عبّر عدد من القضاة عن استيائهم مما اعتبروها "تصريحات خارجة عن اللباقة، ومتحررة من كل احترام مفروض لاستقلال السلطة القضائية"، والتي صدرت خلال الأيام القليلة الماضية عن بعض الجهات السياسية والحزبية في معرض تعقيبها على أحكام غرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء في ملف "معتقلي أحداث الحسيمة". وأوضح مصدر قضائي، في اتصال بهسبريس، أن القول "بأن الأحكام قاسية من عدمه يحتاج إلى معرفة دقيقة بمبدأ تفريد العقاب الممنوح للقاضي الجنائي، كما يتطلب معرفة وافية بالتكييف القانوني للجرائم المرتكبة، وكذا الحدين الأقصى والأدنى للعقوبات المقررة، فضلا عن الاطلاع على الظروف المخففة أو المشددة التي ينص عليها القانون أو تلك التي تخضع للسلطة التقديرية للقاضي". المعيار المحدد للأحكام القضائية، يستطرد المصدر نفسه، "لا يستند إلى العاطفة أو الاعتبارات السياسية والحزبية أو المزايدات المجانية على العدالة، وإنما تؤطره تدابير قانونية دقيقة، وآليات تشريعية محددة، علاوة على الاقتناع الصميم للقاضي الزجري". "ملف "أحداث الحسيمة"، قبل النطق بالأحكام الابتدائية في حق المتابعين فيه، استغرق أكثر من سنة من المناقشات والإجراءات القضائية؛ فقد تطلب أولا مباشرة أبحاث وتحريات تمهيدية من طرف الشرطة القضائية، وأنجزت النيابة العامة محاضر الاستنطاق وتقدمت بملتمساتها ودفوعاتها الشفوية والكتابية. كما أجرى السادة قضاة التحقيق استنطاقات ابتدائية وتفصيلية مع المتهمين، قبل أن تعقد المحكمة ما يناهز 90 جلسة محاكمة، لتؤسس قناعتها التي سمحت لها بإصدار تلك الأحكام، ثم يأتي في الأخير شخص أو جهة ما لم تطلع على الملف القضائي وتزعم بأن الأحكام كانت ظالمة أو قاسية. إنه منتهى التضليل والتجني على الحقيقة"، يردف المصدر القضائي. كما تساءل المصدر مستغربا: "كيف يمكن تقييم الحكم القضائي والجزم بأنه قاس وظالم والجهة التي تصدر هذه المواقف والتصريحات لا تتوافر لها الصورة الكاملة عن الملف، خصوصا الخسائر المادية والبشرية المسجلة، والإصابات التي لحقت بالضحايا ومطالبهم المادية، وملتمسات النيابة العامة وطلبات دفاع المتهمين...الخ"، قبل أن يؤكد في الأخير أن هذه المواقف والتصريحات "تبقى مجرد أحكام قيمة تفتقد إلى التقعيد القانوني والمنطقي". وشدد أيضا المصدر القضائي على معطى أساسي مؤداه أن "القاضي يأتي إلى المحكمة مُحملا بمسؤوليات جسيمة، لا يدركها أصحاب المواقف المتسرعة والمزايدات السياسوية؛ فهو أولا مسؤول أمام خالقه تعالى، ومسؤول أيضا أمام القانون الذي يُذيل الأحكام بأوامره، وهو مسؤول كذلك أمام جلالة الملك الذي ينطق بالمقررات القضائية باسمه، كما أنه يبقى مسؤولا في الأول والأخير أمام ضميره، الذي يتحكم في تشكيل قناعته الوجدانية التي يتأسس عليها حكمه النهائي". وطلب المصدر ذاته ممن يزايدون على استقلال السلطة القضائية، ومن تسرعوا في إصدار تلك الأحكام الجاهزة "أن يطلعوا جيدا على وثائق ملف أحداث الحسيمة، وأن يستمعوا إلى جميع أطراف الدعوى بتجرد عن المزايدات السياسية والأجندات الحزبية والمصالح الشخصية"، وزاد متسائلا: "كيف سيكون الحكم وقتها؟ أكيد أن السجن النافذ في حدود 20 سنة بالنسبة لمن حرض على القتل العمد وإضرام النار وغيرها من الجرائم الخطيرة...سيكون مُخففا وليس قاسيا أو ظالما كما يزعمون". وختم القاضي تعقيبه بأن "الحكم القضائي يحمل صيغته التنفيذية في منطوقه، بحكم القانون"، وبأن "لكل شخص يعتبر نفسه متضررا من حكم المحكمة أن يطعن فيه أمام المحكمة الأعلى درجة، وأن يسلك المساطر القانونية المقررة تشريعا، وهي ضمانات أفردها المشرع المغربي تكريسا للمحاكمة العادلة؛ أما المزايدات السياسوية والتصريحات العدمية فلن تؤثر في قناعة القاضي الجنائي، ولن تمس باستقلال السلطة القضائية التي كرسها الدستور المغربي، وجعلها سلطة دستورية مستقلة عن باقي السلط وعن كافة الإملاءات والتأثيرات الخارجية"، على حد قوله.