"إن الدرس الصحيح إنما هو درس الإنسان نفسه" كما قال الشاعر الانجليزي "ألكسندر بوب" في رائعته المشهورة "مقالة عن الإنسان". لكن لمَ يجب أن يكون الإنسان المفكر الدارس هو موضوع الدرس نفسه ..؟ لا شك أن من أعسَر الدروس هو دراسة الإنسان نفسه؛ لما له من حساسية وما يتطلبه من دقة مقارنة بدرس أي ظاهرة أخرى غيره ..! فلكل واحد منا قدرة على دراسة نفسه ومجابهة صعابه النفسانية التي تواجهه وتقابله بينه وبين نفسه ، وبينه بين غيره ، وبينه وبين منطق الحياة وتشعباتها واختياراتها ، فتلك عملية رياضية من أمتع الرياضات وألذها وأشوقها حينما تغوص مع الذات تحاورها فتجيبك، وتصاحبها فتصحبك، تتجاهلها أحيانا فلا تتجاهلك إخلاصا لك..! فمن منا يرفض أن يفكر ويغوص في ذاته مكتشفا ومحاورا وموجها ومعاتبا ..! رحلة التفكير هاته رحلة شائقة ، ماتعة ، فنحن عندما نرغب فيه ؛ نكون قد ألزمنا أنفسنا باتباع منهج يتوافق وذواتنا واتجاهاتها وميولاتنا . ولكي يكون هذا التفكير هادفا ، ومصيبا ورائقا، لابد أن ينحل طرقا، ويسلك دروبا تنسجم وأدوات تحليله ومنها : - تحديد وجهة تفكيره تحديدا واضحا كي لا يتشتت تفكيرنا ولا يضيع في تأملات مبتورة تتقاذفها أهواء أو رغبات دفينة أو حتى أزّاتٍ لشياطين العقل والنفس . - أن نترك موضوعاتنا تتخمر في أذهاننا وتتبلور مدة من الزمن لا نعاود التفكيىر فيها لتنال فرصة التكييف والتبلور في باطن عقولنا ، ونتفرغ لعمل ما يختلف تماما عن موضوع تفكيرنا التي وضعناه محل تدبرنا ، فقد تأتينا الفكرة المرجوة والعبارة المناسبة وهي حلوة لذيذة ، وتتجلى لنا واضحة لا لبس فيها ، وهذا ما نسميه اشتهارا "بالإلهام "... ومن طريف ما يحكي في هذا الباب أن الفيلسوف الألماني الشهير "إيمانويل كانط" أنه كان يكتشف أمتن نظرياته الفلسفية وهو يقرأ كتب الرحلات التي ليست لها علاقة بمواضيع بحثه وفلسفته ...! و"إزادورا دنكان"_ راقصة عالمية_ كانت تبتدع أروع الأنماط في الرقص وهي تقرأ " تحليل العقل الصرف" لكانط نفسه ! وقد سئل رسام كبير كم قضى لرسم لوحته تلك ، فكان جوابه : "طيلة حياتي" ..لأن تاريخ فكرتها وتطورها أخذ منه تاريخ حياته وتطوره الفكري حتى إذا نضجت ، أثمرت عملا ونتاجا غاية في الجمال والجلال ..! أيضا لابد أن نُخضع أفكارنا وتفكيرنا لمحك التجربة وميزانها ؛ إذ بالتمحيص والتتبث والتحقيق والمقابلات والمقارنات تثبت أفكارنا على أساس من الصحة والوجاهة والدقة ..! ومن أساسات التفكير وفنه ، عرض أفكارنا التي تختلج أعماقنا على التجارب المبثوتة في الكتب القيمة المنتقاة ، والروايات الخلاقة والمسرحيات الأصيلة ، والأعمال الفنية من رسم ونحت وتشكيل وموسيقى ؛ لأن ما يلهمنا إليه الفن هو هبة الحياة الرفيعة التي تمنح سر الحياة وبريقها وجمالها ،فالفن ليس محصورا فيما سبق إطلاقا ، بل هو فيما يواجهنا كل يوم حيثما أدرنا نظرنا أشكالا وألوانا او وضعا من الأوضاع ، أو مطلبا من المطالب، أو حاجة من الحاجات.... الحياة في نظري في جملتها وتفصيلها ما هي إلا عمل فني محكم جميل ينضح بهاء ورقة وعذوبة وحبا أبدعه مبدع حكيم جميل جليل ....! إننا عندما نفكر نكون قد أتبثنا وجودنا ، واكتشفنا أننا فعلا نستحق أن نكون وأن نتأمل، وأن نعيد صياغة ذواتنا كما نراها بعد كل حين من تقليب النظر فيها ؛ فحينًا سعادةٌ وإشراقٌ وحب وجمال وجلال ، و حينا آخر نزعات غريبة يتملكها يأس وحزن يهجم علينا فجأة لا نعلم سببه أو مرماه أو غايته التي من أجله زارنا و0كتنفنا ....! إن حياتنا مليئة بالفن والجمال والموسيقى ؛ يكفي فقط أن نحيطها بصور الجمال وأن نسكرها من روح موسيقى الوجود الخالدة فلا يسعنا إلا أن تكون نفوسنا جميلة ، نبيلة ، صادقة في كل ما يأتي مما سنحيا ونعيش...! *هذه المقالة إهداء لروح كاتب سوداني عرفته و0كتشفته قبل يومين وشغفت بحبه شغفا كبيرا؛ إنه"معاوية محمد نور"، فلترقد روحك بسلام ...