ليس هذا مقام شماتة، ولا مقام تمثيل بروح ومعنى الملك الثالث بعد أن أمكن الله جنده من جسده، بل هو تأمل وتدبر في آيات الله في خلقه، وهي عظة وعبرة وتذكرة لكل من تقلد أمانة صغرت أو كبرت، ليعلم "إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيع"[1]? وإنه تعالى يمهل ولا يهمل، وإن أخذه أليم شديد. وسقط ثالث الملوك، وتطهرت الأرض من رجس الذي عَمَّرَ على كرسي الطاغوتية أكثر من أربعين عاما، لم يرحم فيها شعبه، ولم يذقه سوى علقم الظلم وبأس الحديد ولفح النار. في قصر فرعون إن الذي تابع ثورة السابع عشر من فبراير لَيتساءل في حيرة: بأي ماء طاهر توضأت هذه الأيدي المباركة التي كنست نظام الطاغية كما تُكنس النُّفايات وهو لم يترك ندى خير في بلده إلا سعى في تجفيفه؟ وأين تربَّت هذه الوجوه النيرة بسيما السجود لربها وقد شغل الساقط لِتَوِّهِ شعبَه بحماقاته وأرهبه بجواسيسه ودواسيسه يُحصون على الناس الحركات والسكنات والأنفاس، ويئدون منهم كل ذي روح متوثبة؟ وكيف نجحت هذه الهمم المتطلعة إلى ما عند الله في حفظ ماء وجه "عمر المختار" وتجديد ميراثه والذود عن شعاره العظيم: "نحن لا نستسلم، نموت أو ننتصر" وقد اجتهد الخائن الغدار في طمس صورة رجولة الشيخ الشهيد وإخوانه حتى وصل به الأمر إلى مسح ضريحه من على الأرض؟ وما سر هذا اللهج الدائم باسم الله وبذكر الله في تصريح كل مواطن ليبي، وفي شعار كل ثائر منهم، وفي زفرة كل ثكلى أو أرملة لم يُنْسِها مصابُها التكبيرَ والتهليلَ والحسبلةَ وحمدَ الله؟ ما استطاع نَفَسُ القذافي، وعلى مدى أربعين عاما من ملكه الجبري الذي كان فزال بقدرة الله، أن يُكَتِّمَ شذى عبير الإسلام الفواح من صدور الشعب الليبي المؤمن، وما أفلح كتابه الأخضر الأغبر في نسخ آيات الله البينات المعجزات المفصلات الخالدات الساكنات بين جنبَيْ شعب يحفظ القرآن ويقدس القرآن ويحب القرآن ويرفع القرآن، وخاب أمل البائس التعيس، اللاحق بركب المجرمين من لدن فرعون وهامان، في جذب الناس إلى "قليس" مؤتمراته الشعبية الزائفة عن أن يولوا وجوههم شطر قبلتهم الخالدة. سنة الله لقد وصل حكامنا المتجبرون إلى حال من الحرص على الكراسي وامتيازاتها ومغانمها أنه لا يَعتبر منهم معتبر بمصير رفاقه في الطاغوتية وما أصابهم من مغارمها، ولا تهزه مشاهد هروبهم كما تهرب حُمُرٌ مستَنْفَرة فرت من قَسورة، ولا تحدثه نفسه بتوبة وهو يتابع محاكمة المخلوع الذليل كما يحاكَم المجرمون القتلة على رؤوس الأشهاد، ولا يرعبه قتل نيرون عصره، على أيدي من وُلدوا وترعرعوا في قصره ورضعوا لبان استبداده، كما تُقتل الجرذان في ميازيب مياه الصرف الصحي التي كان يتوعد بها أبناء شعبه فكان جزاؤه من جنس وعيده. ويبدو أنه لو عُلق على المشانق، مِن هؤلاء الحكام الكاتمين أنفاس شعوبهم، المستبدين فيها، المتألهين عليها، المتجبرين فيها، عشرون أو ثلاثون أو أربعون، لما خطر على قلب الْمُفْلِتِ منهم إلى حين أنه مَعْنِيٌّ بما تراه عينا رأسه وتكفر به عينا قلبه، إن كان له قلب، طمعا بل يقينا زائفا أنه هو الاستثناءُ منهم. لقد قعدتْ أعجاز هؤلاء المستبدين سنوات طويلة على فوهات براكين تغلي غليانا، حسبوا أنهم بهذا يخنقون نيرانها المتأججة ويكتمون أنفاسها المتصاعدة، حتى إذا عظم الضغط، وهم لا يشعرون، واستحال الانتظار، ونفِد خزان الصبر على الظلم والجور والفساد والاستبداد، ثارت الأرض تحت أقدامهم ثورتَها، وفارت البراكين من تحت أعجازهم فورتَها، فانفجرت بالقاعدين عليها الغافلين الناسين الآمنين مكر الله... والله خير الماكرين. هل ينتصحون؟ ما نفعت، قبل نحو أربعين عاما، النصيحة الخالصة، من رجل صادق مفرد أعزل إلا من معية الله تعالى، الملكَ الذي توسط بحرَ مُلْكِه وتوسط بحر عمره بعد أن أمهله الله تعالى ليعتبر ويتوب بعد رسالتين وإشارتين وإنذارين واضحين، وما نفعت النصيحة ملك النيل الذي تجاوز عمره الثمانين وهو يطمع في نسيئةِ مُلْكٍ لا يبلى ولا يزول يجدد به لذة التأله على العباد، وما نفعت النصيحة الحاكم المجنون بلقب "ملك ملوك إفريقيا"، إذ كان عليه أن يعتبر من رفيقيه الهارب والمخلوع، وما نفعت النصيحة عبد هواه الطالح الذي رأى يقين الموت بعينية فأنساه طمعُه في الحكم عظةَ الأرض والسماء، وما نفعت النصيحة حاكم الشؤم في الشام وهو يرى يد الله تعمل في عروش رفاقه الظالمين تنتزعهم انتزاعا الواحد بعد الآخر... ولا يظهر أن النصيحة وجدت لها أذنا منتصتة مِمَّنْ فتح أبواب حكمه بيد كانت بعدُ بيضاء بريئة من ظلم سابق، فلما رسخت الأقدام فيما يُظن أرضا ثابتة آمنة مستقرة، واطمأنت النفس إلى ما لا يُطْمَأنُّ إليه من أحاديثها وهي كَذوب، واستأنست بنفثات شياطين الإنس الحوامين وهي لَعوب، انكشفت الحجب عن غير الموعود المأمول، وعاد كل إلى أصله، والعِرْقُ دسَّاس... ولا يظهر أنه سيجد الباقي الزائل من الحكام غير ما وجد الملوك الثلاثة من شعوبهم: هربًا أو خَلْعًا أو قتلاً... إن نصر الله آت إن نور الله لا يخبو مهما بدا للظالم أنه أفل، وإن شمس الحق لا غروب لها ولو خيل للمستكبرين، من شدة عماهم عنه، أن الفجر الصادق المنبثق من ليلهم الكالح لا طلوع له، وإن روح الإسلام وإنْ تُغَرْغِرْ في جوف الشعوب غَرْغَرَتَها فإنها ليست علامة موتها، بل هي علامة موت الخوف المقيم في أركانها زمنا وإن سكن جسدها... إلى حينِ يدعوها داعي الحق إلى مهمتها التاريخية العظيمة، بأيد متوضئة بماء الإيمان، وصدور مشعة بنور القرآن، وجباه متلألئة بسيما الإحسان، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ سورة الحج/54. [1] - رواه النسائي.