عهد التميمي أيقونة من أيقونات النضال والمقاومة الفلسطينيين وستظل كذلك، وكعادة الأيقونات لم تختر هي نفسها هذا الدور كما هو حال الطفل محمد الدرة خلال الانتفاضة الثانية، مثلا، أو الطفل حمزة الخطيب خلال بدايات الثورة السلمية السورية. كان قدر عهد أن تخرج للحياة في قرية النبي الصالح، وهي قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 500 نسمة شمال مدينة رام الله في الضفة الغربية، لكن سمعتها في مقاومة الجدار العازل والاستيطان أخرجتها إلى العالمية. شخصيا تعرفت على القرية من خلال قنواتنا المحلية، وصحافيونا ينطقون اسمها بلكنة فرنسية... تعرف القرية بتظاهراتها الأسبوعية كل جمعة بعد الصلاة، وحتى سنوات قليلة كانت عادة المتعاطفين مع القضية عندنا الخروج كل جمعة وقت العصر أمام مبنى بورصة بروكسيل، وكأنهم في توافق على الطور مع روح القرية الصغيرة... في هذا الجو العام سوف تعرف عهد الطفلة، ككثير من أطفال وطفلات فلسطين، بجرأتها ونضالها ضد الاحتلال، وسوف يتم تداول فيديوهاتها على الأنترنت. خفت عندنا وتيرة الوقفات الداعمة للقضية وتقريبا نقص التعاطف مع القضية في شموليتها نظرا لحالة الانقسام والاستقطاب الفلسطينيين للأسف الشديد، وهي حالة عامة وكونية. لكن أحداث المسجد الأقصى والقدس وتظاهرات العودة أعادت القضية إلى الواجهة وسمحت لها باستعادة كثير من متعاطفيها، بل واستقطاب أعدادا جديدة. مرة أخرى سوف يتدخل القدر وسوف يؤثر آخر فيديوهات عهد وهي تقف ندا لند ضد جنود الاحتلال المدججين بالأسلحة والمتربصين لقنص أبناء قريتها من أمام بيتها مختبئين، تواجههم بحالتي ذهنها ونفسيتها في اللحظة نفسها حد صفع أحدهم يأسا كما سبق ولقبت الصحافة العالمية أطفال وطنها بأطفال الحجارة، لأن الفلسطينيين عموما لم يجدوا سبيلا ليدافعوا عن أنفسهم إلا أسباب القوة نفسها التي يملكها المحتل... مورفولوجيا عهد صقلت رمزية أيقونيتها في مخيال الغربي المتوسط والغربية المتوسطة الذين يؤمنون بامتداد دولة إسرائيل حضاريا وديمقراطيا للمجال الحضاري الديمقراطي الغربي رغم جغرافيتها، وبالتالي يؤيدون ضمنيا سياسات قياداتهم المناصرة دون شروط لسياساتها... اعتقالها مقارنة بفعل مقاومتها ومحاكمتها، كما الحكم عليها، أمر يستفز هذا الكائن الغربي المتوسط الذي جعلته ملامح عهد ومظهرها يقترب منها ويجد نفسه فيها، فهي تقريبا تشبهه (فحتى المسيح عليه السلام الذي ولد في بيت لحم أشقر وعيناه زرقاوان في التمثل السينمائي الغربي للشخصية). لقد صار اعتقال عهد التميمي عبئا على دولة إسرائيل أمام خزان دعم وجودها الغربي شعبيا، ومسيئا جدا لصورتها. هذه الدولة التي عرفت كيف تخلق موجة ثورة مضادة في عالمنا العربي لتخنق تهديدها الأخطر في المنطقة: تحرر شعوبنا العربية ودمقرطة مجتمعاتها حيث الحكم للشعب، سوف تجد الحل سريعا مع عهد التميمي وهي تحقق قاعدة من قواعد علوم الإدارة والتسيير: القدرة على تحويل التهديد أو الصعوبة إلى فرصة. كانت فرصتها في هدم صورة القضية من خلال هدم صورة أيقونتها المحينة عند أهلها أولا: الفلسطينيون والعرب، وإيصال خطاب مطمئن على صورتها هي للجمهور الذي يهمها أكثر، الجمهور الغربي من خلال عهد نفسها، أما ما يخص شعوبنا فهي تتفاوض مباشرة مع حكامنا الذين لا تهمهم الشعبية ولا الشعوب ولا تتحكم في مصائرهم واستمرارهم في الحكم... سوف يحسن الاحتلال من ظروف اعتقال عهد ووالدتها ويجعلها مثالية تقترب من شروط سجون السويد، ثم يسرع بإطلاق سراحها. عهد ببراءتها وقلة خبرتها، بل حتى أسرتها لن تنتبه ولن تمانع حكيها لأن والدتها شاهدة عليه، سوف تحكي بما عاشت بكل عفوية وعلى كل الشاشات، وسوف يُعمل على تعميم فيديوهاتها أكثر، وكلنا نخبر الآن برد الفعل والتوجه الناتجين عن ذلك. هذه الحادثة ليست جديدة تماما كاستراتيجية لتوصيل رسالة من قناة حقيقية وشرعية عن طريق واقع مركب بطريقة سينمائية. فبعد تفشيل العملية السياسية في الجزائر وبدايات العمليات الإرهابية والانتقامية فيها التي ستؤسس لحقبة العشرية السوداء الدموية التي جعلت الجزائر تزهد في ريح الربيع العربي، سوف يخضع السيد عالي عالية، أحد مشايخ الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذين تم إبعادهم عن القيادة في مؤتمر باتنة الذي أفرز قيادة شابة يترأسها السيد عبدالقادر حشاني رحمه الله والتي قادت آخر الانتخابات التشريعية وقتها، سوف يخضع تقريبا لعملية خطف يعيش فيها أبشع ما يمكن اقترافه باسم الإسلام، تقريبا كما تم استعمال "داعش" في الثورة المضادة (مع مجموعة من الإرهابيين يطلبون دعمه الشرعي)، بعدها سوف تحرره السلطات الجزائرية وسوف يقدم على التليفزيون الجزائري يحكي شهادته بكل عفوية وبألم وحسرة وغضب وانفعالاته تسبقه والهلع متمكن منه وهو يعيد بيديه إشارة الذبح ويصيح :(حد الله، شرع الله) تقريبا دون انقطاع... كانت هذه من أكبر بدايات خلط الأوراق في الجزائر وتحويل حلم الديمقراطية إلى الحرب على الإرهاب. وكذلك نجحت إسرائيل لحظيا في قطع حبل المقاومة السري بين عهد التميمي والمقاومة الفلسطينية في المخيال الشعبي العربي العام إلى أن ننضج أكثر ونتعلم بدورنا كيفية تثمير الرموز والإشارات.