كان لافتاً أن يعيد الملك محمد السادس في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب، التأكيد على ضرورة تفعيل اللاتمركز الإداري، الذي اعتبره ورشاً ضرورياً ومستعجلاً لمواكبة الجهوية المتقدمة التي شرع المغرب في تطبيقها بعد الانتخابات الجماعية لسنة 2015. ويراد باللاتمركز الإداري هو أن تتمتع الجماعات بسلطات واسعة وأن يحق لها التصرف في كل الشؤون الإدارية على المستوى المحلي بهدف تحقيق الديمقراطية المحلية، أي أن توزع السلطة الإدارية على المستوى الجهوي والمحلي. وقد أكد الملك محمد السادس، في خطابات سابقة، على الطابع الإستراتيجي للاتمركز الإداري لما له من أهمية في النهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحفيز الاستثمار وخلق فرص الشغل والرفع من جودة الخدمات الاجتماعية. وقد قدّم كل من سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة، وعبد الوفي لفتيت، وزير الداخلية، خلال المجلس الوزاري ليوم أمس الاثنين، عرضاً حول التوجهات العامة لسياسة الدولة في مجال اللاتمركز الإداري تقوم على قواعد جديدة تحكم العلاقات المختلفة بين الإدارتين المركزية واللاممركزة. وفي هذا الصدد، أشار العرض إلى أربعة محاور رئيسية؛ أولها اعتماد الجهة كمستوى ترابي مناسب لهذه السياسة يكون فيها والي الجهة ممثلاً للسلطة المركزية على مستوى الجهة، بما يضمن تنشيط عمل المصالح الترابية للقطاعات الوزارية، والتنسيق والالتقائية والمتابعة وتنفيذ المشاريع العمومية المبرمجة على مستوى الجهة. وينص المحور الثاني على الارتقاء بالمصالح اللاممركزة إلى محاور أساسي على المستوى المحلي، من خلال تمكين ممثليها بالجهة من السلطات التقريرية اللازمة. ويشير المحور الثالث إلى تقديم الدعم للجماعات الترابية وتقوية قدراتها في إطار من الشراكة والتعاقد مع مختلف الفاعلين الجهويين، وكذا بتتبع تنفيذ المشاريع الهيكلية على المستوى الجهوي. في حين أورد المحور الرابع، ضمن العرض الذي قدم أمام الملك، وضع مخططات مرجعية في مجال تحديد الاختصاصات والوسائل التي سيتم نقلها إلى المصالح اللاممركزة للقطاعات الوزارية، والالتزامات المترتبة عن ذلك، ووضع آليات لقيادة وتنسيق ومتابعة وتقييم تطبيق هذا الورش الهيكلي. وقد دعا الملك، خلال المجلس الوزاري، إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة، في أقرب الآجال، لنقل مجموعة أولى من الصلاحيات والوسائل من المركز إلى المصالح اللاممركزة، وتجاوز التحفظ غير المبرر من قبل بعض الإدارات المركزية في هذا الشأن. وليست المرة الأولى الذي يثيرها فيها الملك هذا الموضوع، فبحسب محمد صالح، الباحث في العلوم السياسية، فإن الدعوة الملكية لإخراج ورش اللاتمركز إلى حيز الوجود تعود إلى سنة 2002؛ لكنه أشار إلى أن "الحكومات المتعاقبة لم تستطع، منذ ذلك الحين، وضع نظام دقيق له". وأشار الباحث في العلوم السياسية، في حديث هسبريس، إلى أن الدعوة الآن تأتي "بعد 7 سنوات على إقرار دستور 2011، الذي بوأ الجماعات الترابية مكانة مهمة في المشهد السياسي المغربي، حيث نص في الفصل ال157 على ضرورة إصدار ميثاق للمرافق العمومية من أجل إرساء قواعد الحكامة في تسيير الإدارات العمومية والجهات والجماعات الترابية". ويرى صالح أن "التأخير في إخراج ورش اللاتمركز أسهم بشكل كبير في تعطيل أحد الأوراش الكبرى التي راهن عليها المغرب المتمثل في الجهوية المتقدمة"، حيث شدد على أن "هناك علاقة وطيدة جداً بين الجهوية واللاتمركز، ونجاح الأولى هو رهين بإقرار الثاني". وفي رأي المتحدث ذاته، لا يكفي منح الجماعات الترابية صلاحيات واسعة في تدبير الشأن العام محليًا، في الوقت الذي لا يزال فيه القرار الإداري مركزياً؛ لأن هذا الوضع يؤدي في الغالب إلى تأخر إطلاق العديد من المشاريع والبرامج التنموية المحلية أو تعطيلها، تتأخر الإدارة المركزية في اتخاذ القرار نتيجة للضغط الذي تعرفه. ويؤكد محمد صالح أن "إقرار اللاتمركز بالمغرب يستدعي توفر الفاعلين السياسيين والشركاء الاقتصاديين على إرادة حقيقية في إطار إصلاح شمولي يقتضي مراجعة السياسات العمومية وتفكيك طابعها الممركز، والتخفيف من ثقل الدولة الممركزة على حساب الدولة الترابية التي ما زالت ضعيفة، عبر بناء عناصر الثقة بينهما"، مشيراً إلى أن "الجماعات الترابية ما زالت تشعر بأنها مهمشة ومغتصبة الحقوق ولا تعامل على أنها كيان منتخب له مقومات بحكم الدستور والقانون". ويعتبر الباحث أن "الخطوط العريضة التي قدمتها الحكومة من أجل اللاتمركز الإداري يظهر أن هناك فعلاً نية من الحكومة إلى نقل جملة من الاختصاصات من الإدارة المركزية إلى الإدارات اللاممركزة، بما سيسهم في تخفيف الضغط على الدولة المركزية أولاً، وكذا تسريع تفعيل البرامج التنموية والسياسات العمومية المحلية وتسهيل تتبع تنفيذية". ويبقى من غير الممكن، حسب تصريح الباحث في العلوم السياسية، في الوقت الحالي "الجزم بمدى فعالية وجدية السياسة اللاممركزة التي تعتزم الحكومة انتهاجها، فلا يزال الوقت مبكراً عن ذلك، إذ لا بد من أن ننتظر صدور ميثاق اللاتمركز حتى نخضعه الدراسة والتجربة للتأكد من مدى جديته وفعاليته". ولعل حديث الملك محمد السادس، في أكثر من مناسبة، عن ضرورة إخراج ميثاق اللاتمركز إلى حيز الوجود دفع حكومة سعد الدين العثماني إلى وضعه ضمن أولوياتها لسنة 2019، بتضمينه ضمن أولويات مشروع قانون المالية للسنة المقبلة. وقد تعهد العثماني، في المذكرة التأطيرية لمشروع قانون المالية لسنة 2019، بإصدار ميثاق اللاتمركز الإداري، الذي سيوضح تفاصيل نقل الصلاحيات من المركز إلى الجهات وعلاقات السلطة المركزية باللاممركزة داخل أجل لا يتعدى نهاية شهر أكتوبر المقبل، أي على بعد شهرين من الآن. ومن شأن هذا الميثاق، الذي كان مقرراً أن يصدر سابقاً وفق ما تعهدت به الحكومة، أن يتيح للمسؤولين المحليين اتخاذ القرارات وتنفيذ برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، في انسجام وتكامل مع الجهوية المتقدمة، التي بدأ العمل بها في 2015؛ لكن ببطء شديد نتيجة تأخر صدور المراسيم التطبيقية المرافقة للقانون التنظيمي المتعلق بالجماعات.