بكثير من الترقب والاهتمام تابعنا نتائج التصويت على البلد المستضيف لنهائيات كأس العالم 2026 لكرة القدم. ومرَّة أخرى لم تبخل علينا الساحرة المستديرة بإعطاء الدروس والعبر، وتُذكّرنا بما تعانيه الإنسانية جمعاء من أزمة في القيم تجعلها لا تستكين إلى ما حققته من تقدم مادي وتكنولوجي غيّر وجه البسيطة. لقد غلبت لغة الأرقام من جديد ولم يُنظر أبعد من الأرباح والعوائد المالية. أجل، ... يمرُّ الوقت ونزداد يقينا بأن ملكوت الله على الأرض لا يزال بعيد المنال، ما دام التقدم في نظرنا مرتبط فقط بالأمور المادية. وهذا ليس حكرا على الشركات والمؤسسات المالية والدول والمحافل الأممية، فحتى الأفراد والأسر والمجتمعات تقيّم تقدمها ورفاهيتها بكل ما هو مادي، متجاهلة أو غير مثمّنة لكل ما هو روحاني في حياتها. المغرب كان مدركا لكل النقائص المتعلقة بالبنيات التحتية والأمور اللوجستية، ولكن الأمل كان معقودا على ما تقدمه فرصة الاحتضان لهذا "العرس الكروي" كما يحلو للبعض تسميته، لأجل تسريع وتيرة النمو التي هو منخرط فيها بالأصل، وكان يعوّل على قيم التكافل والتضامن بين الشعوب التي من المفترض بها أن تسعى من أجل تعادل الفرص وتقسيم عادل للثروات بين الأمم. وهنا علينا أن نطرح أكثر من تساؤل: هل هذه الشعوب هي من تعبر عن رأيها، أم هي مجرد مؤسسات لا تمثلها بالأساس، هي من تدلي بدلوها وتختار حسب ما تمليه عليها المصلحة المادية؟ وهل أصلا كرة القدم، اليوم، وسيلة لنشر قيم التعايش والتضامن والعمل الجماعي ومحو الأنانية والعنف والتعصب، أم هي تجارة دولية تدرّ أرباحا طائلة تبقى محصورة في يد أقلية متحكمة في قوانين اللعبة ودواليبها؟ ثم هل هذه القيم هي موجودة أصلا بهذا المنظور الإنساني الشامل؟ لكن ونحن نتحدث عن القيم العالمية، لننظر في أنفسنا قليلا ونسأل ضمائرنا: ألسنا مشاركين في كل ما يحصل؟ ما مدى تشبعنا قبل غيرنا بكل هذه القيم النبيلة؟ ألا يعمل كلّ واحد منّا ويجتهد ويتمنى أن يحقق المال والثروة قبل كل شيء، غير مبال أحيانا بالأعراف والقيم، وأحيانا أخرى يغض الطرف عن الغش والتجاوزات والاختلالات والطرق الغير المشروعة؟ ألا تحث كل أسرة أبناءها على نيل أعلى النتائج والنقط التي تخولهم دخول المعاهد العليا حتى يكون لهم شأن ومكانة مرموقة وأيضا لكي يحققوا المال والثروة، وغالبا لا يهمها المستوى الثقافي والحسّ الفني لدى أبنائها، بل وأحيانا حتى الجانب الأخلاقي ما دامت النتائج الدراسية متميزة؟ وفي مجالس العائلات وحديث المأدبات لا تسمع سوى عن فلان الذي يملك كذا وكذا والذي اشترى وشيد وبنى، وعن فلانة التي تزوجت من ثري وارتاحت من هم الدراسة التي لم يعد لها نفع ولا قيمة. أما حين يتعلق الأمر بالمصلحة العامة وخدمة المجتمع تجد نفسك تغني منفردا في واد جبلي يُسمعك صدى صوتك ويُشعرك كم أنت حالم ووحيد عصرك. هذا هو حالنا باختصار، فكيف تدهشنا أحوال العالم وتصيبنا بالحيرة والارتباك؟ إنّ الاهتمام بالجانب المادي ليس عيبا في حدّ ذاته، بل إنّ الوسائل المادية ضرورية في حياتنا ولا يمكننا الاستغناء عنها أو تحقيق التقدم والرقي بدونها. لكن ميزان الوجود يستدعي مراعاة جوانب أخرى لا تقل أهمية. فالقيم والأخلاق وكل الجوانب الروحانية تمدنا بالبصيرة اللازمة لتحقيق هذا التوازن وجعل العلاقات الإنسانية سويّة وعادلة، بل ومفعمة بالمحبة والتضامن. وإذا غاب هذا التوازن يصبح العالم مرتعا للاستهلاك الجشع واستغلال الثروات بانتهازية وأنانية، ويستمر الصراع المحموم حول النفوذ والثروة، ويستمر بذلك استنزاف الموارد الطبيعية وتدمير البيئة المحيطة بنا دون اهتمام أو تفكير بالأجيال القادمة. فإذا آلمنا هذا المعيار المادي المحض الذي بنت عليه أغلبية الدول المصوتة اختيارها، متجاهلة كل قيم التكافل والمساواة والعدالة الاجتماعية، لنجعل من ألمنا وحسرتنا دافعا يشدنا نحو النهوض بقيمنا، لأننا نكون قد تقاسمنا نفس الشعور مع فئات من المجتمع. إنها فرصة لتقييم ما حققناه من نتائج طيلة الفترة الماضية، مثمنين كل الإنجازات الهائلة، لكن مدركين بأن ما بقي أعظم، وأن طريق النمو معالمه كثيرة ولا زلنا في مستهلها. ولنستثمر في تربية وتعليم الأجيال الصاعدة ونزرع فيهم قيم المحبة والتعايش والتضامن والعمل الجماعي، ولا يبق تركيزنا منحصرا في البنية التحتية ومصادر الطاقة والموارد المالية على الرغم من أهميتها. إنّ التقدم في هذا العالم طائر بجناحين، الأول مادي والآخر روحاني وأخلاقي. فكيف يطير ذو الجناح الواحد؟ [email protected]