من الطبيعي لكل مسار فكري -فردي أو جماعي، يعيش حاضره منطلقا من ماضيه ليستشرف مستقبله- أن يتفاعل في نفسه وعلى الملإ نقاش موضوعات عيشه وسكنه، وترحاله المادي والمعنوي على السواء. وبطبيعة أحوال اهتمامات الشعوب التطرق لعلاقاتها بحكامها وملوكها وأمرائها ومختلِف أنواع رؤسائها الصغار والكبار، إنْ في مستوى النكت الصريحة أو المُلَمِّحَة، أو في مستوى إثارة القضايا وتحليلها في الخاص أو العام. لبعض إخواننا المغاربة قناعة بأن الملكية في شكلها الحالي معيقة للتقدم وللتطور وللتنمية، ولتجاوز إعاقة الملكية لذاتها وإعاقتها للتنمية ينبغي تحقيق مفاوضات ليس مع الأحزاب، ولكن مع مركز السلطة الملكية. وهم قد يعبّئون بتلك القناعة ومن خلالها لاستحقاقات متنوعة، لا أدري حدودها الجغرافية والنفسية والفكرية. وقد أثارتني قناعتهم لأسطّر هذه الأحرف مبيّنا ما أراه مناسبا لفهم علاقة ملكيتنا بالتنمية في متعدِّد أبعادها، وفي مسارها المغربي على الأقل منذ عهد الراحل السلطان محمد الخامس أجزل الله عطاءه. أقول هذا وأنا واع تمام الوعي أن للمغرب خصوصيته التي لا ينكرها إلا جاهل أو جاحد، خصوصية تجعله متفرّدا بهويته ذات الثقافات المتنوعة المتكاملة. ولا ينخدعَنْ أحدٌ بمسألة التبعية للشرق أو للغرب، بلغة الفكر المعاصر المحلل للشأن الاستعماري ونظرية المؤامرة، فأصالة المغرب تاريخيا موجودة قبل نشوء الشيوعية وفروعها الاشتراكية، وبالنسبة لأمريكا قائدة الاتجاه الغربي كان مغربنا -الدولة قائمة الذات بمؤسساته الحضارية- من أوائل من اعترف بكيانها وجودا على وجه البسيطة، فليست أمريكا أسبق من المغرب. إن عدم التنبه لمسار مسلسل التنمية بمغربنا السائر بخطاه المتئدة للتخلص من بقايا أثقال الاستعمار الذي تناوبت دوله وأجناسه على نخر جسمه أزمنة طوالا، وملء شرايينه بدماء تناسب تحقيق مصالحه عبر الزمان والمكان، بشتى المعاهدات والاتفاقيات ما نعلم منها وما لا نعلم، عدم التنبه هذا يسقط في الإيهام بأن كل من رَكِبَ خِطاباً معارضا ما، فهو يملك الحقيقة ويصدع بالحق وأنه ملاذ المستضعفين والمسحوقين. إن "قول الحق" هذا و"النقد الهدام" بتوهّم إبراز عيوب الملكية وأنها مُعَوَّقَة [بصيغة اسم مفعول] في ذاتها ومُعَوِّقَة[بصيغة اسم فاعل] لغيرها، مما يمكن معه -لا قدّر الله- أن تَخْلُقَ فِتَنٌ في الحد الأعلى تضيع بين أرجله الحقوق والأنفس والأرواح داخل المجتمع، وتمهّد للمغرضين الانقضاض عليه وتنفيذ ما هو مخطَّطٌ له سلفاً، أو يتحقق استقطاب استحقاقي مصلحي في الحد الأدنى تضيع بتصارع أقطابه وتياراته مصالح الشعب في تسيير قضاياه بأثرة وعدم انسجام بين أطياف المتحمّلين عبء سياسة شؤونه. وكِلا هذين الأمريْن يشكّل تطرفا؛ وكلا طَرَفَيْ قَصْدِ الأمور ذميم، على حد تعبير علمائنا. إن من يدخل لعبة السياسة بمغربنا بالتسليم لبنودها ومقتضيات قوانينها، قابلا رئاسة الملك لشتى مجالس وزرائها وحكومتها، ثم ما يلبث -بفكرة عابرة راودته- أن ينقلب على الوضع ليُنَصِّبَ نفسَه إمّا في نفس مرتبة الملك وإما في مرتبة المستعمر الغاشم، إذ إن واحدا من هذين هو الأهل لأن يتبوأ درجة "التفاوض" مع "مركز السلطة الملكية". مع ما يدل عليه هذا الوهم من أسلوب التقية ذات احتماليْن اثنين: التعمد الواعي المقيت الذي ينهجه أصحاب هذا الفكر، متوهمين أنهم ينشرون أفكارهم في مجالس خاصة في غفلة عن المسؤولين وأغلبية عموم الشعب. الغفلة عما تنتجه هذه المنهجية من الانطراح بين أيدي من يريد للبلد فتنته وانغماسه فيما لا تُحمَد عُقباه. ولِكِلا الاحتماليْن نفس المؤدّى والنتائج يربأ بنفسه الحكيم العاقل عن خوض غمار الانغماس فيهما. إن عدم التنبه للسياق المغربي العام الممتدّ عبر قرون متعددة منذ تناحرت بهدف تسييره شتى الفرق والمذاهب؛ لِيبقى وسطيا معتدلا سالما، لم يَنْسَقْ لخوائها ولا لعوائها، يُسْقِطُ في المراهقة الفكرية والتسرع غير الناضج في ادعاء ما ظاهرُه يوهِمُ الرحمة، وحقيقةُ باطنِهِ فيه العذاب. إن عدم توافر أي انتماء على ما تتوافر عليه الدولة المغربية من معطيات وتقارير تُهِمّ مساره العالمي قديما وحديثا، يُسقِط في النظرة التجزيئية للأحداث وإصدار متسرِّع الأحكام غير الناضجة؛ إذ لا عمق أفقي وعمودي لأي انتماء يميني أو يساري أو وسطي كما هو للدولة المغربية. كما أنه ينبغي أن يتنبه كلُّ من يتوهم أنه يستأسد -ولو نفسيا- بنصرة ما لأجنبيٍّ يساند فكرَه، عليه أن يتنبه أن جميع الدول منسقة فيما بينها بحسب ما يجلب لها مصالحها الذاتية، قبل أن تخوض في المشترك بينها وبين غيرها. يزكي هذا إفادة سياق من ينتقد معارضا -مثيرا لشَحْن طاقات تمضي ضد الملكية أو "تهذّب" من مسارها- أنه يراهن على تنفيذ رأي غير صادر من تربة مغربنا السياسية، ولابن حزم قول مفاده: "من وضع نفسه موضع تهمة، فلا إثم على من اتهمه". وعليه فلو لم تسيّر مَلَكِيَّتُنا شأنَنا المغربي بمرونة وسلاسة، لما كبر لكل من يناضل اليوم لتحجيم نظامها وتقزيمه شأنٌ، ولما كثر لهم تبع، ولما علا لهم صوت يسمعه العالم داخل الوطن وخارجه، ولكان مُكِّنَ للعصبية الانتمائية بمختلِف أطيافها، خصوصا مَن نفخ الاستعمار وما يزال في بوقها وعوقها، ولأصبح كلٌّ يغني بليلاه، وينصب منصات الإعدام للخصوم كلما عنّ خلافٌ ما، أو خاف على ضياع مصلحة ما. إن من ينسى أو يتناسى أن السياسة الملكية المتكاملة بين عهود ملوكنا محمد الخامس والحسن الثاني رحمهما الله ومحمد السادس حفه الله برعايته، مع جهود المخلصين من المناضلين والمناضلات، أسهمت في حصول هذا التطور والتقدم بحسب ما نمتلك من آليات ووسائل متواضعة، وبحسب ما نجاري ونسابق به خطط الهدم من المستعمر وأذنابه تارة، ومن جميع خصومنا وخصوم وحدتنا الترابية تارة أخرى. من ينسى هذا أو يتناساه هو متعمد في الإسهام بمزيد عراقل لتنميتنا وتوحيد جهودنا، والإسهام في تشتيت انتباهنا وطاقاتنا التي لا يستطيع أن يستغني عن جزء منها مسارُ التنمية بمغربنا. ذلك أن تكامل جهود الراحل محمد الخامس الذي تفانى رحمه الله في وضع أسس التنمية، فتخصصت سياسيا في الجهاد والنضال لتحقيق استقلالنا، بمعية جموع الوطنيين الغيورين، وجهود الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه في مقاربته التي تخصصت في غالبها في الجانب الاقتصادي التنموي للمغرب، وجهود عاهلنا محمد السادس أيده الله ورعاه التنموية وكأنها متخصصة في المجال الاجتماعي، تتكامل كل تلك الجهود محاولة تجاوز مخلفات الابتلاءات التي توالت على بلدنا ردحا غير يسير من الزمان يتطلب أضعاف ذاك الزمان للبناء والتشييد والإقلاع الحضاري المناسب، يتزامن كل هذا ومسلسل الاختراقات للنموذج التنموي المغربي الشّاقّ طريقَه لإكمال مشروع التمزيق والبلبلة والإلهاء؛ تسهيلا لإطالة أمد استنزاف خيراتنا البرية والبحرية التي بدأ مسلسلها حالة ضعف المغرب ونهش آلة الاستعمار في جسده منذ زمان، واكتشاف موارد جديدة يذللون لها سبل السيطرة عليها بشتى الحيل والذرائع في عالم اليوم الذي يغرقنا فيه المستعمر بألوان الديون و"المساعدات" وما إلى ذلك؛ ليرهن تسليم قيادنا له، يتحكم من خلاله في توجيه عجلة تنميته وعرقلة عجلة تنميتنا، خصوصا في زمن انتشار وعي الشعوب بسرعة الضوء. إن صفة إمارة المؤمنين مكتسبٌ ناضَلَت الحركة الوطنية لتثبيته وإقراره في شتى قرارات بلدنا ووثائق سياساته التّجديدية؛ جريا على ما درج عليه أجدادنا على مدار التاريخ، هي صفة تُعَدُّ في حقيقتِها الإجرائية العملية آليةً يتحقق بها تكامل أطياف الشعب والسلطة الملكية، كما هي آليات مختلف الدول الأخرى المحقِّقَة لذاك التكامل؛ إذ إن القاسم المشترك هو تدبير شؤون الشعب وحفظ كرامته وصيانة مكتسباته وتهييء مجال عيشه وتعايشه. مع العلم أن مسار هذه الْمَلَكِيّة في تطوّر مستمرّ بحسب درجة النضج المُدرَكة من خلال مسيرتنا الحضارية، وبحسب مؤهلاتنا المادية والفكرية والمعنوية، وبما يلائم خصوصياتنا وسلامة وحدة ترابنا؛ حتى لا يدّعي مدّع أنه "ينصر المسحوقين" أو "المستضعفين"، وهو في حقيقة أمره يمكّن للمغرضين ممن يدور في فلكهم بوعي منه أو بغير وعي. إن خصوصية صفة مؤسسة إمارة المؤمنين الشرعية -اعتقادا وتشريعا- بأخلاقها وقِيَمِها المُؤثِّثة لها تفرض على المتعامل معها نفس الأخلاق والقيم المسؤولة، لا التأليب والتبييت والتحريض والروغان، وإظهار شيء وإبطان نقيضه. إن شفافية الإيمان تقتضي محض النصح بمحبة وصدق وغيرة وطنية خالصة، فما نَصَحَ مَنْ أغلظ القولَ، وما نَصَحَ مَنْ بَيَّتَ نقيضَ الإخلاص، وما نَصَحَ مَنْ جَيَّشَ مُوهِماً الآخرين بأن المَلَكيّة مَعُوقَة عائقة، وما نصحَ مَن لم يُلِمّ بفقه واقع مغربنا ونظام ملكيته بجميع الاستحقاقات والإكراهات. إن محض النصح والتكامل الحضاري مع مؤسسة إمارة المؤمنين يقتضيان بتعبير علمائنا القدامى: ألا ننازع الأمر أهله، وأن نسعى -بلغة علمائنا المعاصرين- في أن نكون من الدول التي يُوكَلَ إليها مهمة من المهمات الحضارية الكبرى؛ كأن نكون مرجعا مثلا في خدمة العالم غذائيا، أو في صناعة الطيران، أو في الإلكترونيات، أوفي غير ذلك. فهل إذا فاوضنا مؤسسة إمارة المؤمنين لنقتسم معها التسيير سنحقق الريادة في المهمات الحضارية مما مثَّلتُ له قبل قليل؟ وهل إن لم نفاوض مركز السلطة الملكية سيتوقف مسار التنمية ولن نصل إلى أهدافنا الحضارية؟ إن جميع الدول المتقدمة تتكاثف فيها جهود علمائها ومتخصصيها مع حكامها لخدمة أهداف التنمية والتقدم وإسعاد شعوبهم للبقاء في مركز الصدارة. في حين نسعى نحن الشعوب المتخلفة -أو حتى السائرة في طريق النمو- في تشتيت صفنا وفتّ عضد قوتنا وتلاحمنا. إنّ مَن يستدعي مَناهِجَ وفُهوماً غير مغربية لتنزيل أحكام الشرع وفق خصوصياتنا الثقافية والعرفية الزمانية والمكانية، غير متشبع عمليا بفكر المقاصد الذي أبدع فيه جمهور أهل السنة والجماعة، وعلى رأسهم الإمام أبو إسحاق الشاطبي الغرناطي، وغير متنبّه لما يزيّنه المغرضون من إيهام الدعوة إلى تطبيق الشرع بتوفير أرضية له، يُسْتَدْعَى لها تمهيدا التركيز على ما به يتحقق استقطاب أكبر عدد من الأتباع، عبر نقاش التنمية والديمقراطية وما أشبه هذا من المصطلحات المتسعة لمُتعدِّدِ الدلالات والتي تهتم بالحياة بجميع ميادينها ومجالاتها. إذ من شأن الخوض في القضايا المشتركة بين بني الإنسان في العالم وكلٌّ يسخرّها بما يناسب وضعه، من شأنه أنْ يوهم أنّ كلّ من يطرح فَهْماً ما لمقتضيات تنزيلها في واقعنا يملك الحق الذي ينبغي الاستماتة من أجل تحقيقه، خصوصا إن أحاطه وجمّله بقدسية ما. وفي ختام وجهة نظري هذه المركَّزة، أود التنبيه على أنها نتاج تجربة متواضعة بدَأَتْ بفكر معارض بسذاجةٍ لكل ما هو مغربي، مُشيدٍ ببلاهة بكل ما هو أجنبي شرقيا كان أم غربيا، لتستقرّ منذ أواخر دراستي الطلابية الجامعية على اختيار مبدإ نصرة دولتنا وقضاياها، لتقوية مؤسساتنا ضد العدو المغرض الأكبر المتمثّل في المؤامرات التقسيمية والمخططات التفقيرية بشتى ألوانها وادعاءاتها، الساعية للإبقاء على تخلفنا وتبعيتنا الدائمة لها. كل هذا بآلية التدرج الواقعي المنطلق من مكتسباتنا الذاتية وقدراتنا الحقيقية لا المتوهَّمَة، بالإفادة من كل إيجابي حولنا وطنيا كان أم عالميا. *جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس