفضاءات ويوجهها إلى حد ما. يتدخل السياسي في الاقتصاد والتعليم والرياضة والإنتاج الفني والإعلامي وغيره. غير أنه يجب فهم هذا التدخل كنتيجة لإرادة واضحة للهيمنة وتثبيت بنية السلطة القائمة، والتي تستفيد مها النخب التي تحتل مراكز القرار. ينقسم المجال الاجتماعي إلى فضاءات نسبيا مستقلة [بورديو] ولكل منها قوانينه الخاصة؛ ورغم أنها لا تُستثنى من مجال الصراع الذي يوجد عادة في المجتمعات بين الفئات الاجتماعية بمصالحها المختلفة، فإن مجال التعليم بالذات يخضع في المغرب لتدخل بطبيعة واعتبارات سياسية محضة، يهدف إلى تكريس وضعية الهيمنة التي تسعى إلى تحقيقها النخب المسيطرة على القرار. تسعى محاولات الهيمنة من طرف هذه النخب إلى كسب رضا الفئات الأخرى [غرامشي] عن السياسات التعليمية، والتي يسمونها دائما إصلاحية. تمرر هذه الهيمنة عبر عنف رمزي [بورديو] من حيث أن النخب المهيمنة تجعل الفئات الأخرى تعتقد أن الوضعية التي يوجد فيها التعليم هي وضعية طبيعية وتخضع لتطور تاريخي وأنها ليست اعتباطية، أي إنها طبيعية وليست مصنوعة لخدمة فئة اجتماعية دون أخرى. من هذا المنظور فإن المدرسة المغربية موجهة من خلال تنظيمها وآلياتها وبرامجها لأداء وظيفة معينة، تبقى وظيفة سياسية، وهي إعادة إنتاج التراتبية الاجتماعية القائمة، والتي هي في صالح النخب المهيمنة. بتعبير آخر، وحسب منطق الهيمنة، يجب أن لا يستعمل التعليم من طرف الطبقات الدنيا وحتى المتوسطة لصعود اجتماعي لهذه الفئات باحتلالها مراكز سلطة تمكنها من التحكم في القرار السياسي. كما أن التعليم يمكن أبناء النخب المهيمنة من الاستفادة من التكوين الجيد عبر مؤسسات تتوفر على عناصر الجودة والكفاءة، سواء بالمغرب أو خارجه [بفرنسا مثلا وبمدراس الهندسة أو التسيير الباريزية]. كما أن البرامج التعليمية تخضع هي كذلك لمنطق الهيمنة والعنف الرمزي، من حيث أنها تقدم الإنتاج الثقافي والرمزي للطبقة المهيمنة [مثلا اللغات والتقنيات وقيم النخب المهيمنة] على أساس أنها الأصلح لكل الفئات. غير أن الاستعداد الفكري والاجتماعي ليس متساويا بين كل الناس وبين كل التلاميذ والطلبة، وتبعا لذلك لا يتجاوب بطريقة إيجابية مع هذه البرامج إلا من يتوفرون على هذا الرأسمال الثقافي والرمزي، وهم أبناء الطبقة المهيمنة؛ وبالتالي فالطبقات الدنيا وحتى المتوسطة لا يستطيع أبناؤها مسايرة هذا الإنتاج الذي يمرر عبر البرامج، لأنها ليست مستعدة من الناحية الاجتماعية والثقافية والرمزية لاستيعابها، وخصوصا في ما يتعلق باللغات والتواصل والقيم، ولأنهم تلقوا تنشئة اجتماعية مختلفة وبقيم وطرق تواصل مختلفة. قد يمكّن التعليم بعض أبناء هذه الطبقات الدنيا والمتوسطة من النجاح الأكاديمي، لكنهم لا يستطيعون الصعود إلى أعلى المراتب بسبب عدم قدرتهم على تجسيد قيم النخب المسيطرة، من لغة وتواصل وقيم؛ وبسبب افتقارهم إلى الرأسمال الاجتماعي، بانتمائهم إلى طبقات لا تحتل مراكز قوة في البنية العامة للسلطة. يجب كخطوة أولى نحو فهم ما يحدث في التعليم التخلص من وهم أنه مُؤَسس بكيفية تحقق مصلحة كل المجتمع؛ إنه في خدمة من لهم المصلحة في استمرار الوضع على ما هو عليه من ناحية التقسيم الطبقي للمجتمع والتوزيع الفعلي للسلطة ولمراكز القرار. وبالتالي كيف نفهم تركيز هذه النخب على إدخال اللغة الدارجة في مقررات المدرسة العمومية؟ إنها أولا وقبل كل شيء مسألة تتعلق بهذا الرأسمال الثقافي والرمزي الذي تعيد النخب المهيمنة إنتاجه عبر التعليم، والذي يضع اللغة الفرنسية في أعلى التراتبية كلغة للعلم والأدب والمعرفة الحقيقية بالنسبة إليهم، لأنهم يتقنونها وتعتبر لغة التلقين الأساسية لأبنائهم، وتليها اللغات الحية كالإنجليزية، ثم اللغة الدارجة كلغة للتواصل اليومي. أما اللغة العربية فلا دور حقيقيا لها بالنسبة لهم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تريد هذه النخب فرض إنتاجها الرمزي والثقافي في منظومة تعليم لا يخضع لها أبناؤها؟ لماذا تمرر قيم خاصة على أنها عامة؟ ما علاقة الهيمنة الأيديولوجية [الرمزية والثقافية] بالهيمنة على الاقتصاد والمجتمع والسياسة؟. يدخل تمرير وضع اعتباطي على أساس أنه طبيعي في إطار صراع من أجل الهيمنة تبدأ من الرمزي والثقافي لتشمل السياسي والاجتماعي. لست مؤهلا لأي صعود نحو الأعلى إلا إذا أتقنت شروط هذا الصعود، والتي لا تكون كلها في متناول الفئات الاجتماعية المسيطر عليها، كالرأسمال الاجتماعي والاقتصادي. وتبعا لذلك، وحسب هذا التصور، ففشل أبناء الطبقات المسيطر عليها في التعليم وفي الصعود الاجتماعي مرده ليس إلى عدم ملاءمة منظومة التعليم مع حاجيات المتعلمين، بل إلى عدم قدرة أبناء الطبقات المسيطر عليها في التحصيل الجيد والحصول على الشهادات المؤهلة. في وقت ندرك أن الفشل مخطط له وذو طبيعة اجتماعية قبل أن يكون مسألة تحصيل ومؤهلات. الهدف من الهيمنة هو خلق جيل تابع يبرر تبعيته بفشله الدراسي [الاجتماعي في الأصل] ويبرر خضوعه بالفارق في الٍرأسمال الثقافي والرمزي، وذلك بعيشه في حالة "لا إدراك" تجاه العوامل الحقيقية لتبعيته وخضوعه، والتي هي ناتجة عن عنف رمزي يمارس في إطار الصراع وإرادة الهيمنة التي تمارس على من يفتقرون إلى وسائل التمكين الاجتماعي. تحدث الاستثناءات لكنها في كسرها للقاعدة تؤكد بطريقة مفارقة القاعدة، والتي هي أن كل ارتقاء اجتماعي هو رهين بالتوفر على مجموعة من الاستعدادات والقدرات والقيم التي لا يملكها الجميع. إذا كان عاديا أن يخترق الصراع كل مجالات الحياة الاجتماعية في كل المجتمعات، فإنه ليس عاديا أن نوجه التعليم، الذي هو ملك للجميع، لخدمة فئة دون أخرى. بل الأسوأ من ذلك هو أن نسعى إلى تجهيل من نريد إخضاعه للسلطة السياسية، وذلك بمعايير وبرامج تزيد من اغترابه وفشله. يجب أن يوضع التعليم في دائرة مستقلة عن إرادة الهيمنة، وأن يحظى باهتمام الجميع كرافعة للثروة غير المادية، والذي هو الإنسان بغض النظر عن انتمائه الطبقي والقيم التي يؤمن بها. يجب أن يلبي التعليم الحاجيات الحقيقية لمن يرتادون مدارسه في إطار اتفاق عام على أن جودة التعليم هي في صالح الجميع. رغم أنه من الصعب إخراج التعليم من معادلة الهيمنة والخضوع، فإنني أتمنى أن يضع السياسي أسلحته ويعطي الفرصة للأكاديميين باتخاذ القرارات الحاسمة في تطوير التعليم. *أستاذ باحث بجامعة أبو شعيب الدكالي.