يأتي "تفكيك مفهوم الجزية" للدكتور العبادي على غرار كتيبه" تفكيك مفهوم الجهاد" في سياق حربه الشاملة ضد "الفكر المتطرف" الذي يسئ إلى الإسلام ويشوهه وينقلب على قيمه وأخلاقه كما تقول الرابطة وفي سياق العمل على محاصرته والدفع به نحو الانكفاء والتراجع. يتناول أحمد العبادي في كتيبه هذا مفهوم الجزية وهو يتوهم أنه وحتى ان لم يصرح بذلك أنه سيعيد إلى هذا المفهوم روحه وفق المنطق المعاصر فيصدره بحديثه عما يراه هو فلسفة للدين في التمكين للحقوق ويبرزها في "الأخوة الإنسانية" و"تكريم الإنسان" و"الحق في الاختيار" و"عمارة الأرض" و"تحريم الظلم" و"البر والقسط بين الناس" و"الوفاء بالعهود والعقود والمواثيق". ولا شك أن هذه المبادئ متداخلة ومترابطة بشكل بعيد فالواحد من هذه المبادئ يسلس إلى الآخر ويفضي إليه فلا نتصور مبدأ دون غيره ولا نتعرف إلى واحد بمعزل عن الأخر. وتحدث عن الأقليات الدينية والعرقية وغيرها في المجتمع المسلم وقال إنها "حظيت بحقوقها التي ضمنها لها الدين بل جاء التحذير من المساس بها " ونشير نحن إلى أن هذه الدعوى تكذبها الوقائع التاريخية وأن العبادي يقرأ التاريخ في النصوص وليس العكس. يظهر هذا في جملة النصوص الحديثية التي أوردها حتى يؤكد بها الدعوى و يزكيها، والأقوال التي انتقاها عن طائفة من أهل العلم ليخدم بها مشروعه ويكرس بها رؤيته. وفي محاولته تقديم فهم سليم للجزية نقل عددا من آراء الفقهاء صدرها بقوله" زعم بعض الفقهاء أن أهل الكتاب مخيرون بين الإسلام والجزية فإما أن يدخلوا في الإسلام فيملكون حق المواطنة الكاملة في ظل الدولة المسلمة أو يقبلون الخضوع والاستسلام للنظام والحكم المسلم مع أداء الجزية ". ونحن لا نعرف ما وراء كلمة "زعم" تلك، إذ فيها من الغمز واللمز والاتهام ما لا سبيل إلى الشك فيه. فتعبيره ذاك يشي بأن هناك رأيا أقوى من رأي هؤلاء الفقهاء، وأن كلامهم الذي ساقه مجرد زعم لا دليل عليه ولا سند له، لكنه لم يأت على ذكره لنقارن بينه وبين الرأي المزعوم للفقهاء، بل على العكس من ذلك، ذكر طائفة من آراء أهل العلم والفقه لا تكاد تخرج عن ما تواتر نقله عنهم. صحيح أنه سعى إلى النيل منها وردها إلا أنه فعل ذلك بمنطق ضعيف، وضعيف جدا. و مع أن هؤلاء الفقهاء لم يصنعوا شيئا غير أن أعادوا صياغة الآية القرآنية الكريمة بلسانهم ولغتهم حيث أن القرآن الكريم وهو الدستور الأسمى للمسلمين حث المسلمين وندبهم لمقاتلة أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ثم إنه بعد أن ينقل ما جاء عن العلماء من تفسير لقوله تعالى "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" التي لا تكاد تخرج عن أن معناها أذلة وحقيرون يستنتج أن هذا المعنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه من أقوال النبي من وجب البر والعدل". كيف استنتج العبادي ذلك مع أن الفقه الإسلامي ونحن لا نعرف يكرس صورة من المذلة والهوان، لا يمكن بأية حال من الأحوال، أن تؤول بالبر والقسط ، إذ قالوا يأخذها الأخذ وهو جالس فأما الدافع فيدفعها وهو واقف. وقال الشافعية أن الصغار أن يأخذ بلحية النصراني بيده اليسرى ويشدها ويدفع النصراني آو اليهودي بيده اليمنى ،وهذه صيغة الصغار والذل أثناء دفع الجزية وينحني إثناء دفعها. وهذا هو المشهور بين العلماء. وحتى الذين خالفوا إنما بقي خلافهم حبيس كتبهم. وإلا فالمفسرون الذين نتناول كتبهم ونعتبرها مراجع لنا كلها لا تكاد تخرج عن هذا المعنى، وأصحاب المذاهب أيضا على هذا. والشروط العمرية تشرح جيدا معنى الآية الكريمة حيث ألزمت أهل الكتاب: نصارى ويهودا بعدد من الأمور تجعل من يرغبون في تجديد الإسلام بهذه الصورة وتقديمه بهذا الشكل في وضعية لا يحسدون عليها. فقد أخذ الفاروق على هؤلاء أن يلبسوا لباسا خاصا بهم يميزهم عن المسلمين. وأخذ عليهم لبس الغيار والزنار. وأن لا يسيروا وسط الطريق وأن يطيلوا سوالفهم علامة على الجزية. كما أخذ عليهم أن لا يحملوا سلاحا وأن لا يركبوا الخيول مسرجة، وإذا ركبوها أن يكونوا عريا وأن تكون رجلاهم من جهة واحدة، وأن لا يدقوا أجراسهم أو نواقيسهم، وأن لا يعمروا كنائس جديدة وأن لا يخرجوا في أعيادهم ولا في شعانينهم. كما نقل النووي وغيره. فهل بقي لنا أن نتحدث عن وجوب البر والقسط بعد هذا الذي سقناه؟ وهل الشروط العمرية تؤكد ما ادعاه الأستاذ العبادي؟ وحين أعياه أن ينتقل من مفهوم الجزية وصورتها كما هي النصوص التراثية إلى ما يعتبره هو فهما معاصرا، انتقل إلى الزعم أن "الدولة الحديثة تنبني على قواعد من أهمها المساواة وروح المواطنة والقانون ووحدة الأمة لذلك لا فرق بين مسلم وغير مسلم في تحمل الأعباء ونيل الحقوق. ومن ثم لا يجوز فرض الجزية على غير المسلمين بحجة حمايتهم أو احتفاظهم بدينهم" مؤكدا على أن "مبدأ المواطنة وعدم التمييز بين المواطنين يتأسس على روح الشريعة وعلى مقاصدها الكلية ". ودون مقدمات ينتقل إلى الحديث عن تنظيم الدولة الإسلامية [داعش] ويقول أن فرض الجزية من قبل هذا التنظيم فعل مشين ونهب منظم وسرقة لأموال الناس بالباطل. لا نعرف وجه القرابة بين حديثه عن الجزية كما كانت أيام عز المسلمين وتفوقهم وبين ما تعرفه الأراضي العربية الواقعة تحت سيطرة داعش؟ فالرجل لم يوضح لما كانت الجزية شيئا حسنا ومقبولا ومبررا في المجتمع الإسلامي التاريخي؟ ولما أصبحت اليوم غير ذلك ؟ ولماذا كانت الدولة الإسلامية سابقا تأخذ الجزية من أجل أن تحمي الذميين وتضمن لهم حقوقهم المرعية؟ في حين أن التنظيمات الإسلامية اليوم عندما تسيطر على إقليم ما وتعلن نفسها ذات سيادة عليه يصبح فرضها الجزية غير مبرر وغير مقبول وغير مشروع . ونفتح هنا قوسا لنشير على أن هذا التساؤل تساؤل بريء ولا يعنى بالانتصار لا لهؤلاء ولا لؤلئك وهو إنما يهدف إلى التنبيه إلى أن هذه الأدلة والشواهد التي عرضها العبادي لخدمة موضوعه اوهن من بيت العنكبوت وأضعف. لقد كان حريا به أن يثبت بالدليل الشرعي أن الجزية الآن أصبحت على النقيض من الإسلام وروحه وأن يعتمد في ذلك على علم أصول الفقه ويركز على مقاصد الشريعة التي تحلو له الإشارة إليها كلما سنحت الفرصة. ما الرابط بين تغير الدولة وتغير القواعد التي تعتمد عليها بضرورة أن تتغير المفاهيم الشرعية ؟ هل يكفي أن تتحول الدولة حتى تتبدل الشرائع ؟ من يحكم من ؟ الشرع أم النظام الحاكم؟ إن موضوع الدراسة[تفكيك مفهوم الجزية] والنهاية التي رصدتها لم تكن في حاجة إلى كل ذلك التأصيل المدعى، إذ ليست بينهما أية رابطة أو صلة، بل ربما كان حسنا بالنسبة للكاتب أن يشرع في حديثه عن موضوع الجزية انطلاقا من نظرته إلى دولته الحديثة، والمبادئ التي تؤمن بها. ما الذي جعل الدولة الحديثة تتوقف عن الأخذ بالجزية؟ هل اعتمدت في قرارها ذاك على علماء وفقهاء اجتهدوا ورأوا أن الجزية الآن لم تعد صالحة، وأن الأصل فيها هو تركها لأن فيها مساسا بالدين وإساءة له؟ إن رسالة من هذا النوع لا تصلح أن توجه للمسلمين المفترض فيهم أنهم سيكونون مشاريع للمتطرفين، لأن هؤلاء المتطرفين المفترضين لا يلتفتون إلى اللغة التي صيغت بها رسائل الرابطة المحمدية. إن أولئك الشباب الذين يؤمنون بالمشروع الجهادي لا يعترفون بالدول الحديثة أصلا، وإنما يسعون إلى هدمها بحسبانها كيانات طاغوتية تكرس سلطة الطاغوت .وربما كان أكبر مسوغ لوجود هذه الايدولوجيا وأكبر مبرر لها ولعملياتها هو هذا الحضور الهائل والكبير للدول الحديثة التي تستمد شرعيتها من القوة. كما أن من أوضح آيات صلابة إيمان هؤلاء الرجال هو براءتهم من الغرب وحلفائه من حكام العرب والمسلمين ، وهو كفرهم بكل ما يرد من الغرب. إن مشروع السلفية الجهادية بأذرعها العسكرية قائم على حلم تقويض الدول الوطنية الحديثة وإسقاطها لأنها عطلت الشريعة وسارعت إلى التماثل ظاهريا على الأقل مع الغرب وبالمقابل إحياء الخلافة كنموذج إسلامي متفرد، يشكل نقيضا لكل النماذج السياسية الغربية ويعيد إلى أذهان المسلمين اليوم مفهوم أهل الذمة ومفهوم الجزية والسبي والاسترقاق، حتى وهي تسدد ضربات موجعة للإسلام وتسيء إليه أيما إساءة. والجهاديون، اليوم، ينتفضون ضد كل المحاولات التلفيقية والتوفيقية التي تنهجها حركات الإسلام السياسية، حتى أنهم يكادون يجعلون من أصولهم مخالفة هذه الحركات، ويعتبرونها حركات انهزامية متخاذلة، بل إنهم يصنفونها جماعات خائنة ومتآمرة مع الغرب ضد امة الإسلام. ولذلك لا نعرف كيف أصبح عمل الأنظمة [العربية والإسلامية ؟؟] من أصول الفقه ومن مصادره وقواعده؟ حتى تصدر زمرة علماء الربطة في فتاويها عنها وتتصدى لتناول النوازل وما شابهها على ضوئها. كيف سيقتنع الشباب الجهادي بضرورة التنازل عن قضايا فقهية خطيرة شغلت حيزا هاما وحظيت باهتمام شديد من قبل العلماء، فقط لأن الدول الحديثة التي نُزع عنها غطاءها الشرعي وسقطت عنها ورقة التوت التي كانت تستر بها عوراتها أرادت ذلك؟. وكيف تجاهل الدكتور العبادي طبيعة السلفية الجهادية وأنها سلفية من حيث المنهج، وبالتالي فإنها مدرسة الدليل كما تسمي نفسها، ومنهجها هو هل لك في ذلك إمام أو سلف؟ هل قال بقولك هذا أحد من سلف الأمة وأعلامها المعتبرين؟ وأنه مهما اجتهد المجتهدون اليوم فإن اجتهادهم لن يفيد في شيء. ثم الرجل يزعم أن المواطنة وعدم التفريق بين المواطنين يتماشى مع أصول الشريعة ومقاصده الكلية. لقد كنا ننتظر منه أن يشرح لنا كيف ذلك؟ فنحن على يقين من الإسلام على الأقل كما تشرحه الأطروحة السلفية الجهادية جاء يفرق بين الناس على قاعدة الإيمان، وعلى قاعدة العقيدة ،وجعل الولاء والبراء موقوفا على أساس عقيدته و فكرته. كما أن الوطنية، من جملة الطاغوت ومن ألوانه وصوره التي يتعين على المسلم الذي يرى الإسلام في مرآة السلفية الجهادية أن يكفر به. فقد نص غير واحد من رجال هذه المدرسة ومن شيوخها أن الوطنية طاغوت يجب الكفر به، خاصة وأن هذه المدرسة تعتبر أن كل ما ينعقد عليه الولاء والبراء غير الله، فهو طاغوت لا يصح إسلام المرء وإيمانه إلا بالكفر به. والحق أن هناك محاولات صدرت عن مفكرين محترمين،[وذلك قبل الرابطة] سعت إلى رفع الحرج عن المسلمين بسبب هذا الإشكال، وكانت أكثر تماسكا ومنطقية إلا أنها لم تفد شيئا ولم تف بالغرض. منهم راشد الغنوشي ومحمد سليم العوا وعبد الكريم زيدان والقرضاوي وغيرهم، حيث انتهى هؤلاء إلى أن "ما تحقق في مجتمعاتنا من اندماج بين المواطنين رغم تباين واختلاف دياناتهم ومللهم يجعل مفهوم أهل الذمة غير ذي معنى ويقتضي الاستغناء عنه "كما يقول الغنوشي في الحريات العامة. وزعموا أن الجزية إنما كان يفرضها الإسلام على الذميين مقابل إعفائهم من المشاركة في القتال، مما يعني أن مشاركتهم فيه وقيامهم بواجب الدفاع عن الوطن يجعل الجزية غير ذات موضوع. فهذا الرأي فيه الكثير من الخطأ، فالآية الكريمة نصت بطريقة واضحة لا لبس فيها أنه يتعين على المؤمنين مقاتلة أهل الكتاب "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" فكان مراد الآية الكريمة هو إخضاع أهل الذمة ولذلك فإن مبرر دفعهم للجزية ليس ما يدعيه هؤلاء، وإنما هو كونهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يدينون دين الحق، وبالتالي فان رفع الجزية عنهم حسب الآية رهين بإيمانهم بالله وباليوم الأخر ومتوقف عليه. ومن المعلوم أن هؤلاء المفكرين "التنويريين" يواجهون حملة تحريضية عنيفة تجعل منهم زنادقة أو هم إلى الزندقة أقرب. ولذلك لا يكون لاجتهادهم تأثير كبير. مثال ذلك أن عمر محمود أبو عمر لا يتوقف عن وصفهم ب"الأرأيتيين المنهزمين" والقول أن الخلاف بينهم "وبين العلمانيين خلاف لفظي فما من باقعة وطامة ومصيبة تفعلها الأحزاب العلمانية إلا وهذه الأحزاب والشخصيات والمفكرون الأرايتيون قد أتوا بها وفعلوها وقبل ذلك نسبوها لشرع الله أي ازدادوا ظلما على ظلم". إن الرد على الخطاب الإسلامي "المتطرف" كما يصفه خصومه يحتاج إلى تكاثف وتضافر أكثر من مقاربة وأكثر من مجهود.لأنه لا يتغذى فقط من الخطاب والسجال وإنما من قضايا ومن أشياء آخر أقوى وأخطر !! والله أعلم.