لم تكد تهدأ الجلبة الكبيرة التي صَاحَبَتْ انتشار فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي، قيل إنها تُجَسِدُ ملائكة تَنَزَّلَتْ في شهر رمضان لجواب دعاء المقهورين، إلى أن تفاجأ الرأي العام المغربي مجددا بفيديوهات بُثَتْ من منطقة سرغينة ببولمان، يظهر فيها شخص خطيب رافقه الآلاف، صوب قمة جبل، بحثا عن كنز يُخَلِصُهُمْ من العوز. الانتشار الواسع الذي لاقته هذه الفيديوهات جعل العديد من المتتبعين يَجْزِمُونَ أن المغاربة، ورغم إقبالهم الواسع على نمط الحياة السريع، والتكنولوجيات الحديثة، إلا أن بِنْيَتَهُمْ الذهنية لازالت قابعة في كنف الأسطورة، وفكر الخرافة، بالعودة إلى استحالة تصديق معطيات من قبيل تواجد كنز بمنطقة معينة، ونزول الملائكة بشكل مجسد. وعزا المعلقون ما يجري تصديقه في الوقت الراهن إلى سيادة التسطيح وامتزاج الدين بالخرافة داخل المزاج الشعبي المغربي، ما يُسَهِّلُ تصديق مثل هذه الأمور، لانطلاقها من تراكمات تاريخية جعلت المواطن المغربي قابلا للتلقي السريع دون تفكير ولا تمحيص استباقي، عندما يتعلق الأمر بالغيبيات. وفي هذا الصدد يرى يونس لوكيلي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن "الفيديو الأول عن الملائكة الذي جرى تداوله يُمثل إحدى الظواهر الطبيعية التي يُمكن تفسيرها بمنطق مادي"، وزاد: "راج بين الناس من يقول إن الأمر يتعلق بأضواء متعددة منبعثة من بنايات معينة أو أنشطة ترفيهية، وهو التفسير المنطقي المعقول؛ لكن الذي ساد أكثر هو تفسير ديني، فوق طبيعي، أي تحليق الملائكة في السماء. وجاء هذا التفسير نظرا للأجواء الروحية الكثيفة التي تُميز شهر رمضان، فهو زمن مشحون بمعان مقدسة، لكون الثقافة الدينية السائدة تتحدث عن تصفيد الشياطين خلال رمضان، وأن الأرواح الخيّرة تَجُوبُ الأرض والسماء". وأضاف لوكيلي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "تفسير الأضواء بتحليق الملائكة غير بعيد عما تُتيحه الثقافة الدينية السائدة في المجتمع المغربي، التي تعتقد بالجن والملائكة، وتَدَخُلهمْ الخارق في الحياة بين الناس، وفي الوقت نفسه يُعَبِرُ عن أن عناصر الغيب/ ما فوق الطبيعة جزء لا يتجزأ من تفكير المغاربة اليومي"، وزاد: "العقل عندما يَعوزه التفسير المنطقي الكافي لإحدى الظواهر الطبيعية يلجأ إلى مرجعيات بديلة، تكون إما دينية أو سحرية، ليَحصل على معنى متكامل يُخلصه من الحيرة والقلق". من جهة أخرى، أورد لوكيلي أن "هناك ثلاثة عناصر أساسية لفهم معطيات كنز سرغينة، وتتمثل في الداعية (الشاب) والجماعة (سرغينة) والثقافة (شيوع ثقافة الكنز المدفون)"، مردفا: "لا شك أن للداعية قدرات معينة: مستوى تعليمي، مؤهلات خطابية، وربما حظوة نَسبية في البلدة؛ لكن هذه الخصائص لا تكفي وحدها، فالجماعة هي العنصر الأهم، من خلال ثقتها في داعيتها، وتواطؤها اللاشعوري على التوافق الجماعي لتصديقه، لأنه يحمل آمالها وتطلعاتها، حتى وإن كانت وهمية". وأشار المتحدث إلى أن "جماعة سرغينة صَنَعَتْ داعيتها للتعبير عن حاجات اقتصادية، وإن بشكل رمزي؛ أي إن الداعية قام مقام الجماعة في الدعوة، مع استثمار ثقافة الكنز السائدة في العقل المغربي التقليدي لتكون الأداة للتعبئة". وسجل لوكيلي أن "هناك حاجات اقتصادية حقيقية عَبَرَتْ عنها الجماعة، تَتَمَثَلُ في الحاجة إلى الثروة، الرفاه، التنمية؛ وأن يأتي التعبير عن هذه الحاجة من خلال الرجاء في ما "تحت الأرض" مؤشر على فقدان الثقة في الحصول على هذه الحاجة من "فوق الأرض""، وفق تعبيره. "الحدث استثمر أدوات تقليدية (الكنز) لتشكيل شكل احتجاجي جديد على سوء توزيع الثروة، وعلى انقطاع الرجاء في تحقق العدالة بوسائل مرئية تعاقدية، فلسان حال الجماعة يقول: سألتم: أين الثروة؟ نحن نعرف أنكم لن تعطوننا منها شيئا، إذن، فلنبحث عنها تحت أقدامنا"، يختم المتحدث ذاته.