وأخيرا سنعاود سيرتنا الضاربة في عمق التاريخ: أصعب حرب هي حرب السلم؛ لأنك حتى وأنت تجنح إلى السلم لن يتركك محيطك وجيرانك، ومن هنا عليك أن تحارب نوازع الاقتتال في نفسك وفي نفوس المحيطين بك. إنها حرب مضاعفة. هذا الأمر وعاه أسلافنا حق الوعي فعاشوا مقاتلين، لأن غيرهم لم يتركهم وشأنهم في هذا الغرب الإسلامي القصي. ومن يصمد لإغراءات شواطئ الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي، والغابات البكر في جبال الأطلس، والأنهار المتدفقة من عل؛ من المغرب وإلى المغرب؟. عاش أسلافنا أمة مقاتلة، وأسست مدرسة إسلامية متميزة في الدفاع عن بيضة الإسلام، وبيضة الوطن. كان عرش الحسن الأول على ظهر فرسه، وكان المغاربة مقاتلين أشاوس في ركابه أنى توجه وسار؛ وقبله تسابقت فرسان العجم، نازلة من الشمال البرتغالي، والأوروبي عموما، إلى سواحل الأبيض المتوسط، في حرب شبه صليبية باركها حتى البابا. نزلوا وساروا في سهول الشمال المغربي وكأنهم في فسحة، إلى أن بلغوا وادي المخازن، فكان ما كان مما لا يزال يهود المغاربة يحتفلون به إلى اليوم؛ لأن ملك البرتغال هددهم بالإبادة الشاملة حين يتمكن من مُلك السعديين. وقبل هذا وذاك عبر يوسف بن تاشفين إلى الأندلس، حيث أناخ بجيشه العرمرم قوات إسبانية هبت لإبادة المسلمين؛ ثم عاد ولم يعد بعده ذكر حتى لملوك الطوائف، الذين ألقوا السيف واستسلموا لملذات الليل والنهار. هذه هي الأمة المغربية؛ وحينما تتنادى اليوم لتجييش الشباب فلا تأتي أمرا بِدعا، بل تعاود سيرتها الأولى فقط. قلتها منذ مدة، وهاكم الدليل: قلت: "لا أفهم لماذا تخلت الدولة عن التجنيد الإجباري للشباب؟ أمن شدة الثقة في النفس، وفي الاحتراف؟"..جاءني الجواب البارحة؛ وأول ما فعلت ناديت على صغيري ياسين وقلت له: كن رجلا، الخدمة العسكرية، بل الوطنية، قادمة. نعم هي خدمة للوطن في زمن ابتلع فيه "فيسبوك" كل جارحة من جوارحنا؛ حتى خلنا خرائطه خرائطنا؛ ولا وجود لنا خارجه. لا، الوطن هنا، بصحرائه وجباله وبحاره، وهو اليوم –كما أمس – بحاجة إلى سواعد أبنائه، وإلى فروسيةٍ ورثوها عن أجدادهم. نعم نحن أهل سلم؛ ولهذا يجب أن نستعد للحرب. غدا سنصادف في شوارعنا شبابا بقبعات خضر، يرفلون في وطنيتهم، وسيكون كل واحد منهم درسا في الوطنية لا ينتهي. غدا ستكف أصوات التسيب والفوضى في مدننا؛ لأن الوطن نادى، وهو كالطبيعة لا يحب الفراغ. وإليكم بقية ما سبق نشره وحان أوان تفعيله في أذهان شبابنا. ***** أعود لأقول إن خطاب المكاسب، الذي غلب على تبريرات الانسحاب من الكركرات، سكت كلية عن المكسب الآني الكبير الذي متعتنا به قواتنا المسلحة، وهي تمارس حقا بسيطا من حقوقها القتالية، تحت إمرة قائدها الأعلى، جلالة الملك. لقد سبق أن تحدثت في موضوع منشور عن العسكرية المغربية، وصلابة عقيدتها التي تأسست على خبرتها الطويلة في حروب الصحراء؛ وعليه فلن أجاري التحليلات المشار إليها، لأسجن نفسي في التبرير الذي لا داعي له، ولا موضوع. أقف عند المكسب الآني الذي تجلى لي، من خلال متابعة التعاليق، والنشاط الفيسبوكي التواصلي الذي هيجته التحليلات السياسية المسهبة لمجرد حدث عسكري بسيط، يتكرر في كل بؤر التوتر، عبر العالم. أكبر مكسب مُتعنا به، عسكريا، هو تجديد الروح القتالية عند المواطنين، من كل المستويات. ليس سهلا أن تستنهض الروح القتالية لشعب كامل، بمجرد أرتال عسكرية تحركها لأمتار معدودة. لقد كسبنا، في أيامنا هذه، حيث الجميع لاه عن الجميع، ولا حضور قويا إلا لثقافة الهاتف، وفنون الصعقة الموسيقية المرعشة، أن نرى مواطنينا يستعيدون الروح القتالية التي مكنت أسلافنا من الصمود في هذا الغرب الإسلامي، في مواجهة عوادي الخلافة والفاطميين بالمشرق، وتربصات نصارى الشمال. مكسبنا أن نرى المواطنين المدنيين وقد تحولوا إلى عسكر أكثر من العسكر. بدل التخوف، وامتشاق سيف التبريرات التي لا داعي لها، إطلاقا، يجب أن نثني على كل الآراء التي اقتنعت، رواية عن سلف مقتنع، وعن سلفه وسلفه..بأن الوطن لا ينبغي أن ينسحب من خريطته. للعسكرية المغربية عقيدتها وقناعاتها، وهي في جميع الأحوال سليلة هذا الوطن، بكل تاريخه المجيد في حماية حدوده وثغوره، غير عابئ بأزمنة الاحتلال، طالت أم قصرت. إن الخطر يا محللينا المبررين لأمر بديهي، لا يتوقع من مواطن يعلن أنه مستعد أن يموت من أجل وطنه، ولو تمثل في صخرة من تبقال، يتدحرج معها من الشواهق، إلى أن يمسك بها؛ وإنما يوجد حيث يوجد موت التاريخ الصادق، وميلاد التاريخ المنافق. إن أغلب المغاربة من السلالات المقاتلة، وقد سبق لي أن فسرت مطالبتهم بتدخل القوات المسلحة، لصد فيضانات الجنوب، بالحضور القوي للروح القتالية عندهم، وهذه نعمة، خصوصا حينما ننتبه إلى كوننا نحوز، من الكرة الأرضية، أفضل ما أبدعه الله من أمكنة. وتساعدنا الجزائر، مشكورة، في بقاء جذوة القتال مشتعلة؛ وقد سبق أن اعتبرتها سببا من أسباب تأسيس عقيدة عسكرية مغربية صلبة، نضاهي بها أعتى الجيوش في العالم. لمحللينا الكبار أقول: لا تقعوا أبدا أسرى السخونة، تريثوا حتى تستعيد الدورة الدموية، وحتى دورة التاريخ، هدوءها واتزانها. حتى والأمر محسوب على المناورة العسكرية، المرهونة بظرفها وقادتها، فإن الوطن يظل دائما في خرائطه. إن حاجتنا إلى مواطنين منتصبين للقتال أقوى من حاجتنا إلى محللين سطحيين. وكما قيل، إذا أردت السلم، فاستعد للقتال. ولكي لا تستعمل القوة أظهرها. تحية إلى قواتنا المسلحة، ومثلها إلى كل السلالات المواطنة والمقاتلة، التي ما وجدت حيث نحن إلا لتقاتل. ولو لم يكن أسلافنا مقاتلين لما حصل لنا شرف المواطنة المغربية؛ لكنني لا أفهم لماذا تخلت الدولة عن التجنيد الإجباري للشباب؟ أمن شدة الثقة في النفس وفي الاحتراف؟.